صحيفة المثقف

من قتل الرفيق؟

قصي الشيخ عسكرمن قتل الرفيق راجي المزروع؟

لو كنت أعلم لأخبرتك.

لكنك حضرت مصرعه.

يجب ألا أنكر يبدو أن هناك من رآني فكتب:

ذهبت إلى هناك فوجدت الجثة في الخربة وحاولت أن أدفنها فخشيت من المسلحين.

لماذا ذهبت!

مجرد فضول." وأضفت مؤكدا" أنت في محلة كل واحد فيها يعرف الآخر لابد أن تخرج حين تسمع ضجة في منطقة ما من محلتك لتعرف ما الأمر.

- من رأيت هناك؟

- حشداً من الناس!

- كم عددهم؟

- الله أعلم خمسون مائة أكثر؟

- من أين كانوا يأتون؟

من طرق فرعية ومن الشارع العام ومن جهة كردلان والجامعة القديمة "ولذت بعبارتي أعيدها"إن أي حدث مثل ضجة عن بعد أو إطلاق نار في مكان ما لابد أن يثير فضول أهل التنومة فنحن مثل العائلة الواحدة.

- حيوان أعرج لا تجترّ الكلام،أتتذكر بعض هؤلاء؟

تعود ذاكرتي ثانية للأسماء التي هربت نحو الحدود والميتين فما على الذاكرة إلا أن تحتفظ في سطوعها بأسماء كل الغائبين من هاربين خارج الحدود وميتين وتنبش عن أسماء جديدة غائبة،أتشبّث بها ولا أنساها،ويسأل:

- من دفن الرفيق؟

- لاأدري ولو رأيت عائلته أيام المحنة لما ترددت في إيوائها.

سمعت عفطة طويلة وضحكا هستيريا وكانت كفُّ المحقق تقع على رقبتي:

صاير حاتم الطائي لك خراء،أعرج الشؤم،والرفاق خالد ومضر وجندب وأبو إيمان الذين سماه الغوغائيون أبا لهب من قتلهم؟

أنتبه إلى مغالطة في مصلحتي فأقول:

- سيدي أنت تعرف أني معاق لا أقدر أن أجاري مشي الآخرين ولاأعرف استخدام السلاح فكيف أطارد كل هؤلاء الابطال ولم أفعل ذلك أهذا يعقل والله لا أقدر ولو كنت غير ذي عاهة.

رد علي بصلافة سبقتها ركلة وقعت أسفل ظهري:

- لك حيوان أنا لم أقل إنك فعلت ذلك بل من فعل هذه الجرائم!

وعدت إلى أسطوانة قديمة صممت أن أبدأ بها كلما وجهوا إلي تهمة التمرد:

- كيف يمكن لشخص لايعرف استخدام السلاح أن يخرج إلى شارع مضطرب لقد بقيت في البيت كل أيام المحنة ماعدا مرة أو مرتين ذهبت فيهما أشحذ طعاما للعائلة!

مرت فترة صمت فتحدث مع أشخاص خلتهم على بعد خطوات منا:

- حسنا انتهينا منه اليوم خذوه!

اقتادني الحارس إلى الردهة المظلمة المعتمة التي ندخلها بعد البوابات الثلاث العملاقة، وعندما وصلت دفعتني كف غليظة إلى الداخل. بقينا لحظات صامتين وقبل أن يختفي الرجل قال مهددا:

- أحدكم أخوه ضابط شرطة اتصل أمس متشفعا له عند قاضي الأمن. أنا صاحبكم المفوض أبو سيف أقول لهذا الشخص سوف يكون عذابك أكثر من غيرك وكل واحد يفعل مثلك نضاعف له حصة العذاب!

جلست القرفصاء إلى ثاني يوم ..يداي تعانقان ركبتي.. ولا تتنمّل رجلي المعاقة..لا أتعب مرتاحا لأيّ وضع اخفّ من مواجهة المحققين وقسوتهم..يمكن أن أرتاح لهذا الوضع لوبقيت أسبوعا أو أكثر..ولم يكن بإمكاننا وسط العتمة أن نتحدث بصوت عال خشية من أن يكون في الصالة جهاز ما يتنصت فضلا عن أنه لم تكن لنا الرغبة في الكلام من شدة التعب والآلام:

- من أين أنت؟

يميل على أذني اليسرى سجين يجلس جنبي.

- من التنومة وأنت؟

- المعقل.

- هناك شخص معنا من أهل التنومة.

بدأ الشك يساورني في محدثي:

- يستحق إن كان من الغوغاء أيّ عذاب " وأستدرك" والله في عونه إن كان بريئا!

عليّ أن أعرف من نبرة الأصوات أشكال محدثيَّ الهامسين في أذنيَّ جهة اليمين والشمال وجوه أصحابها وسحنة أشكالهم.قد ألتقي في الشارع مصادفة إذا نجوت أحدهم فلا أدري أنه هو من كان جنبي في هذا السجن:

- الله في عون الجميع.

وضعت في بالي أن يكون معنا بعض الجواسيس الذين يمكن أن يستدرجونا عبر الهمس والصوت الخافت فأعرضت عن الكلام متظاهرا بالنوم طوال الوقت. وقت الغداء حصلنا على كسرة خبز وكأس ماء. ثاني يوم في الليل بدأ التحقيق معي من جديد:

- عبد الله عبد الله!

نعم!

صفعة قوية على صدغي:

- كم مرة قلت عبد الله؟

اثنتين!

- إذا ً لم اجبت بنعم مرة واحدة؟

لزمت الصمت،وواصل:

- أتظنني أهذي أم ماذا؟

مازلت صامتا وكان يقول:

- ابن عبد الرحيم أمك تفيدة وأبوك عبد المعطي اعترف أحسن!

أقسم لك أني لو كنت أعرف شيئا لقلت ولو كنت مذنبا لهربت مع الذين هربوا إلى إيران!

- عبد الله بن عبد الرحيم ألم تكن مسؤول إذاعة شط العرب؟

- أنا؟ أنا؟

- نعم أنت أنت هل تستغرب؟

كأنه ازدرد شيئا ما وعاد يضيف:

- هناك من اعترف عليك؟

- سيدي أنت صاحب عقل كبير ولو لم تكن صاحب عقل كبير لما احتللت هذا الموقع أنا شخص لم أكمل المرحلة الثانوية ولا أحسن استخدام السلاح، ولم أذهب للجامع إلا مرات معدودة مع والدي وبعد وفاته فكيف أحتل منصب مسؤول إعلامي في إذاعة؟ أهذا يعقل؟

- من إذا ً تولى الإذاعة؟

- هل تسمح لي بسؤال؟

شيء صلب ينكز خاصرتي لاأدري أهو حذاء أم اسطوانة:

- أنا من يسأل وأنت تجيب فقط! وأردف : مفهوم؟

- مفهوم!

بصفعة على رقبتي:

- مفهوم سيدي!

- مفهوم سيدي

- ما الذي تريد قوله؟

- ألم يأت رفيق هنا من أهل التنومة رفيق،استدعيتموه، لا أتذكراسمه إلا سلام عابر معه مصادفة على الطريق شهد أنه لم يرني؟

- ألف رفيق تحت حذائي وسوف تموت بركلة من قدمي إذا لم تخبرني أين كنت ساعة إذاعة البلاغ؟

- كنت في البيت.

ماذا كنت تعمل!

لاشيء غير المرض أستند إليه في حجتي:

- في الفراش أمر بفترة نقاهة من روماتزم داهم رجلي المعاقة قبل أسبوع من أحداث الغوغاء لكني في اليوم ذاته جربت أن أمرن رجلي من رقاد طويل في الفراش.

تعليق ساعتين..ضرب بالأسلاك. انزلوني .أدخلوني أحد الدهاليز.شعرت أنها حجرة صغيرة .فتحوا يدي، وأمروني أن أخلع حذائي و صرخ بي صوت :

- ضعه في فمك!

انصعت للامر وما كدت أنتهي من خلع الحذاء حتى أمرني آخر من الجهة المقابلة:

- عضه جيدا.

متكئا على الحائط كنت أو هي الوضعية التي أرادوني أن أكون عليها، وما زلت منتشيا بجلسة البارحة التي تخفف من المي،رفعوا رجلي إلى الأعلى.فلقة.. جلدة وثانية وثالثة وأخرى،وفي رغبة جامحة للهرب حيث يتسع النسيان فيجعلني أنسى. أتجاهل .. أتشبّث بمشاهد قديمة ، ألوذ بطرقات مشيتها وأخرى لم أدخلها..مر بي ترنتي وهو يدخن السيجار ويصرخ:kiss kiss كنت أجمع الإثنين : تيمورلنك وجنرالا دخل حربا سريعة..وكان ثمة كامل الرامي وفلم القادسية وتعليقه على المسألة الكبرى.مالنا وللمسألة الكبرى؟ الممثل العربي لايجيد ركوب الحصان مثل الممثل الأمريكي ..أنصت جيدا لنكات الأستاذكامل الرامي وهو يطلب من الخميني أن يصدر فتوى بحلية العرق أو يضع شرطا لكي يصلي بأن يُحذف من القرآن اسم كوثر أو وهو ينتقص من الدنيا جميعها فلا يستتثني أحدا أو أقصد المرفأ ومعي الشص والطعم هناك على ألواح الجسر الخشبية أراقب الفلينة تغطس فتعتريني لذة الفرح لسمكة الشانك وهي تعلق بالسنارة، وأمي لايهمها السمك الطازج اللذيذ بل الخوف عليّ من خطر النهر:

- لاتذهب مرة أخرى المكان خطر،والخشب لزج..الأصحاء لا يغامرون ماذا لو انزقت بكرجلك إلى العمق!

اقول بلى لكني أذهب مرة أخرى، وأنا في كل مرة أنكر وألوذ بالماضي وصوره الأخرى التي ابتلعتها الزنزانة فلم أعد أشعر بالضرب وكأن رجليَّ انتفختا فأشعل أحدهم سيجارة ووشمهما مرات . إحساسي بالحرارة والضرب مفقود.باطن رجلي انفصل عني.

تساوت الرجلان ثم اختفتا من الالم.. صرخ بي صوت:

- انهض ! انهض حيوان!

ولما وقفت صاح الرجل الواقف في الجهة المقابلة:

- راوح حقير!

وأكثر من صوت يزجرني:

- راوح راوح

المراوحة وشرر يتطاير من عينيّ. بدأت الحرارة تدب في رجلي، أولّ ما استفاقت رجلي المعاقة.عندما وصلت إلى هذا المستوى بدأوا الكرة من جديد.دام التعذيب بحدود ساعة.فلقة..تورم.. تجاهل للألم مع كاري كوبر وترنتي والهرب إلى السوق أو السينما أو المسجد.ذكرى والدي..أمي..أي شخص..أي مكان كان.أمي تزورني.أبي يطلب مني أن أهبَّ معه للصلاة.كامل الرامي ينتقد مرّة أخرى بسخرية لاذعة أفلام الحرب السريعة.وعن بعد يلوح لي كاري كوبر بقبعته، وآخر يتابع عصابة عاثت بإحدى المدن..انتفاخ.. وشم بالسجائر..مراوحة مرتين..ثلاث مرات..المرة الخامسة صاح الضابط:

علقوه على حافة الباب!

هذه المرة بقيت حافيا.يبدو أن الباب كان أوسع من باب غرفة التحقيق. ما ما عليَّ إلا أن أبقى معلقا على الباب وأحفظ توازني، فلا أقع ولا تلمس رجلاي الأرض أو حافة الباب.كنت أصبر بضع دقائق ثم أنسى أن لي رجلين.وحدهما تلتصقان بالباب وتهبطان على الأرض، وكل مرة مع أي التصاق أو هبوط يعود الجلد..جلد فوق الرجلين وصعق كهربائي على الرأس وفي الأذنين.أربع مرات تكررت الحالة،فلم استطع حفظ توازني أكثر من ربع ساعة.كنت أصل إلى لحظة تتحرك فيها رجلاي لوحدهما نحو الباب أو تهبطان إلى الأرض.رجلي المعاقة آخر ما يغيب من جسدي وأول مايستفيق وفي المرة الخامسة قلت:

- أعترف!

نزلت. ارتحت قليلا. م أعد أخاف من شيء. ما الذي أتحدث عنه.قلت:

- أمل علي ماتريد وسوف أوقع لكم!

زادوا الضرب.تعليق من جديد،وضرب عدوني أسخر منهم ..حيلة كي ألتقط أنفاسي بضع دقائق.وأنا أصيح :

- أعترف! نعم!

- قل ماعندك.

ارتحت قليلا ثم قلت:

- لقد ذهبت إلى المسجد لاأنكر ذلك. نعم ذهبت إلى هناك!

- تذيع بلاغا؟ أم تهيء الجامع للغوغاء أم ماذا؟

- كلا.أنت تعرف البلد بأزمة.لاماء لاطعام لارز، وفي بيتنا نساء وطفل.خرجت أبحث عن طحين وبعض الزيت.سألت في الشارع عن بعض الطحين فقال لي الناس إنهم يوزعونه هناك في الجامع، ربما في الطريق قابلت من دون أن أنتبه الرفيق الذي جاء أمس وشهد أنه لم يرني أحمل سلاحا،وعندما وصلت قال لي من يتولى شأن التوزيع إن الخبز لم يصل بعد!

   كذبة أخرى..

تمثيلية قد تمرّ لكنها تزرع الشك بين الصدق والكذب عند هؤلاء.ليتني أستطيع رؤية وجوههم بوضوح.ترتيب لأحداث وفبركة ساعدني فيها صديقي القديم كوردن مشن.وأظن أنها قد تنطلي على محقق ذكي لكن هؤلاء لايستخدمون عقولهم بقدر قبضاتهم فكل مايدفع الشبهة ينفع، وأنا على الأرض أستقبل الضربات والركلات ثم تتوقف الأرجل والأيدي ليسمعوا حكايتي:

- وبعد؟أكمل

- جاء الخبز بعد انتظار ربع ساعة؟

- أعطوك؟

- نعم! " وأضفت أفبرك الحكاية" أحدهم قال لي إنك لاتستحق المساعدة. سألته لماذا؟ فأجاب إنت لست من الثوار هكذا كان يسميهم.

ركل وضرب وعفطات، وسكون:

- كم مرة ذهبت إلى الجامع؟

- مرتين!

مرتين فقط؟

في هذه لم أكذب مرة أذعت بلاغا ثمّ حملت سلاحا فارغا وانشغلت مع الرامي..أصبحت جنرالا بعينين..ومرة ذهبت فوجدت بيت الله مكتظا بالغبرباء:

- نعم!

- من رأيت في المسجد؟

هنا لم يتدخل أحد. ذاكرتي وحدها سطعت فجأة، فذكرت اسم ثلاثة ممن رأيتهم مسلحين في الشارع وقد قتلوا عند اقتحام الجيش للتنومة أما عوائل هؤلاء فقد هاجرت إلى إيران، وصاح الضابط:

- والباقون؟

- الباقون ملتحون غرباء لاأعرفهم لعلهم عرب من الأهواز أو عملاء:

- ذكرت أنك خرجت إلى الجامع لتطلب طعاما لعائلتك وبقية الأيام؟

- كنت أتحاشى مغادرة المنزل بسبب الخطر والفوضى ثم إنها رجلي التي تمنعني من الخروج " واضفت" سيدي أنا كنت معفى في المدرسة من درس الرياضة،ولم أكن لألعب كرة القدم فكيف أخرج وأحمل سلاحا.

- من رأيت وأنت في الطريق؟

مَنْ مِنَ الموتى ينجدني تلك اللحظات العصبية؟نبشت ذاكرتي..ومن غير الرفيق الذي برّأني قبل قليل وبعض النسوة وغوغاء ذكرت أسماءهم سقطوا صرعى والرفيق راجي المزروع الذي يمكن أن أدّعي أني ذهبت مع الرامي لدفنه.عودة للضرب والركلات، تعليق آخر بالباب، ثم نزلت، وهناك أمر بصيغة تحذير وسؤال:

- خذ وقع على اعترافك!

الحمد لله الخطوة الأولى مرت بسلام، والحكاية لاتعيبها ثغرة.انفتحت بعدها البوابات الثلاث،فاستلمني السجناء. رفعوا العصابة عن عيني وسارعوا يدلكون رجلي.همس صوت باذني:

- نحن نسمع صوتك!

ورد آخر: تحمل!

- لاتعترف

حالما تعترف تموت.

فجأة رددت بنرفزة زاجرا محدثي السجين مفترضا أسوأ الاحتمالات:

- ليس هناك عندي من سر أو شيء خطر لأعترف!

بقيت سبعة أيام في سجن شط العرب..كنا نحصل على كسرة من الخبز المصري وقت الظهر وقدح ماء في اليوم،ومع حلول الليل كانوا يقدمون لنا بعض الحساء ولم نكن نعرف ماهو.لم أُعَلَّقْ على الباب خلال تلك الايام بل كان التعذيب ينهال علينا عند الذهاب إلى دورة المياه.ظل الحراس ينزلون علينا ضربا بالسياط على أي مكان من الجسم.كان التعب والإرهاق يجعلاننا نعزف عن الكلام فضلا عن الخوف من أجهزة التنصت. فيشملنا طول اليوم سكون راكد أشد وطأة من صمت المقابر المهجورة، سكون لايحركه إلا بعض الأحلام في حالة إغفاء أو أحلام اليقظة ويزحزحه للحظات صرير الأبواب وهي تُفتَح وَتُغلَق عند تقديم الطعام أو لنخرج إلى دورات المياه فنتلقى ضربا لايقل سوءا عن التعذيب في أثناء التحقيق.

وفي اليوم السابع نقلونا إلى مكان ما.

أول الأمر جهلنا إلى أين نسير.كنا موثوقي الأيدي مربوطين على التوالي. سرنا حوالي المائة متر ،نسيت أني أنوء برجل أتوقع أن تخونني أيّة لحظة..جزء مني قد لا أثق فيه ربما لفت إلي العيون خلال تلك الأحداث، ولعلّه يعلن براءتي،التشبت بالحياة جعلني أنسى كثيرا من الأمور فأبدو أكثر قدرة على التحمّل..وربما سقط أحدنا من الإعياء فرفعه الذي خلفه.عميان يمشون. المشهد القاسي أشبه بعميان نجوا من قدر ألقاهم افي غابةتعج بالوحوش،فمسك أحدهم بظهر الآخر وساروا على غير هدى وكانت ذئاب الغابة تخطف كل يوم واحدا آخر من يمشي في السطر !كنا نشبه عميان تلك القصة.الذئاب ترافقنا ونحن في ظلام تام.أحس كفّاً تمسك بظهري فأدرك أني لست الآخر..هناك أمام الحافلة بعد مسيرة متعبة أحسسنا بالويل.بل رأيناه أكثر من أي مبصر على وجه الأرض.سمعنا سحب بنادق فخيل إلينا أن حكما للموت ينتظرنا.صوت يحثّنا أن نتقدم خطوة إلى الأمام، وإذا بنا نُدفع داخل شاحنة.

مكان آخر!!

حين أزيحت العصابة على عيني ارتحت كأنني أرى الدنيا كلها بنورها وشمسها وصحرائها وهوائها الطلق.سبعة أيام مرّت علي في ظلام دامس ..أسعد اللحظات حين أجلس القرفصاء أجد فيها واحة من عذاب المحققين..فما أراه الآن ليس سجنا بل جنة من نعيم يحيطني في أجوائها النور..الوقت قبل الظهر..عشر دقائق مرت ففوجئنا بجنودٍ سمحوا لنا أن نغسل أوجهنا بالماء البارد. أعطوا كلا منا كوبا معدنيا وكيس تمر.يبدو أنهم كانوا يرحبون بنا وعندما سألناهم أين نحن عرفنا أننا أصبحنا في سجن البصرة المركزي!

السجن المركزي في البصرة!

السجن المركزي المقابل للمستشفى الجمهوري!

إذن كنت مخطئا في ظني فليس السجن الأول هو سجن البصرة المركزي الذي زجوني معصوبي العينين فيه بل الآن أنا على بعد مسافة قليلة من مكان لفظت فيه أمي أنفاسها!

ثم مررنا بقاعات مربعة.مازلت بعد التعذيب العنيف محتفظا بقدرتي على التخمين وأظنني مصيبا حين أقول إن طول القاعة وعرضها 3 أمتار في ثلاثة. هناك بطانيات وقنينة ماء وثلج.عبّأ كل منا بعض الماء في كوبه.لم يكن السجناء الخمسة من أهل التنومة ولا أعتقد أني رأيت أيا منهم قبل هذا اليوم ولعلَّ أي واحد منا دلك جسد الآخر بعد كل تحقيق ، لكننا بقينا متحفظين في الحديث يتحاشى أيٌّ منا أن يسأل الآخر عن اسمه وتهمته. وجه أسمر لجسد ذي سمنه لم تبن عليه آثار التعذيب.ووجه طويل ذو عينين عسليتين تثيران الشفقة. وكان هناك رجل في الخمسين بان عليه الإرهاق وارتسمت فوق جبينه هالة من الحزن.لاأشك أن التعب بان علي أكثر من السجناء الآخرين بحكم المرض وضعف بدني.

والحق أني بدوت وأنا أطالع شكلي في النور أشبه بشبحٍ أو هيكلٍ عظمي ولماَّ أزل أشعر ببعض القوة فلم أتوجس من بدني أو أصب باليأس!

بعد ساعتين تقريبا حضر شرطي من أهل التنومة. فلاح حسن..شعرت بالطمأنينة لوجود شخصٍ من أهل محلتي في السجن.الرجل الثاني بعد المسؤول الحزبي الذي أجهل اسمه وأتبين ملامحه.كادت كلمة منه تجعل رصاصة تنطلق نحو صدري..مازال فيك أيتها التنومة الخير الكثير..قال لي فلاح إن شاء الله أساعدك فترة مناوبتي في السجن.أخبرته بمكان سكننا الجديد ورجوته أن يُطمئِن أهلي ولا بأس أن يحضر لي منهم بعض النقود.وفي العصر جاءت مجموعة جديدة من الموقوفين، فطلب مني أن أصبح وسيطا بين السجناء وإدارة السجن.وظيفة تشبه مراقب الصف في المدرسة. أوصل ما يحتاجه السجناء إلى السجان وأبلغ المسجونين أوامر السجن. اعتذرت بحجة المرض عندئذ قال:سأكلف بالمهمة بدلك المفوض،ونادى بالاسم فأقبل إليه الضخم ذي الوجه الممتليء وكان ذلك أول اسم أعرفه من الجماعة الذين قضوا معي سبعة أيام في السجن السابق!

ثم استقبلت القاعة عشرين سجين آخر في مساء ذلك اليوم!

مر يومان كنا فيهما بأفضل حال.نذهب إلى المرافق وقتما نشاء. نتحدث مع بعضنا من دون أن نتدخل في التفاصيل.عرف كل منا اسم الآخر.جلب لي فلاح بعض النقود من أهلي.وبعد يومين انتهى دورالجيش وتولت مجموعة سيئة من الشرطة مسؤولية السجن. فلاح انتهى دوره.كان هناك من يدخل القاعة فينهال علينا جلدا وركلا في أيِّ وقت دونما سبب.حين يسمع أي شرطي حديثا لنا أو نزرا من الصوت يقتحم الغرفة كثورهائج لا يتشفى إلا أن يهدده التعب من الجلد والركل، ومع ازدياد العدد بدأنا نشعر بالاختناق إلى درجة أني استغنيت عن لف جسدي بالبطانية عند النوم.وكانت أصعب الدقائق وقت الذهاب إلى دورة المياه التي بدأت تطفحكل صباح .الضرب يبدأ حين نخرج خمسة خمسة. المراحيض في صفوف متقابلة من دون ابواب.أجبرنا الحرس الجدد أن يصحب كل منا كوبه لكي ينظف نفسه به.أمرونا أن نملأ أكوابنا بعد أن نفرغ من المرحاض، فكنا نقف بالدور أمام صنبور بالكاد يقطِّر المياه. حين يمتليء الكوب اضطر إلى الجلوس عند دكة الحنفية فأنظف نفسي على مرآى من الجميع.وتجرأ الوسيط المفوض السابق على الكلام راجيا الحرس أن يملأ كوبه قبل الذهاب إلى المرحاض فتلقى ضربة مهولة على ساقه وزجره الحارس:

- الكلب الأجرب لايغسل نفسه ولايحتاج إلى تنظيف الكلب نجس لئن تجرأت ورجوت ثانية أقسم أني أجعلك تخرأ وتبول على نفسك في القاعة! مفهوم؟

- مفهوم!

كنا نذهب بعد الفراغ من المرحاض إلى صنبور مياه في زاوية الممر فنملأ أكوابنا منه.ماء ذو لون أصفر مخضر. بقينا في هذا السجن تسعة عشر يوما.كل يوم يزداد عدد القادمين إلينا.أصبح بعضنا ينام وهو مستند إلى حافة الشباك.وكان الحرس يستدعوننا فيجلدوننا واحدا واحدا بالأنابيب البلاستيكية لمجرد أن يسمعوا همهمة أو صوتا، فتحاشينا الكلام بالمرة.أفضل وسيلة هي الصمت.. الصوم عن الكلام. السكون ركد على أنفاسنا وصمت مطبق برك فوق صدورنا، فأصبح كل منا يتحدث بوجه الآخر ويتخيل لصاحبه قصة شبيهة بقصته هو.ومما زاد في عذابنا أن الحرس أزعجونا بالتعداد. راحوا يعدوننا في اليوم الواحد أكثر من عشر مرات.مع كل ذلك فقد واتت الجرأة الوسيط ثانية على إيصال طلبنا إلى حرس السجن.كان انقطاع الماء من الصنبور ذي الماء الأصفر المخصص للشرب مدة يوم مناسبة لمناشدة الحرس في أن يجدوا وسيلة نتمكن بها من الاستحمام.العصر وصل إلى القاعة " تانكر" كبير. ثم وقف المراقب وسط القاعة يبلغنا خبر المسؤولين:

- الماء فيه زيت. التانكر أساسا لنقل الزيت، والأفضل لأي سجين ذي جروح في جسده أن ينأى عن الاستحمام بذلك الماء!

محال ألاتترك السياط بعض جروح على جسد أيّ منّا.كنا مجبرين على الاستحمام، فغامرنا جمعينا، وللمرة الأولى شعرت أن للماء وظيفة موسى الحلاقة.تقيحت بعدئذ أجسادنا وامتنعنا عن التأوه والشكوى والأنين خشية من العقاب.رحنا نملأ الأكواب بما تبقى من ماء التنكر،أما دورة المياه فقد طفحت وفاضت نجاستها إلى مستوى الممر..وضع الحرس صف آجر معمول من الإسمنت على حافة الردهة فكنا نذهب في طابور إليها والحرس على الجانبين يوسعوننا جلدا لعل أحدنا يختل توازنه فتزل قدمه عن القنطرة الإسمنتيه إلى المكان الفائض..الفرصة الوحيدة لديك كي تتبول أن تصيب ظهر الذي أمامك برذاذ نجاستك ثم تتلقى بظهرك نجاسة الذي خلفك.كان كبير الحراس يعد من الواحد إلى العشرة.وسرعة العد وفق مزاجه..مرة يعد عدا سريعا وتارة يلتقط أنفاسه بين رقم وآخر والويل لمن لم ينته قبل الفراغ من العد.

أحد الأيام جربت حيلة الإغماء. فسمح الضابط - وكان حديث عهد - للمراقب أن يحملني إلى غرفة الأطباء وهم من الموقوفين أيضا لكن الحرس عزلهم في غرفة خاصة. هناك في الغرفة بعض الأدوية الشائعة. باراسيتيمول. أسبرين.. لفافات. رش أحد الأطباء على وجهي الماء.اغتنم المراقب الفرصة وكرع من الإناء.ارتويت أنا أيضا.وعند عودتي من غرفة الأطباء عرفت جيدا أن الهرب محاولة أقرب إلى المحال.وإن علي أن أنسى كل شيء ليس محاولة الهرب وحدها بل الأحلام نفسها والكلام.بعد يوم مثقل بالضرب والإهانة والتعداد المتكرر وضيق التنفس ما على العينين إلا أن تغمضا لتصحوا في اليوم التالي. الخوف من الحلم نفسه. فترة جفاف في اليقظة والنوم وصوم عن الطعام خشية من زلة لسان وخوفا من أن نزعج الحراس الذين هم في نهم للضرب والتعذيب!

بقينا في سجن البصرة المركزي تسعة عشر يوما ثم نقلنا إلى بغداد..

كنا معصوبي العيون طول ساعات الرحلة وفي سجن الرضوانية رفعوا العصائب عن عيوننا..

هناك التقت أعيننا النور مرة أخرى...

***

 

د. قصي الشيخ عسكر

........................

حلقة من رواية: ربيع التنومو

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم