صحيفة المثقف

الدراما الشعبية في العراق مابين الارتجال والتاليف

جوزيف الفارسفي المرحلة الدراسية في ايطاليا زادهم الشوق والفضول للتعرف على معالم حضارتها وبالذات الثقافة المسرحية وتجربة المسرح الايطالي، وكذالك التعرف على حرفية فن المكياج وتجربته في حياكة الباروكات للشعر المستعار واللحى والشارب وغيرها من مستلزمات هذه الحرفية الفنية والغنية بتجربتها الرائدة في هذا المضمار اضافة الى ماكتسبوه من دراستهم في معاهدها السينمائية والمسرحية . كانوا متشوقين لزيارة معالم ايطاليا الاثرية والتعرف على معالم فنونها التشكيلية لاشهر رسامي العالم من امثال ليونارد دافنشي وروفائيل ومايكل انجلو، قال الاستاذ المرحوم الفنان الرائد ابراهيم جلال والذي كان احد طلاب المعهد االسينمائي التجريبي الحكومي في ايطاليا قبل ذهابه الى الدراسة في معاهد امريكا للفنون المسرحية، قال رحمه الله : هذه المعالم الجميلة والتي اعادتني الى احضان شكسبير واجواء مسرحياته وبالذات مسرحية يوليوس قيصر والتي جعلتني اعيش بين اجواء احداثها وصراع شخوصها، بروتس وكاشياس وتامرهم على قيصر ومناهضتهم لانطونيو، واذا بالاستاذ اسعد عبد الرزاق امده الله بالصحة والعافية والعمر المديد والذي كان احد طلاب المعهد الايطالي للفنون المسرحية وقت ذاك، ، يشير لي الى معرض للتحف والتماثيل لاشهر معالم الحضارة العالمية، من برج ايفل، وتمثال الحرية واشور وبابل، فلما دلفنا الى داخل المعرض انا والاستاذ اسعد عبد الرزاق، واستطلعنا معروضاته، جلب انتباهي تمثالا للثور المجنح واخر لاسد بابل والزقورة والجنائن المعلقة، فاستغربنا اشد الاستغراب لاهتمام العالم باثارنا وتراثنا وحضارتنا مما جعلني استفسر من المعني عن بيع هذه التماثيل وانا اشير الى تماثيل بلادي بلد الرافدين قائلا له : اتعرف شيئا عن هذه التماثيل ؟ فبادرني بضحكة وقهقهة عالية قائلا :ومن منا لايعرف شيئا عن هذه الرموز الحضارية لبلاد الرافدين ؟يالله، انه ايضا يعرف اسم بلاد الرافدين ! انها كنية بلادي الحضارية، وشرع يشرح لنا وبالتفصيل عن حضارة نينوى وبابل ويذكر لي قصص عن اسوار نينوى المحصنة والجنائن المعلقة وكيف انها تعد اعجوبة من اعاجيب السبعة في العالم، بحيث ادهشني بمعلوماته التي افتقر اليها وانا ابن هذه الحضارة التي علمت العالم على سن القوانين والانظمة، فهززت برأسي ونظرت الى استاذي الكريم اسعد عبد الرزاق وقطعت عهدا على نفسي بانني ساهتم بكل مايعني بحضارة بلادي وثقافتها، واشجع كل ما ينتمي الى هذه الامة العريقة التي اشعت بمعالمها الحضارية وادهشت العالم بتاريخها وحضارتها . وهكذا اوفى الاستاذ المرحوم ابراهيم جلال وعده،فبعد عودته الى العراق شجع النصوص العراقية الشعبية والمستمدة افكارها ومضامينها من حضارة وادي الرافدين ومن الواقع الاجتماعي الشعبي، فكانت مسرحية فوانيس لطه سالم ومن بطولة الفنانه العراقية المسرحية المغتربه وداد سالم زوجة الفنان المخرج المسرحي اديب القليجي، ومسرحية عقدة حمار وهي من تاليف الكاتب المبدع‘ الاستاذ عادل كاظم ومن بطولته والذي شاركه في بطولة هذا العمل الفنان المبدع المرحوم شكري العقيدي، ومسرحية الطوفان من تاليف عادل كاظم وتمثيل نخبة من فناني المسرح العراقي كريم عواد والمرحوم فاروق فياض وفاطمه الربيبعي وصلاح القصب ومريم الفارس، وكذالك مسرحية الدراويش الثلاثه والقضيه وهي من تاليف عادل كاظم وتمثيل المرحوم يعقوب الامين ويعقوب القرغولي---وكثيرة هي النصوص التي اخرجها الفنان الرائد ابراهيم جلال .

وانني هنا اعزائي القراء والمعنيين بالادب المسرحي، اسلط الاضواء وباختصار على الدراما الشعبية في العراق وكيف كانت مابين الارتجال والتاليف،وليس طرحي هذا هو الاول من نوعه، وانما لربما قد سبقني في هذا المضمار زملاء لي، مسلطين الاضواء على مسيرة الدراما العراقية منذ نشأتها وحتى وصولها الى ماهي عليه في عصرنا، والضروف القاسية التي عاشها فنانونا انذاك في العصور الماضية ومجابهتهم لتصديات الانظمة التي حاربوها، وتصدوها بافكارهم وثقافتهم وايمانهم بما يملكون من العقيدة الفكرية خدموا من خلالها شعبنا وجماهيرنا المتطلعة الى الحياة المشرقة والمشرفة .

لذا حينما نستعرض تاريخ الفن في العراق و نقرأ عن اسماء كثيرة من الفنانين اللذين شقوا طريقهم بصعوبة مجهدة وهم يمضون في هذه المسالك الوعرة من المسيرة الفنية، والحياة المريرة، وعلى السنتهم طعم مرارة الحياة والحرمان لابسط الحقوق الانسانية، وهم يعيشون حياتهم بكل قسوة ومذلة، متصدين استخفاف الطبقات البرجوازية من العوائل المترفة

فكان فنانو تلك المرحلة الزمنية من تاريخ العراق وبالرغم من ضعف موقفهم باستثناء من كانوا يمسحون الاكتاف، يعيشون حياتهم الفنية متفانين ومضحين بالغالي من اجل ترسيخ القيم والمفاهيم الفكرية ومحاربة الاعراف والتقاليد البالية

،والطبقية ذات الموازين الغير الاجتماعية الانسانية، ونشر افكار تسودها المحبة والتاخي وحسن العيش، والتطلع الى افاق فيه الشيىء الكثير من امال الحياة التي يحلو فيها العيش ضمن رعاية اجتماعية وحقوق مواطنة تنبذ التقسيمات الطبقية والغير المنصفة لعوائلنا المتعففة من ابناء شعبنا العراقي من كافة اطيافه، وقومياته . لذا كان من واجب الامانة الوطنية ان يبرز من بين المفكرين والمثقفين والسياسيين والفنانين من ابناء هذا الشعب البار، لاخذ زمام امور القيادة وعن طريق النضال السري والعلني، لمحاربة كل المظاهر المدانة والتي لا ترتقي الى المنطق السليم ولا الى النظرة الانسانية من هذه العوائل المترفة البرجوازية للطبقات الفقيرة والمسحوقة و المعدمة الكادحة .

فمن هنا بدأت النتاجات الفكرية والادبية والثقافية والفنية والسياسية، ان تاخذ قرارا باعلانها عن انتقاد واستنكار الانظمة والقوانين لتلك الفترة المظلمة من تاريخ العراق، ونبذ العادات والتقاليد والاعراف التي وظفتها تلك الطغمة من الطبقات المتعالية البرجوازية من اجل الحفاظ على مكتسباتها الغير القانونية والتي استحوذت على الاموال بالوسائل الا شرعية، كأن تشرع قوانينا مجحفة للحد من العلاقات الاجتماعية الانسانية والمبنية على المحبة والاخاء، ورسم معالم طبقات اجتماعية تسودها المحسوبية والعشائرية من الاقطاعيين والملاكين الغير الشرعيين، والهجرة المعاكسة من الريف والاقضية والنواحي من ابناء طبقتنا الفلاحية الى المدن للبحث عن سبل العيش بعد ان سلبت املاكهم واراضيهم غدرا وغصبا .

وفي هذه المرحلة الظرفية القاسية من حياة العراق وشعبه وكما ذكرنا انفا برزت اسماء كثيرة من المرموقين اجتماعيا وفكريا وسياسيا وفنيا، واللذين استطاعوا ان يحركون الشارع العراقي باتجاه المطالبة بالحرية والمساواة، والتي حركت من خلالها مشاعر واحاسيس الفقراء وايقضتهم من سباتهم العميق، وبهذا عمت التضاهرات الجماهيرية، وملئت شوارع بغداد ولا سيما شارع الرشيد، وبدا دور الفنان السياسي بقيادة هذه الحملات الاحتجاجية والتظاهرات الوطنية، رافعين شعارات للمطالبة برفع الرقابة على النصوص المسرحية، وعن الطباعات الفكرية والثقافية، واعادة تشكيل المجاميع للفرق المسرحية ورفع الضرائب المجحفة عن العروض المسرحية، اضافة الى المطالبة بسقوط حلف بغداد، واخراج المساجين المعتقلين زورا من الفنانين والمفكرين والادباء والشعراء والسياسيين، انما اعطيت وعودا كاذبة، لانهم بعد الافراج عنهم من معتقلاتهم، فرضوا عليهم الاقامة الجبرية في محل سكناهم، وعدم السفر والانتقال مابين المحافظات العراقية .

استمر الرواد من الفنانين وبالرغم من الرقابة الصارمة والتي وضعت على تحركاتهم، وتقييد عروضهم المسرحية برقابة ظالمة مجحفة، استمر هؤلاء الرواد بتاليف كروبات من الفنانين المناهضين لتلك الانظمة الطاغية، وتحت مظلة اسماء كثيرة من الجماعات الدينية والاجتماعية مجتمعين في الجوامع والكنائس والمقاهي الشعبية يحاربون ويناهضون القوانين والانظمة الجائرة ورجالها، بشتى الوسائل المتوفرة بين ايديهم انذاك بالقصائد الشعرية الشعبية، والنوادر الساخرة، والنكات المضحكة بحق بعض الشخصيات المتنفذة والمتطرفة من العوائل البرجوازية المتعالية على ابناء شعبنا من الفقراء، وكذالك برزت في هذه الفترة ظاهرة المنولوجات الساخرة والناقدة، والتي كان اصحابها يحيون حفلاتهم مابين حفلات الاعراس، والمناسبات الدينية والوطنية، والتي غالبا ما كانت تنقلب الى تظاهرات احتجاجية، ورفع شعارات مناهضة لتلك الانظمه المجحفة بحق شعبنا، وكذالك بدأ دور الصحافة يأخذ مساره الطبعي باتجاه واجباتها الوطنية، وهكذا برزت على الساحة الميدانية الوطنية، بتناولها شتى المواضيع والمقالات ذات الصلة بحقوق الشعب، ونشر الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة مما ادت الى غلق البعض منها، وزج رؤساء تحريرها في المعتقلات، باستثناء بعض الابواق الاعلامية، والتي كانت تنحاز الى السلطة الحاكمة انذاك، ومن خلال دعم هذه الاخيرة الى هذه الصحف المأجورة .

بقيت الحركات الفكرية والادبية والفنية والسياسية تاخذ بالتوسع وعن طريق منافذها التي استحسنها شعبنا انذاك، فبعد الحرب العالمية الثانية، كانت هناك نهضة فكرية وفنية وسياسية، وظهور صحف محلية ساعدت على النهوض بالحركة الادبية والسياسية والفنية، فبرزت جريدة الزمان، وجريدة الاخبار، وغيرها من الصحف المحلية، والتي كانت تنشر المواضيع الفنية والادبية، وتشجع على فتح صالات للعروض السينمائية والمسرحية، وبعض الملاهي الليلية انذاك، والتي كانت تحيي حفلات غنائية مصرية وتركية وفارسية ولبنانية، ووصلات من المنولوجات الضاحكة والنقدية وانقسمت هذه العروض الى عدة اقسام، بحيث كل منها يمول ويدعم من احد اركان المسؤولين المتنفذين في الدولة العراقية، والتي اخذت الصراعات السياسية تتغلب على حياتهم من اجل الاستحواذ على المناصب العالية والكراسي في الحكم . وبهذا انقسم الفنانون والشعراء الى قسمين مناهضين الواحد للاخر، بحيث اصبح القسم الاول، ابواق دعاية للمتنفذين من رجال االسلطة والقسم الاخر هو بجانب الضمير الحي والذي يمثل صوت الشعب من الفنانين الرواد واللذين يحملون افكارا وطنية ومناهضة لتلك الانظمة المبادة، ومن خلال هذه الظروف القاسية، اظطر معظم الفنانين الهجرة الى ايران وتركيا وسوريا لشق طريق حياتهم وممارسة اعمالهم الفنية، واما اللذين جعلوا من انفسهم ابواقا مأجورة للمسؤولين المتنفذين لتلك الانظمة في العراق، فقد انسلخت حياتهم عن الواقع الانساني وانحازت الى تلك الطبقة الحاكمة المتنفذة بغية العيش في بحبوحة من جراء تزلفهم ومرائاتهم وتملقهم وعدم التزاماتهم بعكس الحقائق المأجورة والظلم السائد انذاك بحق المجتمع العراقي وشعبه الابي، ولهذه الاسباب ظهرت الاعمال الرخيصة والمنولوجات الغير المستحقة التقييم سوى انها كانت هزلية بعروضها وتافهة بمضامينها مجرد لاضحاك اصحاب البطون المتخمة، وهكذا اصبح الفن بيد غير امينة، من اصحابي العقول التجارية الرخيصة وعلى حساب مبادىء الحياة الكريمه، حيث اصبح وسيلة لهو واستمتاع بما يعرض امام المترفين من عوائل المسؤولين المتنفذين، من السلطات الحاكمة انذاك، تضفي على اجوائهم وحياتهم الخاصة اجواء البسمة والتمتع واللهو الفارغ، وشاعت اخبار كثيرة عن هذا الدعم الغير المشروع، مما شجع على مجيىء الكثير من الفنانين وخاصة المطربين والمطربات من ايران وتركيا ولبنان وسوريا والوقوف على مسارح الصالات من الملاهي الليلية الرخيصة وكذالك شجعت الاوضاع السا ئدة انذاك على مجيىء بعض الفرق المسرحية المصرية وتقديم عروضها الساخرة الكوميدية لتفتح افاقا جديدة في مسيرة حركة الفن في العراق .

وبعد هذه الفترة المظلمة من تاريخ العراق واجوائه السياسية والفكرية والفنية، بدأت مرحلة جديدة ساعدت على تغيير مجرى الحياة لشعب العراق، -- مرحلة الاحتلال البريطاني للعراق،-- فتعالت الاصوات الحرة والارادة الشعبية لم تستكين الا باعلان قادة مايس من عام 1941 حينما ساهمت الاذاعة العراقية بالتعبئة الجماهيرية و المنظمات الجماهيرية الحرة والثورية بمظاهرات استنكارية، تظافرت فيها حركة الفنانين العراقيين وكذالك الشعراء والادباء والموسيقيين العراقيين عندما تمخضت اعمالهم عن اناشيد ثورية تعبوية وطنية، فكانت انشودة موطني، ونحن الشباب، ونشيد الفتوة، وفي هذه الفترة بالذات صدحت حنجرة المنولوجست الفنان عزيز علي فتمخضت عن منولوجات غنائية انتقادية ساخرة وتعبوية بنفس الوقت، منها البستان، والشمس طلعت علحرامية، ودنعل ابو الفن،وابو ناجي، وكثيرة هي مما ساعدت على السخرية من الاوضاع السياسية المرحلية التي مرت على العراق انذاك، وكذالك ساهم الشعراء والادباء بقصائدهم، منهم الرصافي، وملا عبود الكرخي، (ويكيبديا ---الموسوعه الحره) .

اعزائي القراء والمعنيين بالادب المسرحي، هنا احب ان اسلط الضوء على الفترة مابين سنة 1907 – 1908 مستعرضا الحركة الفنية عامة والمسرحية خاصة، كانت هناك عروضا مسرحية لا ترتقي الى المستوى المطلوب، او بالاحرى ماهي عروض بالمعنى الصحيح بقدر ماهي فرجة للهو يحضره من اصحابي الترف من الشخصيات التي لا هم لها الا قضاء ساعات من الضحك والطرب في مقاهي اعدت لهذا الغرض، حيث يبدأ منهاجها بالشعر الشعبي الكوميدي الساخر و والمربعات البغدادية الشعبية والمعروفة اذاك، وبعدها يبدأ بفاصل كوميدي يقدمه شخص له من اللباقة الكلامية وموهبة بتقليد الشخصيات وتقليد اصوات الحيوانات، ومن ثم تعليقات تثير نوع من السخرية والضحك والهرج والمرج، منها مهذب ومنها غير مهذب وكذالك تقديم شخصيات كاريكاتيرية يقوم شخص بتمثيلها يثير من خلالها الضحك والاستهزاء، حيث كانت تغص المقاهي الشعبية بهذه العروض، وتتنافس ايضا فيما بينها على تقديم الافضل من الفنون الموسيقية، من قراء المقام العراقي والجالغي البغدادي، ومن اشهر هذه المقاهي هي، قهوة عزاوي، وقهوة السبع، وقهوة السواس، (فنون اللهو والتسليه – لطيف حسن) .

الاخباري والارتجال

من هو الاخباري وماذا نعني بهذه التسمية الغير المالوفة لدينا ؟

الاخباري هو ذالك الشخص الذي يملك اللباقة الكلامية، ولديه حضورا واقتدار على شد انتباه المتفرجين من رواد المقاهي، وبامكانه تكييف جسمه وحركات يديه واصابع كفيه بما يجلب الضحك والسخرية والارتجال من الكلام الذي يثير الضحك ومن غير اتفاق على نص تمثيلي يعد مسبقا لهذا العرض، اي يعتمد على الابتكار الذاتي، ومن اشهر اولئك الفنانين واللذين اشتهروا بتقديم مثل هذه الفواصل الكوميدية رائدها (جعفر لقلق زاده) والذي يقول عنه الاستاذ لطيف حسن في مقال له (ان له الفضل الاول للمساهمة الاساسية في نقل عروض هذا الفن الشعبي من الشارع والساحات العامه، الى حلبات المراقص في المقاهي البغدادية القديمة، وتم تطوير هذا الفن ليقدم من على مسارح الملاهي الليلية)، ، والقسم الاخر لديه الاستعداد على حلق شعر جسمه ولبس الباروكات النسائية وتقليد اصواتها اذا اضطرت ظروف الفرجة الاستعراضية بتقديم شخصية امرأة، وهو يرقص ويتميع بمفاتن خصره، ولهذه الاسباب سمي (بالشعار) اما القسم الاخر والذي يرقص ومرتديا دشداشة طويلة وحزاما يشد خصره وواضعا فوق راسه كبوسا كبيرا ويقرأ المنولوجات الغنائية الساخرة من اجل اضحاك المتفرجين وهو ينقر باصابعه على الايقاع الذي يحمله على جنبه (خصره) ويسمى ب (الدنبكجي) او(القرقوز) وقد اشتهر بتمثيل مثل هذه الشخصيات في الافلام المصرية الفنان المصري المرحوم محمود شكوكو، وقد كانت هذه النماذج في الاعراف والتقاليد الاجتماعية انذاك مثيرة للاشمئزاز، ومن المعيب على اي مواطن ينتمي الى طبقة اجتماعية من المتعالين على المجتمع (البيروقراطين والبرجوازيين) ان يمتهنوا مثل هذه المهنة، لذا كانت تعتبر من المهن المشينة والغير المحترمة انذاك .

ان الملهاة المرتجله والفواصل المضحكه والمشاهد الهزلية وخيال الظل ومسرح الدمى، جميع هذه الانواع من العروض الشعبية كانت غايتها، اضفاء اجواء المرح والمتعة لاغير، ومازلت اتذكر اخي وزميلي الفنان المرحوم المخرج السينمائي برهان الدين جاسم وهويحدثني عن الفنان الكوميدي العراقي المرحوم صفاء محمد علي وعن سيرته الفنية وعن علاقته بهذه المدرسة من الفرجة المسرحية، وقد تبين لي فيما بعد بأن هؤلاء الفنانين، ماكانوا يقدمون الا صفاتهم الحياتية الواقعية وتعليقاتهم الاذعة والساخرة والتي تعكس معاناتهم من قساوة الحياة الاقتصادية عليهم، وظلمها وتأثرهم بما يحيط من حولهم من العادات والتقاليد والتي كانت السبب في انتكاس حياتهم الاجتماعية من فقر وعوز وحرمان، وهذا مالاحظته على اخي وزميلي الفنان المرحوم المخرج السينمائي برهان الدين جاسم والذي اظطر الى بيع داره ليصرفه على انتاج فلمه الروائي الغنائي درب الحب من بطولة الفنان فاروق هلال والفنانه مديحة وجدي والفنان المرحوم خليل الرفاعي، ان هؤلاء الفنانين والمتنوعي المواهب، من امثال المخرج السينمائي برهان الدين جاسم (ابوسمير) كان شاعرا يكتب نصوص اغاني افلامه بنفسه، ويؤلف قصص افلامه بحوارات ودايلوجات كوميدية يشوبها شيئا من السخرية والكوميد، وحياته الخاصة والعامة لا يمكننا فصلهما الواحدة عن الاخرى، لانهما مزدوجتان في ردود افعالهما ونظرتهما الى الحياة، وهذا ماكان يطرحه من خلال افلامه المعروضة مثل فلم انا العراق، واسعد الايام، ودرب الحب، والخ ----- انني ذكرت الفنان المخرج كمثال عاصرته اشبه بأؤلائك القسم من الفنانين الرواد والذين قدموا الغالي والرخيص من اجل مواصلة اعمالهم، وقد تكون لا ترتقي الى مستوى الطموح، الا انها كانت اللبناة الاساسية على طريق ترسيخ الخطوات الاولى، وتطويرها على ضوء المراحل الاحقة من مسيرة الحركة الفنية في العراق .

لقد كان المسرح العراقي في هذه المرحلة من تاريخ العراق يطرح فرجة كوميدية مستمدة افكارها من الحياة الشعبية مجسدا العادات والتقاليد البالية من خلال حكايات كوميدية هزلية وعن طريق شخصيات شعبية من الواقع العراقي تطرح ماعندها من تشخيص السلبيات في المجتمع، فقد ذكر لنا الفنان الراحل الرائد الاستاذ حامد الاطرقجي في حديث له، باتهم كانوا يمثلون في ساحات الدور الكبيرة، مستعينين بشراشف منازل ذويهم واكسسواراتهم ومستلزمات ديكوراتهم، واحتياجاتهم من الكراسي والاثاث البسيط، وأضاف بانه والاستاذ الفنان الرائد حميد المحل كانوا يؤديان ادوارا نسائية، ويجاريه في ذالك الفنان الرائد فخري الزبيدي والفنان الرائد الحاج ناجي الراوي، والذي فيما بعد تشكلت منهم فرقة الزبانية اضافة الى الفنانين المطربين المرحوم ناظم الغزالي والفنان المرحوم المطرب رضا علي، وقد ذكر لي اكثر من مرة بانهم كانوا يقدمون اعمالهم الهزلية الكوميدية ومن دون نص يذكر بقدر مايتعلق الامر بفكرة يتفقون عليها ومن ثم توزع الادوار فيما بينهم ومن ثم يقومون بالابتكار والارتجال لمشاهد كوميدية، لا يعرفون وقتا لنهايتها الا اذا عجزوا عن تكملة مشوارهم التمثيلي، وهذه الفرجة من المشاهد الكوميدية الهزلية ايضا كانت تعرض من على سطوح منازلهم اذا اقتضت الحاجة الى ذالك، وامام حشد من المتفرجين واللذين لهم علاقة قربى وصلات صداقة مع الممثلين، ومن دون ثمن يذكر باستثناء ماكان يتبرع به بعض المشجعين لسد نفقات مصاريفهم، او كانوا يقدمون اعمالهم في جمعيات خيرية تعتمد بتقديم هذه العروض على التبرعات الخيرية والتي كانوا يجمعونها من خلال ماتجود به ايادي بعض الخيرين من العوائل العراقية، او تقدم هذه الاعمال الارتجالية في مناسبات وطنية او مناسبات تخرج الطلبة من صفوف المرحلة المنتهية انذاك .

وقد ذكرت بعض الدراسات والبحوث التوثيقية بأن المسرحيات الشعبية والتي كانت تقدم في تلك المرحلة من تاريخ العراق، ايضا لا ترتقي الى مستوى الطموح، وبعيدة عن مواصفات العروض المتكاملة تاليفا واخراجا طيلة نصف القرن الماضي وحتى فترة تبادل الزيارات مابين الفرق المسرحية المصرية ( فرقة يوسف وهبي، فرقة فاطمه رشدي، فرقة جورج ابيض) وانتقال الفنانين المسرحيين العراقيين من العراق وسفرهم الى مصر والاحتكاك بالفنانين الرواد من المصريين، والعمل ضمن فرقهم المسرحية واكتساب خبرة وتجربة من خلال الاشتراك بعروضهم المسرحية ولا سيما الاستاذ الكبير الفنان الرائد وعميد المسرح العراقي الاستاذ حقي الشبلي والذي سافر الى مصر وعمل مع فرقة فاطمه رشدي مايقارب السنة كاملة، اكتسب من خلالها خبرة وتجربة اغنته بثقافة مسرحية، وبعدها سافر الى فرنسا ودرس فيها اربعة سنوات واكتسب من خلال دراسته ثقافة مسرحية زادته خبرة وتجربة ، وبعد عودته الى بغداد تغيرت مسار الحركة المسرحية العراقية وتطورت، وبدعم من الحكومة العراقية وضمن تلك المرحلة من تاريخ العراق استطاع الاستاذ حقي الشبلي ان يفتتح قسما للفنون المسرحية في معهد الفنون الجميلة، بعد ان كان مقتصرا على الفنون الموسيقية، وضم فيه من خيرة طلابه في الدفعة الاولى من الفنانين الرواد، واستطيع القول بأن الدراما المسرحية الشعبية العراقية انذاك قد تطورت واخذت مكانتها الحقيقية بعد مجيىء الاستاذ الكبير حقي الشبلي، وبعد تخرج الدفعة الاولى من اساتذتنا الرواد من امثال المرحوم الرائد جعفر السعدي وابراهيم جلال رحمه الله برحمته وسامي عبد الحميد امد الله في عمره، واخرون من اساتذتنا الكرام وزادها تالقا ونجاحا ظهور وجبة من الكتاب الموهوبين والمثقفين واللذين تتلمذوا على ايادي اساتذتنا من رواد الحركة المسرحية في العراق، يتقدمهم في ذالك الاستاذ الرائد والمتالق يوسف العاني، والاستاذطه سالم، والاستاذ الكبير عادل كاظم، واللذين اغنوا الساحة المسرحية العراقية بنصوص استمدوا افكارها ومضامينها من واقع المجتمع العراقي ومن تاريخ الحضارة العراقية ولا سيما بعد مجيىء الاستاذ المرحوم قاسم محمد، والذي اغنى المسرح العراقي بنكهة جميلة بتعريقه لبعض النصوص العالمية، ومسرحة بعض الروايات لكتاب عراقيين من امثال الروائي الكبير غائب طعمه فرمان في مسرحية النخلة والجيران والتي قلبت الموازين للعروض المسرحية الشعبية، واثبتت حضورا اكاديميا للمسرحيات الشعبية في السبعينيات .

وهكذا ودعت الدراما الارتجالية فترتها في العراق، واسدال الستار عن تاريخها، وبدء صفحة ناصعة من العروض المسرحية الشعبية، من خلال نصوص متكاملة من الافكار التقدمية، ومن توفر عناصر فن كتابة الدراما من الحبكة والبناء الدرامي، ورسم معالم شخوصها والتي تتحرك وفق صراع محبوك يتجه الى العقدة والذروة والحل، جسد عروضها الناجحة اساتذتنا من رواد المسرح العراقي، واعادوا الحياة والديمومة المسرحية بتجارب خارقة مبدعة تكللتها نجاحات عروضها من على مسارح بغداد والوطن العربي .

 

جوزيف الفارس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم