صحيفة المثقف

الزنزانة وأنا..!!

قصي الشيخ عسكرشاي ومربى وصمون!! إذا ً أنا حي ولِلْجَنَّة طعم آخر وهي المرة الأولى التي أذوق فيها طعم الشاي منذ سجني في البصرة. كنا نحصل على الشاي من الجنود الذين عاملونا بلطف ورحمة.بقوا طوال الوقت أليفين معنا ثم بدأوا يكلفوننا ببعض الأعمال..تنظيف الحمامات ...ترتيب الساحة.. غسل الصحون.. أروح أرمي الأزبال أو اقتلع الحشائش والأعشاب المتناثرة في حديقة المعسكر بيدي مقابل أن نحصل على الطعام من الجنود ونستحم في الحمامات أو نؤدّي تلك الأعمل مجرد الرغبة في التغيير وطرد الملل!!

كل ذلك يجري من دون علم النائب ضابط!

وأية مساعدة تقدم لنا من الجنود هي في الواقع بعيدة عن أنظاره.

وخلال تلك الفترة عرف كل منا اسم الآخر.الشاب الذي قدم لي الفطور أول مااستفقت من نوبة المرض اسمه كامل من الناصرية.اسم معلمي كامل الرامي يلاحقني أينما كنت..هناك رائد من الكوت،وجيلان الحلي.. مجرد معرفة اسماء والابتسام والدعوة إلى العمل وتناول الطعام فقد تحاشيت - شأن أي معتقل - أن أسأل أحدا عن سبب وجوده أو تهمته أو أيِّ مرض يعاني منه فكل منا يمكن أن يكون وفق تصورالسجناء الآخرين مُنْدَسَّاً وإن تعرض لتعذيب علني.هنا في السجن كل يعرف حدوده فيتوجّس من أيٍّ كان على أن الراحة النسبية لاتعني انتهاء التعذيب، فقد كان النائب ضابط يمر علينا بين فترة وأخرى فيجلدنا بقسوة وغالبا ماكان يزورنا وقت المغرب ولايغادر إلا بعد الساعة التاسعة،وفي أثناء حضوره لم نكن لنجرؤ على النوم فوق الأسرة وإن كنا مرضى إذ اقتضت أوامره أن نضطجع على البلاط تاركين أسرتنا فارغة مادام هو موجودا ثم نصعد إليها حالما يغادر!!

والوقت يمر وأنا أنتظر الطبيب!!

وبيمنا نحن نَتَرَقَّب العلاج.زُجَّ معنا في الردهة بشخص طاعن في السن ظل يتكلم ويغيب عن الوعي،في اليوم الأول لوصوله رجوته أن يأكل. ألححت عليه فكانت نفسه تعاف الطعام، وفي الصباح أعرض عن الأكل. تركته جالسا في مكانه وعدت وقت الظهر ببعض بيض من الجنود وذهبت إليه. قربت لقمة من فمه، وتوسلت :

منذ البارحة لم تأكل!أرجوك!

وحالما وضعت يدي على كتفه تهاوى مثل كدس رمل على الأرض. طلبنا من الجنود أن يبلغوا النائب ضابط بوفاته فحضر ووضع على جبهته رقما. "14 " ثم أمرنا بحمله إلى خارج الردهة!!

ثاني يوم ورد إلى الردهة سجين آخر!!

شخص بحجم غير معقول ولم أدر أن وزنه الثقيل سوف يصبح عبئا علي فيما بعد!

ويبدو أنه لايحب الأكل أيضا حتى أني عجبت كيف استطاع أن يحتفظ بكل ثقله تحت وطأة الجوع والتعذيب!

همست في أذنه:

كل عليك أن تأكل وإلا تموت!!

وقال كامل راجيا:

كان قبلك هنا في هذا المكان شخص مات لأنه لم يأكل!!

ويبدو أنني خرجت عن الرجاء إلى التحذير:

أتظن أنك مضرب. الإضراب يعني تعرضك للتعذيب أو الموت!

هل تحب أن تكون صاحب الرقم 15

كل أرجوك. أرجوك.

كل الله يخليك!

لكن السجين ضخم الجثة ظل معرضا عن الطعام حتى اليوم التالي إذ قيل لنا أن موعد الفحص حان، فغادرنا من الردهات في شاحنات مقفلة إلى الجناح الطبي.في البدء تولى فحصنا من دون سماعات من ظنناه طبيبا مختصا.راح يجسنا بأصبعه ثم عرفنا أنه مفوض تابع لدائرة المخابرات.أدخلنا الحرس إلى غرفة وأخبرونا أن الطبيب في الطريق إلينا،وحين حضر مرَّ علينا مرورا سريعا وكتب لكل منا صفة خاصة لكن الدواء لم يصرف لنا.كان كُلُّ شيء يسير على مايرام حتى توقفت بنا الشاحنات عند الباب العام الموصل إلى الردهات هناك وجدنا النائب ضابط ينتظرنا. وقف حيث نهبط يلوح بعصاه وكل من يتأخر يتعرض لسيل من الضربات، وعندما سقط السجين الضخم ولم يتحرك صاح بي أن أحمله وهددني بالضرب إن عجزت.حاولت أن أزحزحه من مكانه فعجزت وخارت قواي وحدثتني نفسي بالهرب فأطلقت لساقيَّ العنان من غير أن أحسّ بعوقي،فوصلت إلى الغرفة وأنا ألهث من الإعياء في هذه الأثناء تجاهلني النائب ضابط وهوى بهراوته الغليظة على ظهر السجين الضخم!!

ضربة واحدة لو كانت وقعت بي لخمدت على اثرها أنفاسي!!

تصورت أن لها صدى يرن في أذني ووميضا يقدح من حجرين يتصادمان.. فجأة... زعق السجين الضخم زعقة رهيبة ونطَّ مثل الأرنب باتجاه البوابة فمرق كالسهم من جنب الحارس ويبدو أن شهية النائب ضابط كانت في ذلك اليوم مفتوحة للتعذيب، فدخل خلفنا مباشرة وأخذ يضرب فينا يمينا وشمالا إلى أن اكتفى فارتمى على كرسيه في الغرفة المقابلة وهو يتطلع إلى عصاه!!

أو ربما جلس يلهث كأنه هو نفسه تعرض للضرب!

وجدنا حال عودتنا شخصين جديدين أضيفا إلينا نحن السجناء في ملحق المستشفى العسكري أحدهما يعاني من كسور في يديه وآخر مقطوع الرجل بطول شبر من فوق الكاحل.وقفنا عاجزين تماما عن فعل أي شيء لهما.حالما غادر نائب الضابط قدم لنا الجنود الطيبون بيضا وخبزا، فغسلنا وجه ذي الكسور وحاولنا أن نضع بعض الطعام في فم السجين ذي الرجل المقطوعة.كان الأول صامتا لايتكلم على الرغم من آلامه أما الآخر فظل يردد عبارة : أنا من أهل الهارثة. نفسه تعاف الطعام عيناه مغمضتان أنفاسه تلهث.. أنا من أهل الهارثة .. وفي الليل مات...

مات بهدوء من دون أن ننتبه له. كان لايقوى على الأنين لشدة الانهاك والألم وكنا متعبين من رحلة الفحص وضرب النائب ضابط فرقدنا طول الليلة كأننا أموات!!

بعد ذلك تغيرت كثير من المشاهد....

جاء سجناء آخرون من السجن المركزي.كل يوم يصل اثنان أو ثلاثة وعرفت بعضا من قاطعنا نحن سجناء قاطع البصرة .أخبروني أن الأمور تبدلت في السجن المركزي. انتقل الحرس القديم الشرس وجاءت إلى السجن مجموعة من الجنود تولى مسؤوليتهم رجل يجمع بين العنف تارة والطيبة تارة أخرى يكنى " أبا درع" من أبرز أعماله أنه استغل قانون العفو فأطلق سراح مجموعة من السجناء!!

وفق روايتهم أن الشكاوى كثرت من السجناء على المسؤول السابق فحل آخر محله.كان السجناء القادمون من سجن الرضوانية إلى زنزانة المشفى يتحدثون علنا عن هذا الرجل الذي يمكن أن يقال عنه إنه بدوي اختلطت في روحه طيبة البداوة ونقاوتها بعنف البعث وجبروته، فهو يرحم من ناحية ويُشفِق ويُعْدِم وَيَقْتُل من ناحية أخرى.زز

والسعيد من يفوز برضاه ويثير فيه نخوة الإنسان.

أخبار تبدو مفرحة لنا نحن المعتقلين في سجن المشفى. أصبحنا نحلم بالعودة إلى السجن المركزي، فما كان علينا إلا أن نخفي آلامانا على أمل أن نرجع إليه.وزادني أملا أنني كنت أحلم بالنجاة فدفعني ذلك الحلم القريب البعيد المنال إلى أن أتمسك باعترافاتي السابقة التي شحذت ذهني لأجعلها متطابقة لاثغرة فيها،فرسمت صورة مبهمة لشخص أبي درع.أيعقل أن تزج الدولة بمسؤول أمني كبير فيه خصلة من العطف إلى جانب روح التشفي والعنف؟ شيء غريب غير أني قد ربما أكون مجانبا للحقيقة في ظنوني إذ لعله رجل ذو روح بدوية يمكن أن تستميلها بالرجاء والطلب والنخوة والشيمة على الرغم كل ماتتمتع به تلك الروح من قسوة وعنف!!

ولو كان ماسمعناه من سجين أو اثنين لعددتهما من المندسين ، والحقّ كانت تلك شخصية المسؤول " أبي درع " وكيل مدير المخابرات"ذي الصلاحيات المطلقة وهي نقطة الضعف التي عرفت كيف أعزف عليها فأستميل قلبه وأجعله يقف إلى صفي!!

كان أصدقاؤنا الجنود ينقلون إلى النائب ضابط كل يوم رغبتنا في أن نعود إلى السجن فقد شفينا تماما وفق ما ادعيناه وأكدوه هم له، وهدفنا الوحيد هو أن نتخلص من تعذيب النائب ضابط الذي وجدناه أكثر بعشرة أضعاف من تعذيب السجن، فهناك على الأقل ينتهي كل شيء بعد أن يتم التوقيع على الاعتراف فإما الموت أو الانتظار!!

لكننا هنا فقدنا الراحة والنوم ولايهم صاحبنا نائب الضابط أن يعذب أي سجين سواء من توقف تعذيبه في الرضوانية بعد الانتهاء من التحقيق معه أم لم ينته.كانت شهيته للتعذيب مفتوحة بشكل غريب، وكثيرا ماكنا نراه يأتي فيعذب ثم يجلس يلهث في غرفة الضباط بعدها يبتلع لفة الساندوج ويشرب قدح شاي ثم يعاود الضرب والركل والجلد من جديد .

مهما يكن فقد كان السجن أرحم بكثير من ردهة المشفى.

بعد خمسة عشر يوما في سجن المشفى الجحيم أحضروا لنا جلابيات وسمحوا لنا بالاستحمام...

عالم إلتقطنا فيه أنفاسنا..

هناك في السجن وجدت الأوضاع تغيرت تماما. لقد سمحوا لنا بالتنزه في الحديقة. ووقع بصري عند جنديٍّ على خيار وعنب.عسكريّ أعطاني عنقود عنب وخيارة وبعض الخبز.وكان في وسط القاعة تحت المروحة قدر مليء بالماء وكأس للشرب، وكنا نقف في طابور منتظرين أدوارنا في الذهاب إلى الحمام من دون ضرب!!

بل والأكثر من ذلك أني سمعت أن هناك من أُطْلِقَ سراحهم ومنهم المراقب السابق أحمد الذي شك بعض السجناء أنه وشى بالأربعة الذين حاولوا الفرار من السجن،وكان إطلاق سراحه مدعاة لتثبيت الشكوك حوله!!

كان كل سجين يقرؤ ذلك في عين الآخر إذ يرد اسم أحمد عرضا من دون أن يصرح به!!

غير أن هناك أمرا حز في نفسي كثيرا.سجناء الغرفة معي ظنوا أن بي أنا العائد من المشفى العسكري مرضا ما معديا فأبدوا تخوفهم مني.راح الجميع في الزنزانة يتطلعون إلي بشيء من الريبة كأني مصاب بجرثومة تثير الرعب أسوأ من جرثومة السل والجذام بل أشد فتكا من التعذيب والوخز بأسلاك الكهرباء.في الوقت نفسه كنت أتحاشى نظراتهم فلم يكن بمقدوري أن أتحداهم.بعضهم حذَّرني من أن استخدم قدر الماء..تلك الساعة أدركت أن هنا في السجن من يشاركونك المصير والعذاب وهم أشد قسوة عليك من الجلادين،من دون شكّ إنهم يخشونني، وإن لم أؤذهم، أكثر من خشيتهم الجلادَ والتعذيبَ اليوميَّ والإهانات، شعرت وأنا أقرؤ النفور في عيون السجناء ووجوههم أنّي ملوّثٌ تماما،مصاب بداء أدرَكَه - فيّ قبل أن أعيَه أو أحسّه- سجناءُ من حولي ينتظرون مصيرا مثل مصيري، ولا بدّ أن أظنّ في نفسي مثلما يتوهمون عنّي، فأتلهى بشيء جديد يشغل فكري بعض الوقت عن هذا المكان المغلق المعتم،مع ذلك لم أحقد قط على أيِّ واحد منهم.اقتنعت أننا منذ اليوم الأول لزجنا في السجن لم نك قط مع بعضنا. هنا ترى الآخرين ولاتراهم تسمعهم ولا تسمعهم كل منهم يعيش في عزلة عنك وعن السجناء الباقين مثل أغنام مجتمعة في مرعى. قطيع بقر ينظر بعيون بلهاء يفكر بقبضة حشائش يقضمها مثلما يفكر بالضبط أيّ واحد منا متى يموت أو متى يطلق سراحه..من أنت..من أنا....كيف قدمت لاأحد يدري ولا أحد يحب أن يسأل الآخر.في أية لحظة يمكن أن يتحول أيُّ كائنٍ حيٍّ بفعل رصاصة إلى جثة هامدة.مايربطنا أشياء ثانوية لاقيمة لها الشرب من إناء واحد والنوم متراصين ثم السياط نفسها والإهانات.بإمكاني أن أشتكي الذين رفضوني.أقدر بيسر أن أعرضهم للتعذيب والإهانة فأنال حضوة السجانين وسخط المسجونين لكنني أعرضت عن ذلك. وكان مما خفف الضرر عني والمعاناة أني استطعت أن أكسب ودَّ جندىٍّ يُدعى عبد الخالق.كان لايبخل علي ببعض العنب والطعام وحين سمع عن تخوف الآخرين مني جلب لي علبة مربى فارغة رحت أملؤها من الحنفية كلما عطشت ولكون الغرف ضيقة ومن معي يتخوفون مني فإني اتخذت مكاني قرب عتبة الباب فكنت أبعد مسافة يسيرة عن وعاء كبير يتبول به السجناء خلال الليل فظلت تلك الرائحة الكريهة الحامضة تلفح أنفاسي وتزعج نومي أثناء الليالي التي قضيتها فيهذا المكان!!

أخيرا رأيت أبا درع نفسه!!

نعم رأيت ذلك الشخص العجيب الغريب الذي يجمع الطيبة والعنف في الآن نفسه!

الرجل الذي يطلق سراح سجين بيد ويخنق ثانيا بيد أخرى!!

ليس بإمكاني أن أفعل أيَّ شيء سوى أن أستدرَّ عطفه، فقد وقعت عيناي على شخص في الخمسين متوسط الطول أسمر السحنة أسود الشعر ذي بطن من غير كرش يرتدي الملابس العسكرية دون أن يعلق أية رتبة على كتفيه!!

نفخته برجاء:

سيدي أنت رجل حقَّاني كما هو الشائع المعروف عنك.الكل يتحدث عن طيبة قلبك وخلقك وكرهك للظلم كلنا نعرف أنك لاتظلم أحدا أرجوك أن تطلق سراحي!

فتأمل في وجهي برهة ثم التفت إلى مرافقه قائلا:

سجل اسمه!!

لم يتكلم معي أَيَّة كلمة.كان هناك أمل يزداد يوما بعد يوم في أني سوف أغادر هذا المكان وعليَّ أنْ ألحِّ كلَّما جاء أبو درع فلعله يوما لأي سبب يغادر السجن فيحل محله من هو أسوا منه ، وفي المرة الثانية حضر يتفقد الزنزانات فاعترضت طريقه وأعدت الاسطوانة نفسها ورأيته ينصت إلِيَّ باهتمام ويطلب من مرافقه تسجيل اسمي،وفي مرة أخرى رأيته يتجول في الساحة العامة ولم يكن أحد ليستطيع أن يقترب منه هناك فيكون نصيب من يصل إليه الضرب.والحق بدت صحتي تسوء من جو السجن العام فدفعني الأمل واليأس إلى اعتراض طريقه فوقعت على كتفي عصا أحد الحراس، وشخصت أمامه وجها لوجه وكنت حيثما قابلته زدت جملة أو جملتين على عبارتي الأولى التي أسمعته إياها فحفظتها عن ظهر قلب، وبعد أيام زارنا في القاطع الداخلي فهاج في وجهي زملاء السجن.وحجّتهم أني قابلت أبا درع عدة مرات ورجوته أكثر من مرة، والآن جاء دورهم ليستوقفوه ويلتمسوا مساعدته بدلاً من أن احتكر وقت الزيارة القصيرة في إعادة الاسطوانة ذاتها.راح بعضهم يتكلم بحدة وعصبية.فانسحبت من دونِ أنْ أَحْقِدَ على أيِّ أحد اعترض طريقي ومنعني من أن أكرر الشكوى.

لقد منحتني معاملة الجندي عبد الخالق كثيرا من الثقة والأمل فكنت اندفع معه لأساعده في ما أقدر عليه من ترتيب وغسل وتنظيف عندذاك سألته إن كان بإمكانه أن يساعدني في الانتقال إلى غرفة آخرى فغاب قليلا ورجع إلي مع مسؤول القاطع الذي قبل أن أنتقل إلى الغرفة التي يعتقل فيها كبار السن!

كانت الغرفة أكثر سعة قليلا..

وتفاءلت حين عرفت أن هناك اثنين من السجناء فيها أُْلِيَ سبيلهما قبل أيام قليلة!!

وهي الليلة الأولى التي أنام فيها على بعد مسافة معقولة من وعاء البول فلا تصل إلي رائحة الحامض الكريه، ثم كانت الليالي التي عاودتني فيها الأحلام بعد انقطاع طويل، وأنا مستلق على الوسادة يدي اليسرى تحت جبيني وركبتاي ملمومتان إلى صدري كأني أخشى على أجزائي أن تغادرني،وأولها رجلي الحجة على براءتي،وهو الوضع الذي اتخذته عند نومي منذ أن خرجت من الحمام ونمت من دون غطاء فتلاشى فيّ إحساسي بالموت والألم فكنت أنام بتلك الوضعية إلى الآن!!

في مثل تلك الرقدة جاءني أبو درع.وحدنا في الزنزانة أنا وهو.صمت مطبق..فراغ تام..كان الشرر يلوح من عينيه. لزمنا الصمت مَعَاً وَبَسَطت نظري في الزنزانة فوجدتها تمتد إلى بُعْدٍ مترامي الأطراف. أشرت بإصبع سبابتي اليسرى نحو فضاء الغرفة الواسع ونطقت بغضب:

أنظر لا أحد هنا ها أنت اطلقت سراح الجميع فبقيت أنا وحدي فقط!!

تشبث بالصمت مطلقا العنان لنظراته أن تنغرز في جسدي، نظرت إلى الأسفل وإذا بي أمد يدي عن غير وعي إلى وعاء البول البعيد عني فألتقط منه قطعة سلاح.لم يتزعزع أبو درع من مكانه، صحت وسحنة وجهي تنقلب إلى الضحك:

حاذر إني لاأعرف استخدام السلاح!"وأضفت وأنا أقهقه" هذه رجلي تثبت براءتي أنام وأَضُمُّها إلى صدري كأني أخاف أن تهرب وتتركني من غير دليل!

ضغطت على الزناد كأي محترف يجيد التصويب عندئذ تناثر الرجل إلى أشلاء توارت بعيدا خارج الزنزانة. ابتسمت.رحت انفخ فوهة المسدس وأخفيه ثانية في وعاء البول.kiss kiss عرضك..أستاذي مدرّس اللغة الإنكليزية لم يش بي ..ساعتها أدركت أن أثر الجريمة انمحى تماماً فعدت إلى نومتي السابقة لأجد أني تحولت فيما بعد إلى صوص صغير داخل بيضة.حسنا..ذلك يساعدني على التخفي فلا أحد يشك فيّ.صوص يقتل رفيقا حزبيا كبيرا. هذا محال،فقط أطرافي الأربعة مازالت تتبعني بشكلها الحقيقي.رجلي المريضة انقلبت كاليمنى،هذا لايهم.لتكن كيف تشاء شرط أن أخرج من السجن،قلت ذلك مع نفسي وبادرتني فكرة التخلص من البيضة. أريد أن أتحرر، فأخذت أنقر بمنقاري ،أنقر حتى بدأت تتكسر. طقطقة القشرة تكاد تثقب أذني..تنتشلني من عالم النوم، فأصحو على صوت خرير، أستدير برأسي نحو الصوت فتقع عيناي على الشيخ أبي أحمد ذي الخامسة والستين من عمره وهو جَاثٍ أمام وعاء البول يعصر نفسه، وكان السجين الآخر يغط في نوم عميق وحشرجة تداعب صدره أقرب إلى الشخير، أما أنا فقد تظاهرت بالنوم، وكان الحلم بمثابة نبؤة تخبر عن زيارة أبي درع إلى قاطعنا ومروره بالزنزانة المخصصة لكبار السن!!

وفي المرة الأخيرة فكرت أن استفز نخوته، وأستثير همته بعبارات حادة لكنها لاتجرح.عبارات تؤكد قوته وأخلاقه وتنفيها عنه أيضا، فاندفعت أضيف للديباجة السابقة:

سيدي طلبتُ منكَ أربعَ مراتٍ أن تأمر بإطلاق سراحي وأمرت مرافقيك أن يدونوا اسمي. أنت كلمتك واحدة إذا قلت أمرا لاتغيره حتى لو انقلب العالم كلُّه،هذا مايعرفه عنك السجناء والناس في الخارج.كنا قبل أن تأتي لانشعر بالأمان وها نحن ننعم بطعام جيد وراحة تامة ويبدو أنك تستثنيني من هذه القاعدة فمعي يمكن أن تكون كلمتك اثنتين وثلاثا وربما يكون ذلك الإهمال بسبب تعاستي وسوء حظي!

رأيت علامات الغضب بدأت تلوح على قسماته ثم استرخت عضلات وجهه وعاد إلى هدوئه المألوف فوجه الكلام إلى مرافقيه:

هاتوا ملفه!!

في هذه الحظة خلت أني استنفرت في أعماقه أقصى حدٍّ من الحماس للخير والشر من دون أن أبالي بالعواقب الوخيمة لما قلته بسبب اليأس والقنوط ومرض جديد أضفته إلى جسدي و أقنعت نفسي به إرضاء لمن حولي.بقيت صامتا أتطلع في عينيه وماهي إلا لحظات حتى التفت إِلَيَّ قائلا بتهديد وترغيب:

إذا وجدت في ملفك أنك كنت تقف في حاجز أو حملت سلاحا بوجه الدولة فإني أنفذ فيك حكم الإعدام هنا في مكانك هذا الذي تقف عنده!!

سيدي أنا لاأعرف الرمي ولم أتدرب على السلاح بسبب المرض!

هذه المرة سترى أن كلمتي واحدة.

إذا كان الأمر كذلك فأنت بريء من دمي.

حسنا الآن أقرأ ملفك.

والتفت إلى مرافقه:

مرهم أن يحضروا لي ملفّه!

كنت في غاية القلق إذ خشيت أن تكون هناك زيادة من إضافة المحققين في توقيف شط العرب أو سجن البصرة وربما من محقق الرضوانية.كنت أوقع على اعترافاتي من دون أن يسمحوا لي بقراءتها فإذا ما اطمأن قلبي إلى الاعترافات ساورني الشك في التقارير المكتوبة عني من أهل التنومة، وقد يعذّبني شكّ بأستاذٍ كان لطيفا معي في المدرسة وأنكرني في السجن،ولم أستبعد قط أن تكون هناك نساء تسع كتبن عني وبعض الرجال وإن كنت أشك في أن ماقاله محقق السجن المركزي مجرد استدراج.المراقب قال لي استعد أبو درع وقع الملف، فبقيت معلقا بين أن يطلق سراحي أو الإعدام!!

أحمل سلاحا أو أقف عند حاجز!

كنت أرسم لنفسي صورتين متناقضتين، فأرى في الأولى أن الموت خارج السجن يمكن أن نراه،وهو قريب،بعيدا عنا بألف شكل وشكل: صدمة سيارة..مشنقة..غرق..حريق..قتل بالكسين.. سكتة قلبية في هذا المكان وحده يخلع الموت أقنعته المتعددة فيعرِّف نفسه بشكل واحد فقط هو الإعدام بالرصاص !

معادلة صعبة قد تكون لمصلحتي. أنا لم أر سلاحا قط في حياتي إلا مع ترنتي في السينما وكاري كوبر وهما أول من غاب عني منذ اليوم الأول لاعتقالي.أين اختفيا.كما لو أنهما وجدا عذرا لفي اختفاء السندباد المفاجيء..بأي أدغال أعثر عليهما وعلى ثالثهما كوردن مشن؟أعترف أني حزت كثيرا من المسدسات والبنادق في طفولتي.كلها اندثرت وواحدة من البنادق أخفتها أمي عني.لاأدري في أيّة زاوية دسّتها. كنت أضع الفلينة في رأس السبطانة وأوجهها نحو أية ذبابة جاثمة على الباب أو الحائط.طق... تلتصق بالجدار ويسيح دمها..

مادمت تقنص الذباب فلن ترى البندقية بعد اليوم؟

ويؤكد أبي مناصرا أمي:

أمك معها حق هذه قذارة!

فأين اختفت ياترى بندقيتي. أشك أن أمي منحتها لأحد الأطفال من معارفنا،فقد بحثت عنها كثيرا. قلبت خزانة الملابس والسطح والحمَّام لكن جهودي ضاعت عبثا ولم أعثر عليها إلا بعد سنوات طوال يوم تكدست بنادق في بيتنا،رشاشات كلاشنكوف. لو رآني أبو درع وأنا أحمل الكلاشنكوف فارغة من أية إطلاقة ثم ألف في شارع التنومة متباهيا بين الناس والحق إن صهري كان يفرغ الرصاص من مخزن البندقية خشية من أن أخطيء وكثيرا ماكنت أصرخ بوجهه محتدا من تحفظه الصارم في الاندفاع خارج البيت:

جبناء أتبقون طول أعماركم جبناء!

لاتخافوا أنتم شجعان...

يا عالم.. يابشر.. لاتخافوا.. الطاغية أصبح في خبر كان.

من التنومة إلى كردلان ومن مقر الفرقة المنهار إلى الجامعة.صهري كان يخرج في بعض الأحيان .كثيرا ماحذرني.تجربة الجيش علمته أن يحسب حسابا لكل خطوة يخطوها.أما أنا فكنت مكشوف الرأس وبندقيتي لاتؤذي. أحيانا أصرخ بوجهه مكررا جملتي المعهودة:

جبناء.. جبناء..

مهما يكن فالرفيق يعتمد على التقرير أمامه واعترافاتي.أنا لاأعرف الرمي سيدي أبا درع هل يعقل أني أنا الأعرج أقف على حاجز آمر وأنهي الرفاق المدججين بالسلاح.

مر يوم وشهيتي تأنف الطعام. رحت أقنع نفسي بحجج ثم أعاود أنقضها.أسخر من نفسي فأرى سخريتي تلقي بظلالها على الآخرين ولا شي سوى أن أظن أني العاجزذو العاهة هزمت جيشا بكامل عتاده ..عقلي يقول ربما هناك كلمة من إنسان ما تدينني فهؤلاء يبحثون عن أية حجة للقتل وعواطفي تستحثني للبراءة.حاجز وحمل سلاح وأنا في معادلة واضحة غامضة.الوثيقة الرسمية دفتر الخدمة تعفيني من السلاح بل من سلامة البدن..تقارير الأطباء وهناك شك فيّ وكتابات عني وربما من رآني أخرج وأتجول بين كردلان والتنومة والفلكة والجامعة القديمة!

تيمورلنك..أمي قالتها..بعض أصدقاء المدرسة،فهل أكون أمام أبي درع نسخة جديدة لذلك القائد الأعرج المغامر..

الدرة التيلا يفرّط بها !

تلك الليلة – ليلة الحسم بين الاعدام والبراءة – غالبني أرق وتفكير إلى ساعة متأخرة وحالما غفوت عاودتني كوابيس قديمة. رأيت جماعة من هاربين محكومين بالإعدام في سوق التنومة خلال الحرب العراقية الإيرانية.جاؤوا مع حراسهم إلى قاطع كبار السن.وشاهدت سجناء أعدموا في ساحة سجن الرضوانية.ومجاميع مكبلة الأيدي رثة الحال تصبح هدفا لإطلاقات علي كيمياوي..كانت جماعة في حافلة أُوقِفَتْ فجأة تصرخ..يَدَّعون أنهم رجعوا من نزهة ولا أحد يصدِّقهم...أيّة مجموعة تدلف ترجو حرّاسها أن يطلقوا النار،كلهم فرحون يرقصون ويغنون، بعضهم يرتدي أقنعة أما الحراس فكانوا صامتين حتى غصت الزنزانة. كاد الهواء ينعدم فشخصت ببصري إلى الجدران أبحث عن نافذة حتى رأيت فتحة مدورة مغلقة بصفيح من المعدن أسفل السقف. غالبتني حيرتي .كنت أستجمع قوتي فأحاول أن أَنطَّ نحوها.أنفاسي تتقطع وأنا أستجمع قوتي.. أقفز.. اقفز.. أزعق وَمَنْ حولي لايأبهون بي لكني استطعت أن أصل إلى النافذة وإذا بأبي أحمد ورسول السجين الآخر معي يدلكان صدري ويدي:

بسم الله الرحمن الرحيم!

الحمد لله أنت بخير !

كان كابوس بثقل جبل يجثم على صدري، للمرة الأولى أرى رسولا يخرج عن صمته ويدعو لي، أما أبو أحمد فاستغرق في قراءة المعوذات ويداه ممسكتان بيدي. هكذا أمسكت في لحظة الموت ذات يوم بيد شخص لاأعرف من هو.رحت أتطلع في عينيه وهو جالس القرفصاء ينظر إلي بعينين ذابلتين:

ولو لقمة واحدة أرجوك!

لقمة واحدة فقط فأنت لم تأكل منذ الأمس.

كادت اللحظة تعيد نفسها معي فأموت قبل أن أعدم.مثل الرقم 14...هذا اليوم شعرت أني قريب من الحياة والموت، وفي اليوم ذاته وبعد ليلة أرق مليئة بأحلام حلوة ومرة لم ترتق فتكون كوابيس تجثم على صدري، زارت القاطع النسوة اللائي كتبن تقاريرهن عني.تسع نساء اقتحمن الزنزانة..كن بين محجبة وسافرة وذات نقاب ومن ترتدي فستان الميني جيب.سمراء بيضاء شقراء سوداء. طويلة وذات قصر..قلت إن ذات النقاب هي البيضاء،فالطويلة شقراء والقصيرة سوداء. حليمة شكرية سليمة خديجة من منكن أم كلكن كتبتن تقارير تدينني. الا تخجلن ابو الفيصل رئيس الجمعيات الفلاحية رآى قطنا احمر وأكل قشر موز، لكنه نجح في تقسيم جيكسلوفاكيا..أنت أنت!- أنا؟ أنا؟أنت نعم!نعم ماذا؟كُسِّك لوفاكتا لسانه لا يستطيع نطق الاسم الاجنبي – ابن أختي مثنى مازال صغيرا يقول عنكن دحاب دواويد..لكنه بعد تسع سنوات حين أخرج من السجن يقدر أن ينطق الكلمات..قولي نعم سيدي!نعم سيدي.هل كتبت تقريرا عني؟كلا..بل نعم كلا كلا،التفت إلى ذات العباءة:

أنت سأشنقك؟كلا..بل أنت .. تركتها وتوجهت للعارية:

أنت؟نعم أنت متأكدة؟أبو الفيصل شفتاه غليظتان أما لسانه فلا ينطق أي اسم أعجمي نعم أنا كتبت!لم أصدقها ووقفت عند صاحبة البرقع. قد تكون هي أم عباس الفراشة التي زغردت يوم اجتاحت قوات الرئيس الكويت. خطفت برقعا من على وجهها فرأيتها هي هي. أم عباس نفسها لكن بدت بوجه أسود كالفحم:

أنت من كتبت.

نعم أنا ولاتصدقها " أشارت إلى العارية وأكدت بهزة من رأسها ويديها حيث شغلت بحماسها الفائض عن الحد عن كرهي لها " أريد منك الحلوان لي وحدي!

اقتحم علي خلوتي بهن معلمو مدرستنا على رأسهم الرامي بيد يقبض على رقبة السندباد،والأخرى عصا.وقفت معاتبا إياهم وأنا أقول:

ها أنتم ترون أن الحرب انتهت كنتم مخطئين!!

فأجابوا بلهجة أطفال يقرؤون نشيدا مدرسيا بصوت واحد:

خاننا لقمان الحكيم الذي كان يدق السم لعدوه.

ناولني الرامي عصا..مادام هؤلاء النسوة سبب محنتك فعلي أن أختار أي عقاب..كان الخطأ خطؤك أيها التلميذ المغفل.لم يبصرنني أحمل بندقية وأهزم جيشا لكن ذاكرتي استحضرت يوما استثنائيا.. ساعتها توزع اولاد الحارة فريقين،وليس هناك من حارس مرمى،الكل يرغبون في اللعب وتسجيل اهداف..طلبوا مني أن أجلس أمام أحد مرمين عملوهما من الحجر والخرق.حاول أن لا تدع الكرة تمر،قالوا ذلك وهي المرة الاولى..ولعلها الاخيرة،هؤلاء النسوة رأينني يوما ما العب الكرة فالتبس عليهن الأمر حتى تساوت رجلي المعاقة في الالم مع بقية اطرافي:    

أنت

نعم

ابسطي يديك!

وأنت أيضا ابسطي يديك.

رحت أضربهن على راحات ايديهن بالعصا مثلما كان المعلمون يعاقبوننا في المدرسة. بسطت يدي وإذا بالمعلم يقول:

رائع يدان نظيفتان. الأظافر جيدة ، وأبو درع نفسه يدخل عليَّ فيطلب مني أن اضربهن.أترك العصا جانبا وأعود إليه. أحس بنظراتي الغاضبة فتراجع إلى الوراء مذعورا.كنت أحول بينه وبين باب الزنزانة فاستند إلى الحائط. وحدنا أنا وهو.أظن أن السجينين أطلق سراحهما فبقيت وحدي. تقدمت نحوه بحثت في جيبه عن مسدس وهمس لشخص ما ظنه قربه: المسدس في غرفة الضباط في تلك اللحظة راحت يداي تضغطان على رقبته. قوة هائلة داهمتني لاأدري كيف أتت ومن أين أتت.وصرخت فيه وهو يلفظ أنفاسه بين يدي فيندلع لسانه فوق أسنانه الصفراء:

الآن أصبحت كلمتك واحدة لاتتغير!

منذ تلك الليلة شعرت بجسدي يتحرر من آلامه.آلام الضرب والتعذيب مثلما اختفت عنه من قبل آلام المرض!

كأن الحلم منحني طاقة على التحمل وعدم المبالاة. مالذي يمكن أن يحدث أسوا من الإعدام؟ فأنا حققت ثأري خلال النوم ومازلت أعيش سعادة ذلك الحلم.لقد تغيرت حياتي من الجذور، فصممت على ألا أرجو أبا درع إن هو مر بالزنزانة أو ألتمسه في أن يطلق سراحي. قلت في نفسي خير لي أن أتجاهل بل رحت أتمادى في تفاؤلي ففسرت بشارة الحلم.ظننت أن النسوة التسع هن تسع سنوات حكم علي بها في السجن فما علي إلا أن أقضيها فهذا الحكم خير الف مرة من الإعدام!!

تسعة أعوام فقط لاأكثر هكذا يقول الحلم...

فلأشكر الله أي ّ عقاب أخفّ وطأة من الموت!

ماشاء الله أنفاسك كانت رائعة البارحة !!

حدثني أبو أحمد الذي اعتاد- بعد أن خفت حدة المضايقة عما كانت عليه أول الأمر - على النهوض في الصباح الباكر ليصلي الصبح. هذا هو أول رجل يقتنص دليلا على جريمتي...انسياب الأنفاس،والنوم الهاديء..خفة الجسد.لاأهتم بعد اليوم أن أعدم أو يطول حبسي. لا أبالي فما زالت آثار الحلم تسري في كياني فأعرف أن لي قوة هائلة أضعاف ما عند أبي درع والحرس المرافقين.إن كانوا هزموني في النهار فأنا أتحداهم مجتمعين أن يأتوا إلي خلال الليل فمعي في أية ليلة كانت المدرسة والمعلمون وكامل الرامي الذي يسخر من الوقت ومن كل شيء!

بهذه الطريق حامت حولي أحلام اليقظة حين جاء أبو درع قاطِعَ السجناء وإذ مَرَّ بقاعة كبار السن بقيت واقفا في مكاني ولم أندفع نحوه. لقد تعبت من الشكوى والرجاء فأيقنت أن عليَّ أن أترك الموضوع قبل أن أتعجل بنفسي أمر إعدامي أو على أقل تقدير السجن تسع سنوات كما يقول آخر حلم لي ..لعلّ اليأس بلغ بي مداه فأيقنت أنه من الأفضل لي أن يظلّ أمري معلقا في غرفتي هذه من دون أن أتعجل الأسوأ ،لكنه توقف فجأة منتصف الممر،وقطب حاجبيه حالما وقع بصره عليّ وهو يتسأل:

أمازلت هنا ؟

نعم سيدي!

أتراه يشمت أم يسخر أم يعدني لحفلة إعدام؟

ألم تخرج بعد؟

لي سيدي أنا توجّه السؤال؟

نعم أنت أما زلت هنا؟

نعم. ماذا سيدي؟

هل أخطأت السمع أم أن الرجل أقر بهزيمة البارحة.وغد حقير هاجمت إيران. اكتسحت الكويت. لص. بعت المسروقات في شارع دينار. يداي تضغطان.كل الجبروت الذي يلوح عليه هذه اللحظة بدا زائفا البارحة.القوة تبخرت.. تلاشت. ذلك لم يكن حلما، ومثل هؤلاء لايمزحون. الرجل محق فيما يقوله فأنا لاأجيد استعمال السلاح بالتالي ل اأقدر أن أقف عند حاجز فلِمَ أنفي عن نفسي مايثبته الآخرون؟ الحق صدمتني جملته بعد اليأس والكوابيس والخوف والرجاء ، فهل عدت أحلم من جديد، جاء صوت كبير مرافقيه لينتشلني من حالة ذهول شبيهة بالغيبوبة:

سيدي أنت وقعت الأمر عصر الخميس ثم كان يوم الجمعة عطلة وأمس الإثنين تعرف عطلة الضابط مسؤول القاطع...

يبدو أن الأيام التي غفلت عنها نسيتني .. الخميس.. الجمعة... السبت..في أي يوم أنا وأية ساعة سعد تطلّ عليّ بالسعد؟فقاطع المرافق ومازلت فاغرا فمي من الدهشة كأني أقف أمام محال يتحقق:

حسنا حسنا ..

تأمل قليلا وأردف:

رتبوا أمر إطلاق سراحه الآن.

فقال المرافق وهو يهز رأسه:

أمرك سيدي لكن ليس عندنا سيارة جاهزة !

ماذا عن سيارة العصر؟

والتفت إلي مؤكدا:

دعوه يذهب مع السيارة المغادرة وقت العصر!!

قال عبارته وخطى في الممر باتجاه الباب الخارجي. أخيرا لفحتني أنفاس الحرية عن بعد فنسيت لحظات مشهد الحراس وهم يمرون أمام الزنزانة بأسلحتهم وملابسهم الخاكية المتربة، وتلاشى من جسدي في رمشة عين لسع السياط والهراوات وولت كما يتبخر الماء صفعات النائب ضابط وركلاته اليومية حين كنت في عنبر المشفى العسكري.مشفى يود المرضى الهرب منه إلى السجن...من السهل أن تظل الأشياء السيئة والذكريات القبيحة عالقة في أذهاننا زمنا طويلا ثم ننساها في لحظة فرح عارمة.

بل ليتني أستطيع أن أنسى وإن بعد حين..

كادت الفرحة تشلُّ لساني فلم أقو على الكلام بل لم أتمكن من الوقوف أو الجلوس كأني تسمرت مثل المسمار في مكاني،من قبل تضاربت في ذهني أفكار ناعمة وأخرى متوحشة:كنت مخيرا بين ثلاث حالات يصنعها لي هؤلاء الذين يتحملون مشاهد مقرفة كي يزعجوا الآخرين:إما أن أموت، أو أخرج ولست أنا قط أو أخرج كما أنا مثلما دخلت.الآن أصبحتُ حُرّاً.

حر منذ يومين ولا أدري.

حر على الرغم من كوني في زنزانة فَقُدِّر للرصاص أن يتحاشاني فلم أصبح جثة تحمل رقما ما.سأخرج من هذا المكان قبل انقطاع النهار وربمابعدي يخرج آخرون ويموت آخرون ، ولعلّ المبولة التي رأيتها أول َّيومٍ وصلتُ تلك الثلاثة أمتار تتغير إلى شيء آخر في المكان نفسه.تصغر أو تصبح أكبر لكن بشكل آخر يخترعه سادة المعسكر ولا يبالون بإزعاجه مادام يوحي للآخرين مثلنا بالغثيان..بغض النظرعن كل ذلك بعد ساعات أقرب إليَّ من طلوع الفجر أسافر إلى الجنوب... أصبح في البصرة..هناك أنفض عن جسدي ورأسي قملا أبيض وأسود صاحبني منذ الأسبوع الأول لدخولي السجن. أصحو وقتما أشاء وأنام في أيّة ساعة.بإمكاني أن آكل طعاما نظيفا. أتوضأ بماء طاهر وأكون بعيدا عن شبح الموت فهنا في هذه الزنزانة لابد من أن تموت رميا بالرصاص مثلما يعدم الجندي الهارب من الجبهة حتى لتكاد تظن أن الموت في الخارج بعيد كل البعد عنك مجرد أن تتذكر أن له وجوها متعددة أخرى غير محصورة بشكل واحد.

كنت أعيد صور الموت المرحة خارج الزنزانة وأنا بين مصدق ومكذب قصة نجاتي التي انبثقت فجأة أمامي كما تنبثق وردة رائعة الحسن من بين الصخور الجلدة الصماء،أما الشيخان رفيقاي في الزنزانة – زنزانة المسنين - الصامتان الناطقان فقد راح كل منهما يمطرني بالتهنئة والبركة والدعاء كأنه هو الذي أُطٌلِقَ سراحه.كانا يرجواني أن أدعو لهما في أن يكشف الله الكرب الذي هما فيه عما قريب كما كشفه عني.لاشيء أكثر..فقد يحسد أنسان آخر على شيء تافه ماعدا هذه اللحظة التي يختفي فيها الحسد والغيرة والكره تماما كأنّ نجاة شخص تعني نجاة آخر وإن كان هذا الآخر على يقين أنه يموت لامحالة...كنت أدعو لهما وأنا أودعهما وأغادر السجن الذي بقيت فيه حرا طليقا..منذ ثلاثة أيام دون أن أعلم بذلك مثل عصفور وجد باب القفص مفتوحا فلم يطر لأنّه ينتظر عاصفة هوجاء تعبر كي يحلّقَ بعدها في الكون الفسيح غير أني جهلت أني طليق وأن باب السجن أعاقني ثلاثة أيام وكانت تلك أقسى ثلاثة أشهر مررت بها في حياتي.

تمت

***

 

د. قصي الشيخ عسكر

.........................

الحلقة الأخيرة من رواية: ربيع التنومة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم