صحيفة المثقف

المطاف

قصي الشيخ عسكرفابتسمت الحاجة، وأخذت احداهما الأُخرى بالأحضان.

3

لم يكن من شأ ن النمر أن يذكّر محدّ ثه أو يلحّ في أيّ طلب مهما كانت أهمّيّته مرّتين.يكفيه أن يشير الى سامعه، ثمّ تغنيه هزّات رأسه، وإشارات يديه عن الكلام.كان يحاول أن يخفي انفعالاته تجاه من يخالفونه الرأي، فلوجهه القدرة على ان يستعيض بالفرح من الحزن، والعنف بالهدوء ربما...وصفه مناوؤه بكونه جبانا، لكنه كان يتحكم بانفعالاته كلاعب البوكر .لقد كان مثاراعجاب المستر"دوسن"نفسه الذي ثنى عليه أكثر من مرّة، فقال بعض المغرضين عنه :انّ فرخ الأنكليز فاق أسياده ببرودة الأعصاب.

مرّة واحدة فقط كرّر النمر طلبه مرّتين، ولم يتوان عن الرجاء.كان كالذّئب الجريح، فكيف يخرج من المأزق بشكل لا يبعث على الريبة؟إنّه يدرك تماما أيّ شخص عنيد يقف في طريقه، فعلى الرغم من أنّ العائلة الجديدة انضمت الى عشيرة آل حمود أكبر العشائر في شطّ العرب، فلم يلح على عبد احساس المنكسر قط، فكثيرا ما استقطبت آل حمود قادمين جددا، واستوعبتهم حالما خلعوا انفسهم من عشائرهم، فظلّوا ينعمون بالأمان، في الوقت نفسه، حجب عنهم حقّ الأصالة، امّا عبد فقد غاب عن باله أن يلتزم الحدود المتعارف عليها التي تخص القادمين الجدد، زاده شعورا بالزهو، شراؤه البيت والبستان الصغير، فكأنّه اشترى نهر جاسم كلّها، وفي قرارة نفسه وذلك ما عرفته أخته، انّه لا يقلّ شأنا عن الحاج عبّاس أو الباشا نفسه، ويوم وقف بوجه جامع الضرائب غاب عن فكره حماية الحاج له ولا حتّى واسطة الباشا، الحق، ردّة الفعل أعجبت الباشا نفسه، ففكّر أن يجعله رأس جماعة ينوي في المستقبل تشكيلها لتكون واجهة للعنف اذا ما تطلّبت الظروف، ولعل تفكيره هداه الى أن يجعل من عبد حارسه الشخصيّ الذي يرافقه في حلّه وترحاله، لكنّه أجّل الموضوع الى حين، مع ذلك فكثيرا ما تنقلب الأمور رأسا على عقب، وتجدّ احداث ليست على الخاطر ولا في البال.من كان يظنّ أنّ الاعتداد بالنفس، والغرور، يدفعان عبد الى التطاول بعيدا، فيضع نفسه بموازاة النمر، فيجدالأخيرسمعته، ومستقبله، على وشك الانهيار بفضيحة، وهما الأمر الذي دفعه منذ سنوات الى التخلي عن أهله، فمن أبصر المشهد، وعرف عبد، وتهوّره لا يستبعد أن تستفيق شطّ العرب من أقصاها لأقصاها، على فضيحة جديدة، ولو فرض سلفا أنّ رقيّة لن تطاوع قلبها، وتفرّ مع عبد، فلا بدّ أن ينكشف المستور اليوم أو غدا، فتلوك سمعتها الألسن، وبذلك يدخل الباشا في معمعة جديدة مع الأصدقاء والأعداء، فيكون العرض والشرف محور الحديث.....

كان عليه أن يسحق الأفعى من رأسها تماما ......

ذلك اليوم حدّث الحاج عبّاس عمّا رآه بعينيه.وقتها كانت مفاجأة. حقيقة اغرب من الخيال.رقيّة الوحيدة المدللة تقع بحبّ فتى غريب، والأدهى انّه لا يكرهها بقدر ما اندفع بحقده على عبد .اتق شرّمن أحسنت اليه، وقفزت فى ذهنه والدم يغلي في عروقه قصة الأفعى التي لدغت حمار الفلاّح حالما شعرت بالدفء، لكن من يدري أنّ هؤلاء المشرّدين الغرباء سيعضّون اليد التي آوتهم لا لشيء

بل طلبا للأجر والثواب:

- نستطيع أن نطردهم، ماداموا خانوا الأمانة"وأردف، وحيرته تطغى على غضبه" بيدنا النفوذ والمال، فلم لانلحق الضرربهم.

وأوّل ما خطر بذهنه أن يذهب الى العشار، ليجتمع بأبنائه الثلاثة فيتداول الأمرمعهم، لكنّ النمر اعترض بقوله:

- ذاك ليس خلافا على صفقة تجاريّة بل قضيّة تخصّ الشرف ، ولمجرّد أن ينتشر الخبر يضحي كالنار التي تأكل الأخضر واليابس، فلم تعرّض نفسك لإشاعات أنت في غنى عنها، انس أنّ لك أولادا يسكنون العشّار!

- كلّ ما أخشاه أن نتدارك المسأ لة قبل أن يقع ما لا تحمد عقباه

قالها وفي تصوّره أسوأ الاحتمالات، كأ نّه يحمل من جديد على كاهله الحرب العالميّة الاؤلى.اهرب ايّها الجنديّ .اهرب الى حيث لا تدري.الموت أصعب الاحتمالات التي واجهته .النار ولا العار، والحاج عباس لا يفكّر بالموت، والعار، والنار إلا لحظة هربه، وجد نفسه جنديّا في صفوف الأتراك، يقفز من خندق الى خندق، لم نحارب؟امن اجل تركيا؟ لنهرب، ولكنه العار، فالأنكليز كفرة. إن كفروا فلأنفسهم، وروحك ياحاج لم تعتد العنف.الموت هو هو في أيّ مكان، ومن حسن الحظ أن لاتكون في مكان بعيد على حدود روسيا أو اليونان، فيصعب عند ذاك الهرب.اهرب.ليس من ناقة أو جمل لك في الحرب العظمى، ومن يذكرك؟الأمان.روح الشّاب عبّاس تعشق الأمان.عندما يجد نفسه بين العشائر، وتنتهي الحرب بانتصار الأنكليز يعود الى حياته الوادعة.وقد فاضت أيّامه بعد أن انتهت الحرب بما تجول به خواطره من أُلفة ومحبّة، فانبسطت(بيت جوك) أمامه ببساتينهاالفتيّة العذراء، فقام مكبسه، واتّسعت أرباحه، وكم اغتمّ وحزن يوم ومضت غيوم العداوة بين أهله وآل النّمر، وكم تنفّس الصّعداء يوم انكشفت الغُمّة، وتراجع آل النّمر وانزاح كابوس الخراب، فكبر كلّ ماحوله من جديد الأرض والمكبس، وأنسته التجارة ما كان من محنة الحرب.كان اندفاع عبد يذكّره بجرأة افتقدها منذ زمن بعيد، ولعلّه اختاره لهذا السّبب.ويوم استفزّه محصّل الضرائب بدا ممتنّا لعبد بعد الواقعة، وإلاّ كادت هيبته تسقط أمام العمال وفي شطّ العرب كلّها.الحدث أثبت للناحية أنّ للحاج نفوذا على شطّ العرب، وأنّه لا يلجأ الى الباشا الا في الحالات القصوى، وكاد عبد لولا المصالحة التي تمّت بين الناحية والحاج أن يساق الى محكمة البصرة فيقضى ستة أشهر في السجن بدعوى اهانة موظف خلال أدائه الواجب الحكوميّ، أمّا ماحدث فقد جعل الأهالي يظنون أنّ للحاج قوّة لها القابليّة على تأديب الدولة، وجعل الناحية تحسب ألف حساب في التعامل مع آل حمود.لقد انتشى الحاج لسلوك عبد حدّ الثمالة، فاقترب منه اكثر، وحمّله مهام أكبر، من غير أن يدرك أنّ هذا الشاب العنيد، ستدفعه جرأته الى التطاول، فيعبر حدودا محضورعليه تجاوزها.لا ينكر أنّه أخطأ اذ مكّن الغريب من الدخول الى بيته .الشرف كاللون الأبيض، وسجلّ "بيت جوك"يكاد يخلو من الفضائح .سوف تصبح الفضيحة تاريخا مهولا يعبر به الأهالي عن سنوات الماضي. وممن؟من رقيّة بنته الوحيدة المدللة وصُغرى أبنائه.في السنة التي شاهد فيها الملا علوان الحورية بنى الانكليز كندا، وفى سنة الطاعون…..وقد جاء الى الناحية مدير جديد سنة عشقت فلانة…… حدث كذا السّنة التي عشقت فيها رقيّة بنت الحاج عبّاس الغريب.فيا ألسن انطقي، ويا فضيحة انتشري.وفي كلام النمر عزاء ما.كانّه عرف ما يجول برأسه:

- لذلك اخبرتك يا خال.

- اخشى ان يسبقنا الزمن.

- لا ابدا فنحن في أوّل الطريق.

- الا تظنّ انّه"وتردد كثيرا، ولسانه يلوك الكلمة، ولايهضمها"

- حقا رأيته في وضع لا يوصف لكن لا تذهب بك الظنون بعيدا

فقال والغيظ يأكل قلبه:

- الكلب أكل عقلها.

- لقد رأيت كلّ شيء لكنّي لم أسمع كلّ شئ

وبدا الحاج مستسلما، يتعثّر بيأ سه حتى كاد يفقد القدرة على الكلام:

- ماذا لو ...داهمنا؟

ولم يكن النمر جاهلا لشخص خاله الذي فقد القدرة على الجرأة بالتالي أخذ زمام المبادرة:

- قلت لك يا خال دعني اتصرّف، لا تنس أنّ القضية تعنيني مثلك، وكلّ ما يهمّني أن يظلّ الأمر سرا بيننا نحن الأثنين، حتّى رقية نفسها.

كأ نّه وحده في جزيرة من رمال تداهمه عقارب وكلاب، والفضيحة على الابواب .مايخفف عنه وجود النمر معه.ماذا كان بامكانه ان يفعل من دونه ؟كان يمكن أن تشبّ الفضيحة حتى تتحوّل "بيت جوك" الى محرقة كبيرة، فيحمل الهواء رائحة عرضه الى كلّ بيت، وأمامه خياران لاثالث لهما:الفضيحة، أو القتل، والثاني أهون الشرّين.كان النمر أقرب الى الحاج عبّاس من أولاده الذين انحدروا من صلبه، فوق كلّ ذاك بقي ملتزما بوعده، ولم يتخلّ عن فكرة الاقتران برقيّة.منذ تلك الحظة أصبح مدينا لصهره الى درجة أنّه بات يقلّده في سلوكه وتصرّفه، وكان النمرعند وعده، فقد تمّ الأمر بموعده المحدد، ولم يثر الشكوك، وحول الحادث دارت قصص، واختلقت حكايات كثيرة لاتمسّ بيت جوك من قريب او بعيد .القرية كلّها عبّرت عن أسفها لحادثة القتل الاؤلى على أرضها، وأبدى الخال وصهره اهتماما ملحوضا للوليّ الاْب، وابنته الصبيّة التي أظهرت نبوغا مبكّرا حتّى قال عنها النمر ذات يوم:لو كانت في نهرجا سم مدرسة لسجّلت الصبيّة على نفقتى فحرام أن يندثر مثل هذا الذكاء........

ثمّ زفّت رقيّة الى الباشا.......

ومرّت الأيّام والسنوات، فنسيت رقيّة خطأ الصبا، وجموح الشباب، كما هو ظاهر الحال، فغفر لها النمر غلطتها، ولم يواجها بها طوال عشرتهما، والحق انّها خدمته ولم تقصّر في حقّه.عاشت كلّها له ولا يطّلع على القلوب الا خالقها، فأقرّت بما هو واقع من دون أن يساورها شكّ في أنّ الباشا صبر كثيرا على مسأ لة الذرّيّة حفاضا منه على تحالفه مع الخال الحاج عبّاس، لكنّ قلقا ما ألحّ عليها بعد وفاة والدها...لابد من أن يأتى يوم يعلن فيه الباشا عن رغبته في الزواج قطعا للألسن بعد أن تبيّن أنّه ليس العلّة في الانجاب، وحفظا للمال من أن يذهب الى أهله الذين رغب عنهم لو بقي الحاج على قيد الحياة لعرض على النمرأن يتزوّج، فمن يا ترى ستكون ضرّة رقيّة وابنة من هي؟

كيف تقتحم عليها امرأة أخرى مملكتها؟

وكان النمر يتطلّع الى المستقبل ويسأل نفسه: لمن كلّ هذا المال؟وللمرّة الاؤلى وجد نفسه تكاد تضيق بالصبر.الأيّام تمرّ، ولشدّ ما حذِرَ الزمن.تطاول خياله بعيدا الى حدّ طرد عن عينيه النوم، فأ وشك الليل على النفاد في حين غطّت رقيّة بنوم عميق. انفاسها تلاحقت بطيئة.كأنّ لحظة غضب ساورته، فا متدّت يده لتضغط على رقبتها، أو لتمسح عنها خيالا لاح شفّا فا، ثمّ ارتدّت قبل أن تلمسها.كم من السنوات مرّت.كانت شفتاه تنطبقان على شفتيها، في الايّام الاؤلى، فيخيّل اليه أنّ هناك شخصا يراقبهما.كان يتابع رحلاته السنويّة الى البحرين ولندن وبيروت، للشحن، ولفتح أسهم جديدة، ويعود اليها محمّلا بالهدايا، فيجدها تحمد الله على عودته، وهذا يكفيها.كانت نظرته تختلف تماما عن أغنياء "شطّ العرب" . فكروا بالاراضي، واكتفى هو ببستان واحد، وهداه عقله الى " الدوبة " و" اسهم بيروت " وللشحن بين لندن والبصرة ولو كان يقيس الامور بمقياس اهل شط العرب لأعرض عن رقية، لكنه، تناسي أو تجاهل، فنسي.كاد ذات يوم على وشك أن يخسر رقيّة، فيفقد رهانه مع نفسه والزمن، والناحية التي وضعت ثقتها فيه، وما زال يسأل نفسه، ويعيد حساباته، كيف اقتحم ذاك الغريب الأجواء، وليس ببعيد ان تنظر عين نهر جاسم الى غيره، وهي مبسوطة أمامه عينيه مثل كيس لليانصيب تختلط فيه الأوراق والحظوظ:

- انظري هذه البدلة من بيروت !

- المهمّ سلامتك.

- انا حلوة يا عبد؟

- ملكة والله.العن أبو الملكات!

- ما رأيك يا داهية ولد يحمل صفاتنا نحن الاثنين؟

تختلط الأوراق كلّها وتصبح بين يديه.بزواجه من ابنة الوليّ يقبض على نهر جاسم كلّها، وربمّا يصلح ما فسد ذات يوم.كلّنا سواء .لاكره، ولا بغض.كلّ شيء جميل.ولم يبق الا القليل، وشط العرب تسير باتجاه العاصمة .السنوات تقترب منه فيمدّ يده اليها ليجرّب حظّه.كان القمر غائبا تلك الليله، وفي العتمة تغيب ملامح الأشياء، ماعدا خيالاته التي تسطع بوضوح .انّه يشفق عليها ويتألّم لها، لكنّ السؤال ألح عليه…من هي من بنات القرية تستحقه؟ أسماء كثيرة ووجوه مختلفة. أرض عن واحدة.فقط اقبل. .. فقط فلانة أو أشر إلى أيّ بيت.ولسبب مجهول لا يدريه .محا من خاطره كلّ الأسماء، وبقي خياله معلّقا بالداهية، وابتسم في سرّه.

- يا داهية لم ادعيت بعد خروجك من البنك في العشّار أنّك لم تستلمي النقود؟

- يا سعادة الباشا، خرجت من البنك، والشك يساورني أنّ لصوصا يتربّصون بي .كان معي عبدك فخاطبته يا له من بنك لعين .امس أخبرونا أنّ القرض سوف يتاْخر، واليوم لم يمنحونا القرض والله سوف اْخبر الباشا، وعندما همّ عبدك الغبي بأن يفتح فمه ويفضحنا، اضطررت لاْن اأمسكه من ياقة السترة واْلطشه بالاْرض، كاد يتجمّع من حولنا الناس الذين ظنّوه يتحرّش بي، لينهالوا عليه ضربا، فاأمرتهم أن يتفرّقوا ولا يتدخّلوا بين العبيد واْسيادهم.

- داهية والله داهية، وماأخطأ من سمّاك كذلك ايّتها الاْصيلة.

قالت بين الدعابة والسخرية:

- ماذا يا مولانا الباشا؟اْهناك ما يقال؟

- لاتتعجلي ففي دعوتي كلّ خير ان شاء الله

وضحك في سرّه، وبدا له اْنّ ضحكته تنطلق من الماضي البعيد وتوشك اْن تهزّ المكان كلّه، وتنذر اْن تنقلب الى صخب يخالف الفرح. كان الماضي يشخص اليه ساطعا، قويّا، ويملي عليه، اْن يصوغه، خلال الاْيام التالية، بشكل يرضي طموحه على الاْقل. الداهية تكاد تكون متكاملة من الناحية الجماليّة، ولم تعد تلك اللاجئة المجهولة الاْصل . اْهل القرية ينسبونها لآل البيت، ويحلفون بروح الولي اْبيها، فيقيمون له النذور، ويحكون عن معجزاته، ويكفيها فخرا اْنّ دوائر الدولة غيّرت اسم القرية القديم على اسم أبيها .لم لا يعرض عليها الفكرة؟لعلّه يرزق منها بولد يرثه، فتمتدّ يد الماضي المغلق اليه بالودّ؟

ومن الواضح للباشا اْنّ موافقة الداهية كانت مشروطة برضا الحاجة رقيّة ومباركتها، فجاء الردّ، وهي تنشج من الفرح:

- تزوّجيه اْنت اْفضل من اْن تاْتي غيرك لتستولي على اْمواله وتحمل اسمه.تزوّجيه فلن تقرّ عيني لسواك!

بدت ليست رقيّة الاْمس. كاْنّ ظهرها تقوّس من همّ ما، ونحف وجهها. بعد وفاة والدها داهمتها الهموم .ذالك الطول ..القوام..المشية..صفحة الخد..ذوت كورقة صفراء داعبتها نسمة خريف. لا بدّ للباشا من اْن يتزوّج، لكن من هي التي تستحقّ اْن تكون ضرّة الحاجّة رقيّة، ومن هي التي تدخل البيت فتعزل الملكة عن عرشها.ابنة من؟ وهمّ ما بعده همّ؟ فهل تثلج الداهية اْخت الغالي صدرها؟

- ستعرفين اْني لم اْجي لاْكون ضرّة قط .

- يا داهية لابد من اْن تاْتي ضرّة في هذا البيت.

تجاهلت عدم فهم الحاجة لتلميحها:

- لكن يظلّ هناك شرط ثقيل قد يزعج الباشا.

- ان كنت تقصدين المهر فاطلبي من الدينار الى الاْلف.

- لا اْبدا، مهري سيكون مصحفا فقط، الحاضر مصحف...

توقّفت، كاْنّها لاترغب اْن تضيف شيئا:

- والغائب؟

- دعينا في الحاضر الان.

- داهية.الباشا لا يبخل عليك!

فتجاهلت كلامها:

- تعرفين اْنّي اْقسمت اْلا اْخلع السواد.

فربتت على كتف الداهية وقالت مبتسمة:

- ادفعي كفّارة اّيّتها الصبيّة المشاكسة، فلن تلبسي ثوبا اْحمر اْو اْخضر، بل ساْختار لك فستانا اْزرق وطرحة بيضاء، وعديني اْنّك تنسين الماضي من اْجلي اْنا على الاْقلّ.

بابتسامة ماكرة:

- الم اْقل لك اْني ما جئت لاْ كون ضرّة لك!

وخرجت رقيّة من عند الداهية، كاْنها صغرت عشر سنوات، وكلّ ما حولها استعاد رونقه، كوجهها الذي دبّ فيه السرور ، وقامتها التي سرى فيها ماء الحياة.جبل ثقيل من الهمّ والخوف انزاح عن صدرها.كانت هي نفسها تزفّ الخبر الى الباشا، فلم يمرّ أكثر من اْسبوع حتّى استفاقت"نهر جاسم" على الخبر الجديد، فاهتزّت دهشة وطربا.بعد ممانعة طويلة وافقت الداهية على الزواج، ورأى الناس أنّ الله بسط نعمته وفضله على العلويّة الطاهرة التي فقدت أخاها وأباها. سنين طويلة مليئة بالمرارة والغم، وكانت نهر جاسم تعيش معها حزنها وصبرها، وتدعو الله أن يمنّ عليها بالفرج، والحقّ أنّ أهلّ نهر جاسم رأوا في الباشا الشخص المناسب، والكفء للداهية بنت الوليّ وتابعوا وهم في غشية البهجة والذهول، عرس الداهية وهي تنتقل من بيتها الذي عاشت فيه وحيدة سنوات طويلة الى بيت الباشا، بعربة يجرّها حصا نان، ترافقها الحاجة رقيّة ووالخادم ملكة الليل.....

كانت تبدو للمرّة الاؤلى بثوبها الاْزرق، وطرحتها البيضاء....

تلك الليلة وكانت جمعة ....

ظلّت نهر جاسم تفيض فرحا وحبورا.....حتّى الصباح .

قالت راوية نهر جاسم :

ما رؤي ضرّتان قط تحبّ احداهما الاْخرى مثل هاتين المراْتين!

كانتا اْمّا وابنتها اْو شقيقتين!

على الرغم من ذلك، فقد كانت الداهية متحفّظة الى حدّما اذ اعتادت الاّ تشير الى التفاصيل لاْنها اْخذت بعين الاعتبار العشرة، وطول السنين بين الحاجّة والنمر.

فبعد شهور مرّت على الزواج، طلبت من الحاجة اْن تصحبها لزيارة قبر الولي في موضوع ما. كان اليوم صباح الاْثنين عندما انطلقت بهما العربة الى قبر الوليّ، فتوجست الحاجّة رقيّة شيئا ما لأنّ الداهية اعتا دت أن تزور الضريح عصر كلّ خميس، فإذا ما جدّ نذر أو مناسبة أو التفتت إلى أمر ما، زارت الضريح أوقات العصر، بالتحديد بعد الساعة الرابعة حين تخفّ وطأة الحرّ.هناك حيث تشعل البخور ثمّ تعمل الشاي، وتجمع بعدئذ ما تجده مكدّسا من قطع نقديّة وورقيّة اعتاد أن يلقيها، طوال الأسبوع، أصحاب النذور والمطالب، فتشتري بها شايا، وحلوى للزائرات او تتبرّع بالباقي إلى من يستحقّه، وتظلّ شأنها في كلّ جلسة، إلى وقت المغرب، تحاور الزائرات اللائي قدمن يتبرّكن ويتحدّثن عن معجزات الوليّ :

- هذه القرية تنام مطمئنّة والوليّ الشيخ يحرسها من كلّ شرّ، وجوده بركة، وقبره فأ ل خير.

أين كنّا قبله؟

من كان يصدّق حتى اسمنا كان انكليزيّا !

- نحن الذين نصلي ونصوم!!

- الله قدير لمجرّد أن وصل الشيخ رحل الإنكليز الكفّا ر.

- الشياطين تهرب حالما ترى الملائكة.

- هذا النهر الأعمى لم يكن فيه سمك ولا سلاحف أو ضفادع كلّنا يعرف ذلك لكن ما شاء الله حينما انتقل اليه قبر الوليّ عجّ بالسمك وماج بالحياة مجرّد ما يرمي الصيّاد الشبكة حتّى يعجز عن سحبها.

ولعلّ بعض الحاضرات يستهويهنّ الحديث عن الجنون والسحر، وعمّا يجري في الظلام الدامس على جبل عريزة، أو يتحقّق في منطقة الخندق بالعشار من سحر على يد مهرة يزرعون الجنون والشلل، وكان أبوها الوليّ يشفي من ناله السحرة بكيدهم، رغم ذلك تحدوها الرغبة لأن ترى المكان عساها تلجأ الى هذا السلاح في يوم ما.....فتزور مع إحدى ضيفات الضريح الخندق بحوانيته القديمة ذات المضلات البيضاء والواجهات القاتمة، وتكرّر الزيارة وحدها، فتختزن ذاكرتها الوجوه، وتعاود الكرّة كأنّ الزمن يتشعّب كالروافد ليصبّ في نهر كبير يدعى عصر الخميس . يوم مبارك، وعند الداهية، لكلّ يوم سمته وشكله .مبارك يوم الجمعة لكلّ الأحوال .وخير وقت للسفر السبت. الأحد يأخذ المرء زينته .الثلاثاء أيّتها الحبيبات تستحب زيارة القريب والصديق.الداهية حددت الأيّام للنساء، واختصت لنفسها بساعات، لكنّها اختارت يوما آخر .اشعلت شمعتها داخل الضريح، ونشرت البخور، ثمّ أغلقت الباب خلفهما، فأدركت الحاجّة أنّ هواجسها كانت دليلها لخبر جليل تخصّه بها الداهية. جلستا متقابلتين، وشفاههما تنمّان عن تسبيحة طويلة .بعد إطراقة هوّمت إلى الماضي السحيق.رفعت الداهية وجها بعينين تتنفّسان الدموع أو تكادان تنفضان عنهما نوما ثقيلا:

- ايّتها الحبيبة أتعرفين أنّي صحبتك إلى هنا لأقول لك آن الأوان.

ترى غضبا . نارا، وتبدو لعينيها نهر جاسم من تحت الرماد. الحمرة والسواد، يا ترى هل استبدلت الداهية الأسود بالأزرق لكي تعود بالسنوات إلى عهد الصبا، شيء ما على وشك أن يفصح عن نفسه، والدقا ئق الهائمة حول القبر تستفزّها:

- دعي الأمر لصاحب الأمر.

ردّ ت بشيء من العصبيّة المخنوقة:

- الوليّ مات وحصلت منه قبل أن يلحق بربه على وعد بأ ن أحقّق لنفسي وله ما أعرض هو عنه لسبب لا أدركه.

أطرقت الحاجة رقيّة كما لو كانت تواجه عاصفة تلوي قامتها:

- أنا مثلك يا داهية أعيش الماضي لكنني تركت الأمر لصاحب الأمر.

هل نسيت؟ فراسة الداهية لا تخيب .مهما يكن، فهي العزيزة على نفسي. ملكة الغالي:

- يا غالية من أوّ ل من سماك الملكة؟!

فغالبت دمعة ولم تقو على الكلام، فواصلت:

- عاهديني بالمصحف على أنّك لن تفشي السر!

فتحاملت، ونطقت كمن قدم راكضا من مسافة بعيدة:

- قلبي لايطاوعني أن أراك بمحنة . أخشى عليك يا داهية. أخاف أن تضيعي فتخسري كلّ شيء .

- لا تخافي على الداهية، انّها تحسب لكلّ خطوة ألف حساب .

وبعد صمت مثقل بذكرى قديمة امتدّت على مساحة سنين طويلة:

- لي صبر الجمل !

ما الذي تريد أن تفعله الداهية؟ وأيّ سبيل تسلك إلى الثأ ر؟ تزوّجت لتنتقم. آه لتلك السنين التي غطّت الجمرات. لم انبعثت فجأة من تحت الرماد بهذا العنف. كان يمكن أن أكون لعبد في يوم ما أنا الملكة، فتصبحي أيّتها العزيزة عمّة لطفلي، ثمّ تتذكّر عقمها فتزوغ عيناها ثانية عن الماضي، كطير فرّ من شبك:

- تذكّري أنّه زوجك، وهو سترك. أنت لم تكشفي جسدك لأخيك ولا أبيك، المرأة عورة لايطّلع عليها إلا زوجها.

فقالت بغمزة ماكرة:

- وهو أبو إبني أو ابنتي.

تشهق الحاجة، وتنطّ عيناها دهشة... فرحا...قلقا.كأنّها هي الحامل، وتهتف:

- بركاتك يا وليّ.بركاتك.

- ادعي لي أن يكون المولود ذكرا.

ويبدو أنّ الحاجة لم تدرك بعد ما خفي من هدف بعيد كانت الداهية قد لمّحت اليه في بداية الحديث:

- كلّ ما يأ تي من عند الله بركة ونعمة وخير.

- لا… ولد إن شاء الله !

ويتراقص صوتها مع الشمعة، ويذوب بضوئها الرقيق:

- هل تحسبين أنّي دعوتك عبثا في يوم ليس بالخميس، والوقت لم يكن عصرا.

- تذكّري أنّ قلبي حدّثني حالما دعوتني عن أمر غريب .

- لم يكذب قلبك يا حاجّة، وها أنت أوّل مخلوق يعرف منّي الخبر، وأين؟ في هذا المكان!

الحقّ أوّل ما خطر على بالها أن تخبر الحاجّة، فقد استفاقت فجر اليوم، وهي تشعر بدوار ثقيل.غثيان قلب الدنيا بعينيها .لم تقو على الخطو . تقيّأت . موجة سعال تحشرجت بصدرها. مع خيوط الفجر أدركت حملها. كانت وحدها لم يشاركها الباشا السرير. الواقع رقية نفسها تنازلت لها عن الباشا عن طيب خاطر، وهي تؤكّد، بما يشبه الدعابة:خذيه لك .عشت معه سنين طويلة، فطابت نفسي، غير أنّ الداهية رفضت. أصرّت على أن ينتقل الباشا بالتساوي بين الإثنين، لا طمعا في الزوج كما تردّ على لسان ضرّتها، بل حفظا لكرامة الحاجّة كي لا تتضارب الأ قوال فيدّعي الشامتون أنّ النمر هجر الزوجة الأولى، وطابت عنها نفسه، وفي هذه اللحظة بالذات تساءلت الحاجّة بشيء من الريبة:

- ليس من أجل هذا دعوتني فقط ، فكلّ ما أريده أن تنسي وعدك للوليّ .

- لا تظنّي أنّ هناك شيئا الآن أهمّ من الذي في بطني.

- هذا ما يحيّرني فيك .

واستدركت الداهية وهي ترى صمت الحاجّة المفاجيء، وعجزها، بل تجاهلها:

- لعلّ الزمن يطول فيغيّر بعض الأمور أو يؤجّلها ولو الى حين.

وفي الهواجس تضيع الحاجّة .دروب ثقيلة الممشى، بعيدة، عميقة الأغوار، لانهايات لبعدها تقبع أمام عينيها.بانت المسافات عن مرمى البصر محفوفة بالوحشة .حيوانات خرجت من مكامنها. كلّ المشاهد تمرّ ثقيلة قبل أن تلتفّ على نفسها . القلق وحده يرتسم أمام عينيها . خوف على الداهية والطفل القادم، أكثر من خوفها على النمر، ونفسها. الداهية بقايا عائلة تنفسّت بيت جوك روحها حتى خلعت جلدها ولبست اسمها الجديد منها، فهل تدمّر هذه المهرة الجموح نفسها لتحطّم نهر جاسم معها؟كيف ترجع الى اسمها القديم بعد ما ألفت كلّ شيء فيها من خلال الوليّ والد الداهية؟ تمنّت أن تظلّ الداهية تحبل بالبنات دون البنين حتّى إذاأطلّ الولد بعد عهد، كانت العشرة، والألفة، وريح الأمومة قد مسحت من ذهنها فكرة الانتقام مثلما روّض طيب العشرة الحاجة نفسها، ومن لها غير الضريح مأوى تلوذ به من قلق وخوف، فتتضرّع إلى الله بحقّ صاحبه أن ينزل على الداهية سكينته، وعلى الرغم من أنّ الداهية كانت في دوّامة من القلق على ما في بطنها إذ أرادته ولدا لتتعجّل فكرتها إلا أنّه لم يلح عليها أيّ تأ ثّر.....ما عدا رغبتها التي أفضت بها إلى الحاجّة، فإنّها ردّدت أمام من يسأ لها عن الحمل أنّ كلّ ما يأتي به الله خير، وساعة زفت خبر الحمل الى الباشا رجته أن يترك لها الخيرة في الاسم، وقدّمت الأنثى على الذكر، فإن أنعم الله بأنثى سمّتها" رقيّة"، او كان ذكرا سمّته "عبد"، فشحب خاطر سريع بذهنه، ثمّ تدارك ارتباكه، باتسامة واسعة عنت الموافقة والرضا، بحكم الوليّ العزيز، لا شكّا في الداهية، ففي ذالك اليوم نطق المقدور بما شاء، وعرف القاصي والداني أنّ الثأر كتب مصير عبد بتلك الصورة، لكنّ الباشا قبل على مضض التسمية لأنّه بحكم تربيته وثقافته يراه اسما قديما لا ينسجم مع روح العصر، لكنّه لم يرغب في أن يفسد على الداهية سرورها، وهي حامل، ولم يرد أن يضع نفسه في موقف حرج مع ابنة الوليّ، ولتكن في ما بعد أيّة إضافة تلحق بالاسم فتغيّر من قدمه كثيرا.

ومرّت أيّام مليئة بالتوتر والترقّب، وبطن الداهية تتكوّر، وتكبر، وركلات الجنين تنطلق مصادفة، فتعظّ على شفتيها، وسط تهكّم الباشا الذي لم يخرج عن وقاره إلاّ في هذه الأيّام، وهو يعلّق:

- هكذا كنت أركل أمّي مع أنّي هاديء الطبع.

فتقول الحاجّة بشيء من المرح:

- فرخ البطّ عوّام .

وبدا أنّه صغر، واستعا د عافيته، وشبابه، بل توغّل في الطفولة من خلال ذكرى قديمة:

- أمّي لم تحسّ بي إلاّ بعد ثلاثة أشهر، كما ذكرت رحمها الله، ثمّ تقيّأت فجأ ة، وتغيّر شكلها، أمّا أنا، فبدأت أركل حالماعرفت أنّ أمّي شعرت بي!

- إنّه حمل الغزالة لاتحس فيه الحامل بالمولود إلاّ بعد أشهر.

قالت عبارتها بشيء من الزهو كمن تريد أن تتباهى بخصوبتها، متجاهلة عن غيرعمد وجود الحاجّة، فعلى الرغم من تجاوزها سنّ الثلاثين، ولمّا يمض على زواجها إلاّ بضعة شهور حتّى أصبحت حاملا، ومرّت الأشهر الثلاثة الاؤلى خلسة، وكثيرا ما أنجزت خلالها أعمالا كان الواجب أن تؤدّيها الخادم عنها، لكنّ الله قدّر ولطف، الأمر الذي أزعج الباشا كثيرا، فحذّرها لائما:

- من الآن فصاعدا، لاحركة، ولا شغل، الخدم والعبيد موجودون، وما عليك إلاّ أن تتركي أَيّ جهد وتعب.

وفي حالات الولادة، جرى العرف الشائع أن تستدعي الحامل، وهي على وشك المخاض، داية القرية التي تؤدي واجبات القابلة، وربّما للمرّة الاؤلى خرج الباشا عن العرف الجاري حين استدعى من العشار الطبيبة لطيفة بنت لاوي التي تنحدر بالأساس من عائلة يهوديّة كانت تسكن أصلا "بيت جوك" قبل أن يرحل بعض أفرادها الىألعشّار أو يهاجر الآخرون الى فلسطين، وكانت أمّها تحضر أفراح القرية وأحزانها، تندب، وتلطم في أيّام عاشوراء، قيل عنها يوم احترقت بحادث مفجع إنّ النار لم تمسّ مكان اللطم منها على الحسين، وكانت نسوة القرية يقصدن، عند الضرورة، عيادتها في العشّاربدلا من أن يكشف عليهن الرجال، ويظهر أنّ الباشا خشي، تحت وطأة القدر أن يحدث مكروه للداهية عند المخاض، فطرح الفكرة أمام شريكه في النقل البحريّ كامل لاوي الذي دعا الطبيبة بحكم القرابة للذهاب الى بيت الباشا، وكان يمكن أن تحدث كارثة تنتهي بوفاة الطفل أو الداهية لولا تلك الإبرة التي لجأت إليها، وساعدت على الطلق.

ومع الآمال الجديدة المفتونة بصرخات الداهية وفي ذات الليلة التي سهر بها الجميع .الحاجة رقيّة .بنت لاوي.بعض الخدم.وربّما الباشا نفسه. تشرّبت القرية حكاية جديدة، فبدت كأنّها تسهر مع بيت الباشا .اشارة ظهرت فسمعها أكثر من فرد، وتناقلتها الشفاه. هناك من مرّ بالضريح مصادفة، فسمع ضحكا، وبكاءا، ولكنّه الليل، والعتمة، والباب مغلق، فمن عساه يتكلّم غير الأرواح، والملائكة، ونبوءة استعصت على الإفهام، ولو إلى حين.

- المولود ذكر.

- نعم ذكر.

- هو وحده يعلم ما في الأرحام.

- انّها إشارة واضحة ...

- ولو ...الأولياء الموتى يزورون الناس، ويتحدّثون، فيخبرونهم عمّا يحدث.

- أتذكر يوم زار الوليّ في الحلم كل البيوت قبل انتقامه من ابن الجلبي

- حرف الباء مشترك بين البنت والبكاء

- لا. سيبكي ويضحك . هذه هي حال الدنيا.

- أيّهما أوّلا الضحك أم البكاء؟

- كلاهما في وقت واحد.

- ياسبحان الله!

وعلّقت عجوز:

- يبكي المولود أوّل ما يهبط من رحم أمّه كأنّه يقول ما أشقاني إذ جئت إلى هذه الحياة، وقبل أن يسلم الروح على فراش الموت، يبتسم كأنّه يعلن عن فرحه بالخلاص.

- لكنّ العابرين سمعوا بكاءا وضحكا ألا يعني ذالك.....

- فأل الله ولا فألك.

- أبوها الولي لا عقب له إلا منها

- الله ألهمه ليدعو الطبيبة!

وبدا أنّ القدر يقف هذه المرّة بكلّ قوّته مع الداهية .كان أشبه بشلال انحبس ماؤه في زاوية عالية ضيقة حتّى انبجس عنيفا من دون أن يراه أحد، أو تلمحه عين، ففي مخاضها وعنادها مع الحياة، كانت الداهية أشبه بصيّاد علقت بسنّارته سمكة شرسة، فارخت لها الحبل...وأرخت...حتّى يئس ذالك القدر، ولان، فجاءها مطواعا لينا تصوغه كيف تشاء كما يصنع الطفل مع طينة لينة، يشكلها وفق هواه، وربّما أحبطها التفكير في جنس المولود، فضعفت قواها، وفترت، لأنّها لاتريد أن تصبر أكثر، غير أنّ كلّ شيء انتهى في لحظات مع آخر صرخة دوّت، فهزّت البيت الكبير.

- مبروك، ...مبروك...

الشدّة انتهت!

ولبس البيت الكبير حلّة قشيبة، وانشدت الآذان خارج الغرفة، لعبارة تالية، حيث توالت الزغاريد:

- مبروك ولد!!!

باسم الله ما شاء الله، كأ نّه فلقة قمر، علي سيماه هيبة جدّه، ورزانة والده، وفي عينيه الصافيتين لمحة من نباهة أمّه، وربّما اختصت الحاجّة رقيّة لنفسها منه طيبة القلب، ونقاء السريرة.

نهر جاسم انتشت طربا .

وكان حديث الطبيبة يدور على الألسن إذ لولاها والإبرة ...حتّى ظنّ الأهالي أنّ استدعاءها حدث بسبب الهام من الله للباشا لأنّه جلت قدرته أبى في اللوح المحفوظ أن ينقطع نسل الولي، الدنيا خضراء، ملوّنة، والبيت في عرس جديد، ذبائح .ضيوف، ودعوات.الخدم في حركة دائبة وبفضل الوليد عادت الأمور إلى مجاريها بين النمر وأهله ساكني العشار، فزار سعد النمر الباشا مهنئا، ومباركا بعد جفاء طالت مدّته ولم يلغه زواج الباشا لا من رقيّة أو الزواج الثاني، وكانت الداهية تخصّ سعدا بمزاحها: لو كنت أعلم ذلك لتزوّجت منذ زمن بعيد، ولا يعرف أيّ من الغرباء فضلا عن أهل البيت ماذا يدور في ذهن الداهية .الحاجّة رقيّة وحدها عرفت أنّ كلّ تلك المظاهر الخضراء ما هي إلا غلاف ملوّن لعاصفة هوجاء لا يراها أيّ أحد .كان يعزّ عليها الاثنان معا: الباشا، والداهية.وإن كانت خشيتها على ضرّتها أكبر، لكنّ للعشرة أثرها .لقد تجاهلت ما كان ذات يوم، وودت لو أنّ الداهية تتجاهل مثلها ماكان.....لكن أه من هذه العنيدة التي أبت إلا أن تجاري ذاكرتها، وتشحذ الماضي كلّما غطّاه رماد النسيان.

أمّا الباشا، فقد تغيّر الى حدّ بعيد....

بعد الجفاف والمعاناة الطويلة، أطلّت الحياة في بيته من جديد . الداهية العظيمة منحته أغلى شيء في الوجود، معها ومع الوليد الجديد، رجع الى طفولته، ورأى مستقبله في أكثر من صورة. ورأى أنّ الموعد حان ليجري كثيرا من الحسابات لمستقبل ابنه، فكتب باسمه شركة النقل البحريّ، وربّما فكّر أن يجعل لزوجتيه حصّة في المكبس، ويخبر الداهية عن الكثير من خصوصيّاته: أمواله المودعة في بنوك بيروت.سفراته الى لندن التي يشيع عنها شانؤوه أنّها دورات تأهيلية يعدّ فيها لتولّي الحكم في بغداد.النقل البحريّ .صمته الفرط انقلب إلى ثرثرة مع الداهية.أحيانا يتحدّث لأجل الكلام فقط .ثرثرة هادئة مرحة، حتّى التفت الداهية الى سلوكه محذرة:

- يجب ألا تكثر الحديث عن عبد لئلا يحسده الناس.

فقال دون أن يلتفت إلى كلامها :

- تذكّري أنّه أوّل مولود في نهر جاسم جاء على يد طبيبة

وواصل كأ نّه غير مكترث:

- أبوه الباشا نفسه بكلّ لقبه المحسود عليه ولد على يد الداية !

عقّبت الداهية بخفّة تضاهي خفّة الباشا:

- والأهمّ أنّها يهوديّة !

- الداية أمّ ثانية واليهوديّ بمفهوم اليهود من الأمّ!

فقرصت خدّ ابنها، وعضّت على شفتيها:

- يا ابن اليهود!

فردّت الحاجّة:

- والله العظيم ستجننان الصغير.

وكانت تضمّه الى صدرها، كأنّها تحرص عليه أكثر من أمّه الداهية.

[5]

وتابعت راوية نهر جاسم كلامها قائلة:

مرّ عام أو أكثر بقليل على ولادة عبد، لم تغادر خلاله الداهية "نهر جاسم" الى العشّار.لقد أدركت أنها ربحت الزمن، عندئذ تنفّست الصعداء، وقررت أن تمضي في خطوتها التالية، دافعها في العجالة، أنّها لا تريد لعبد أن يعي ملامح والده، بل خطر في ذهنها منذ اتخذت قرارها أن تغذّي المولود حبّ الأب، ربّما عنّ لها أن تحبّ زوجها لولا الماضي الذي راهنت عليه الحاجة وخسرت الرهان.

في يوم ذي ملامح غريبة نوت الذهاب الى العشّار بحجّة شراء بعض الملابس واللعب الى وليدها.كانت مفاجأ ة للحاجة رقيّة ويبدو انّ الداهية استأذنت الباشا في الليلة السابقة، ولعلّه الامر الوحيد الذي اختصّت به لنفسها .

كان يوم أربعاء.

ذلك الوقت، لم تكن الحاجّة رقيّة متأكّدة من غضب الداهية.لم لاتتغيّر وقد تغيّر كلّ شيء بعد ولادة عبد حتّى الباشا نفسه، وخلال العام المنصرم لم تفه للحاجة بأيّ حرف، واليوم أربعاء، اليوم الذي طرد فيه الله آدم من الجنّة، وأهلك قوم نوح بالطوفان، فعلام تذهب الغالية وحدها، وهي التي تصرّ على أن تصحب الحاجّة في أيّ موطيء قدم تذهب إليه.

- دعينا نذهب غدا أو بعد غد.

تجاهلت الجواب:

- دعيني أقم بما لم تقدري عليه.

- يا غاليه سأقول لك كلاما لكن لا تظنّي بي السوء كتاب ربّنا العزيز تحدّث عن الديّة والعفو، والآن كلّ أموال النمر لك ولابنك.

- هل مات القديم؟

- قلت لا تظنّي بي السوء.

فقالت أقرب الى الحدّة :

- كلّ أموال الدنيا لا تعادل إضفر عبد.

- لا تجعليني أندم على أنّي قبلتك ضرّة.

بشيء من الاستفزاز:

- أبدا، ويشهد الله، لكنّها العشرة.

- العشرة! إنّها كيس ملح، وعلقم، كيف تمضغينهما؟

- إلعني الشيطان يا غالية، واذكري كأنّ لك أخوين ذبح أحدهما الآخرفممن تنتقمين.

العالم مليء بالأرواح الشرّيرة، وفي هذا الأسبوع با لذات أطلّ عليها الشارع القديم بالعشّار، ذلك المكان الضيق الذي تكدّست فيه السنين كأنّه هو لم يتغيّرمنذ كانت الداهية عذراء تنصت إلى أحاديث النسوة عن الجنون والسحر والموت .الشارع ما زال بلونه وطعمه القديم، ودكاكينه ذات المظلات البيضاء التي تزاحم الشمس، وأصحابها الذين انكبّوا على الكتب القديمة يقرؤون الطالع أو يغالبون المحال .كأنّهم لا يشيخون أبدا، ذخرتهم الداهية لمثل هذا اليوم، أو كأنّ الزمن لا يجرؤ أن يغيّر المكان وأهله .كانت تقابل رجلا ذا وجه عريض، ولحية بيضاء طويلة :

- موت عدو!!

ظلّ صامتا مدّة طالت حتّى رفع إليها عينين بدتا من خلف زجاج النظارة كبركة ماء توهّجت تحت الشمس:

- قريب أم بعيد.؟

- العدوّ هو هو.

- كلّ شيء بثمنه.

فعالجت صبرها قائلة :

- قريب:

- كلّ شيء بثمنه !

- اطلب ما تشاء إلا العرض.

- شرفك مصون إن شاء الله .

- والسر في بئر عميق.لاقرار له.

فقال وقد هدأت عيناه قليلا :

- معاذ الله أن أكشف سرّ زبائني ثمّ إنّي شريكك، وإلا كيف أخون الجنّ!

- ماقلته حقّ.

وبعد صمت طويل أضاف:

- لن يتركك معارفك الجدد .عليك أن تحضري كلّ عام لتقدّمي لهم فرض الولاء وإلا فستثيرين غضبهم.

- هذا حق .

- متى نبدأ؟

- سيأخذك مشوار إلى سوق العطّارين.

أمن الضروريّ أن أحضر لأرى الجنّ؟

- ما دمت ستقتلين عدوّك بيدك، وهو ثأرك، فلا بدّ أن تقابلي الجنّ بنفسك، وتواصلي الزيارة كلّ ثلاث سنوات مرّة أو أربع بحسب حروف عدوّك.

فقالت تغالب حيرة:

أليس في من ينوب عني الكفاية؟

واعادت حين نظر إليها من غير كلام:

- أليس في من ينوب عنّي الكفاية ؟

- لا أنت صاحبة الثأر، واعلمي أنّك إذا خفت أو صرخت، أو ذكرت اسم الله، فلن يدخل عليك جنّيّ صديق، بل يقتحم الغرفة عفريت عفريت شرس، ويكون مصيرك الجنون.

ذلك أهون من المبيت في المقبرة خلال ليلة مظلمة مع الساحرات، فليمت القلب، وليمت الإحساس ما دمت سأدخل البسمة على قلب الغالي الراحل، ولن أترك روحه تتعذّب ، عاشرت الرعب والخوف، وأنت طفلة، فلن يكون الجنّ أخطر من بني آدم.

-هل نبدأ؟

كانت تدخل في غرفة معتمة تحمل قلبها على كفيها، وتهرب من الخوف والأسماء الحسنى التي لاذت فيها بوحدتها الطّويلة.أمّا مضيفها فقد أطفأ شمعتين كان يقرأ على ضوئهما أسطرا غريبة لكتاب موغل في القدم، ومع آخر تمتماته، وسطوع الظلمة، وجدت الداهية الباب الخلفيّ يتحرّك وحده .كأنّ يدا دفعته.قلبها مات في تلك اللحظة .جسدها بارد، والأشكال كما وصفها مضيفها الذي لا تدري كيف اختفى: جسد بقرة، وأرجل ماعزّ، وله رأس قطّ، حوله مخلوقات أصغر منه تشبهه في الهيئة .داروا حول الداهية، ووقفوا صفّا أمامها ثمّ زعقوا بصوت واحد:

- من هو عدوّك يا ضيفتنا؟

فوجدت لسانها يتحرّك من دون أن تطلقه:

- النمر!

- بماذا نحكم عليه؟

- الموت.

- هل يشكو من علّة؟

آلام في المعدة!

تقدّم أكبرهم حجما الى المنضدة حيث العشب اليابس .كان يمضغه، ويتفله.الأشكال جميعها مضغت ثمّ عادوا الى الصراخ:

- يا عشب يا سمّ .اقتل ابن النمر عدوّ ضيفتنا.

ظلّت الوجوه الغريبة تبحلق في العشب اليابس، والداهية التي لم تطرف لها عين، والأصوات تزعق:

- سرّنا سرّك، وعدوّنا عدوّك .اسحقيه اربعة أيّام، واسقيه لعدوّك.

وبرمشة عين سطع الظلام ثانية، واختفت الأصوات .تحوّل العشب إلى زمن بطيء وعلى الرغم من أنّ الداهية بقيت متماسكة إلا أنها شعرت بموجة باردة تجتاح جسدها .كانت تسبح في صهريج بارد، وبدا لها الجنّي ّ عربيدا شرّيرا يعوم وراءها .كأنّه الفيضان ذاته الذي ألجأها وهي صغيرة إلى الجبل .اهربي ياداهية، والحقّ عليك لأنّك في حضرة الجنّ ذكرت اسم الله .تصرخ وتضرب الموج، ولم تجد نفسها في العشار حيث الشارع المسحور، أمّا ما كان من يوم أمس وزيارتها للجنّ، فالأولى بها أن تعيه وهي يقضة: ربّما يخونها النوم ولا تخونها ساعات الصحو.تتذكّر كلّ شيء، وتنسى، على أنّها حلمت، وهي تدقّ النبات القاتل المعفّر بلعاب الجنّ حلما آخر، فخشيت أن تكون زيارتها للجنّ بابا تفتح لأحلام لا نهاية لها، لكنها اطمأنّت أخيرا، وهي ترى أباها بملابسه البيضاء ووجهه النورني وجناحيه اللذين يطير بهما عاليا يعاتبها لأنّها استبدلته بالجنّ، وحذّرها من أن تضيّع نهر جاسم، ولم يذكر النمر، وإذ سألته عن دم عبد وثأره لم يجبها .....بل اختفى، شأنه وهو حيّ حينما كان يعرض عن أيّ سؤال.

لكن لا أحد يعرف أين ذهبت في العشّار، ويبدو أنّها دخلت سوق العطّارين، وابتاعت شيئا ما، ثلاثة أيّام ظلت تطحن، وكانت عينا الحاجة رقيّة معلّقتين برنّات الهاون، وهي تتلاشى في فضاء البيت الكبير.ظلّت تراقبها بشفتين صامتتين، وعينين ذاهلتين، كأنّها تشفق على نفسها والداهية، والطفل من غضب محتوم، أشبه بنار محمومة. وقد غاب عنها أن تفعل أيّ شيء لتنقذ النمر، ما عدا أن تعترض، لأنها عاهدت الداهية من أوّل يوم قبلتها فيه ضرّة لها، واعترفت أمامها، أن تحفظ السرّ، ولم تيأس .كررت رجاءها مرّة وأخرى حتّى قالت الداهية:

- لم تسأليني لم شرطت عليه مهرى الحاضر مصحفا، وكان في نيّتي أن يكون الغائب حجّة ألى بيت الله الحرام، لكنني لم أرد أن اذهب إلى مكّة قبل أن يحكم كتاب الله بين الخصمين.

محال . ضاع منها عبد، وفقدت الملكة عرشها.الحلم تحوّل الى حطام: عربة العرش تجرّها خيول مطهمة ذات سروج من حرير مطرّز بقصب، وكانت العربة مزيّنة بزينة غريبة عجيبة، وحين استفاقت عرفت أنّ مآل الحلم المفرح يصبّ في نهاية حزينة كقصة حمدة التي خطفها نسر شرير، وأنت ياداهية، ستكونين مظلومة خيرا منك ظالمة، فمتى يتوقّف هذا الرنين الذي ينقبض له القلب؟

في اليوم الرابع كمل المطلوب .

أمّا كيف سقت الداهية الخليط العجيب للباشا من دون أن يشعر، فذلك ما لا تدركه الحاجّة رقيّة: بعد الشربة بشهر بدا الرجل يشكو من اضطرابات في المعدة والامعاء .داهمته الآلام فجأة، ولم يكن يشكو من علّة من قبل، وكما رقيّة أظهرت الداهية قلقها، ونصحته كالآخرين أن يعرض نفسه على طبيب إنكليزي خلال السفرة القادمة، ويوما عن يوم بدأ وزنه يخف .الحيويّة انتهت تماما.كان يشرف على نهاية العقد الخامس، مع ذالك بدا في الثلاثين، وعندما تزوّج من الداهية قيل إنّه رجع سنوات نحو الصبا، والشباب، لكنّ الوجه الممتليء حياة بان كصبغة زعفران، ولاحت الوجنتان كعظمين ناتئتين، وتلك العينان اللمّاحتان ذبلتا كبرديّ مرّ عليه الخريف. ظلّت صحّته تتدهور، واختلفت أقوال الأطبّاء حول مرضه. أطبّاء البصرة، بغداد، تحاليل، وأشعّات، لكنّ كلّ ذالك ضاع هباء ...ولم يشف أيّ علاج.....

وفي ليلة صيفيّة غائبة القمر، سقط الباشا يتلوّى من الوجع، فاحتارت المرأتان، وماج البيت بالحركة ثمّ خيّم الصمت بعد أن تمّ نقل الباشا الى المشفى، ثمّ جاءت الأخبار صباحا تؤكّد نجاح عمليّة جراحيّة في المعدة .كانت الداهية تحتضن طفلها كأنّها تلوذ به من شيء مجهول لا تدرك كنهه.انتبهت لحظات إلى نفسها، وتساءلت في لحظة خشوع:ما الذي فعلته ؟أما كان لها أن تتناسى؟قالت لها الحاجة اعقلي يا مجنونة أمواله الآن لك ولابنك اعتبريها ديّة الغالي.وما ذنب روحه التي تهيم طالبة الثأر.لو لم تتزوّج من لوجدت مع الزمن والصبر ألف طريقة لتحقّق انتقامها، فهل قتلته حقّا ؟والطبيب يؤكّد إنّها القرحة.ماذا لوشفي؟في هذه اللحظة تمنّت لو نسيت انتقامها، ومثلما اخترقتها لحظة عابرة الملامح، ناصعة، وهي ترى الباشا يتلوّى، وعيناه مشدودتان إليهما، هي والحاجّة، خرجت من تلك اللحظة الى غير هدى نحو ذكرى قديمة : إطلاقة ما من مكان ما.حمامة مذعورة تفرّ.حجلة تروغ .القتيل يتلوّى من تحت بصر صبيّة لا تجرؤ على الكلام. كان سوق العطّارين والسحرة، والبخور، وحجر أسود مطحون يملآن خيالها:

- لا تسألني عن اسمي، واطلب أيّ ثمن تريده ما عدا أن أمنحك نفسي . لا أريد دواءا يقتل في الحال .دواء يعذّب . شهرا . شهرين ثمّ تضيع المسأ لة.وينتهي كلّ شيء.

العشار ليس بعيدا، والسوق القديم يعجّ بعشرات السحرة، كلّهم ينتظرون منذ أعوام:

- رقيّة هل أنت متأكّدة؟

- للمرّة الألف يا غالية تسألينني هذا السؤال .لكن لا ينفع الكلام.

- لم أشكّ في كلامك، غير أنّي لا أريد أن أظلم أحدا.

غير أنّ صرخة الظهيرة كانت تشقّ السكون في القرية. انطلقت قويّة حادّة .الساعة الواحدة.شاءت الأقدار لتلك الصرخة أن تسبق مصرع عبد قبل عشرين سنة بساعة واحدة، وأوّل من جاء يعلن خبر الموت المراقب ابن الروّاس الذي هرول من المكبس صارخا:الله أكبر .الله أكبر.فضجّت قرية نهر جاسم، وترك عمّال المكبس شغلهم .القرية ذهلت.حتّى الذين صاغوا النكا ت عن الباشا، وسمّوه "فرخ الإنكليز" و"كلب الاستعمار" أسفوا لموته، فجأة، ومن دون إنذار رأت القرية آمالها، وحلمها أجمل ما فيه، يتهشّم عند صخرة الزمن .مات الباشا، فتلاشى طموح شطّ العرب في الوصول إلى بغداد. الله!! إنّه الزّمن الغدّار كيف تكون بغداد البعيدة؟ مدوّرة…مربّعة…أين قصر الملك؟كيف تكون بيوت الوزراء؟ في خضمّ الخبر الجديد، نسي الجميع مساويء الباشا، ونكاتهم عنه، تذكّروا فقط آمالهم المراقة حديثا على عتبة الموت حتّى ظنّ بعضهم أو كلّهم أنّ المستر دوسن الذي غادر إلى لندن منذ سنوات بكى على الباشا حين ورده النعي.

وهاهي نهر جاسم تبكي أكثر من لندن.

وتجد لبكائها تأويلات تتمحور حول الموت والمستقبل. نوري السعيد قتل الباشا .وضع له السمّ في فنجان القهوة .سمّا بطيئا كي لا ينافسه في المستقبل أو ينافس بديلا له.ألم يفعلها مع الملك فيصل الأوّل. ليدبّر من بعد مصرع الملك غازي.وقد يكون موت الباشا بتدبير إنكليزيّ لأنّهم لا يثقون بأيّ أحد من أهل الجنوب، ووقع الشك في أحلام القرية أيضا، على الوصيّ عبد الإله هو الذي دبّر مقتل الملك غازي مع نوري السّعيد، ولا بدّ من أن يكون سقى الباشا شربة أدّت إلى تهيّج القرحة، وفي البيت الكبير الواسع أطلقت الحاجة صرخة حادّة، وجفت لها القلوب، ثمّ لاذت بالصمت المفاجيء، ونظراتها العاتبة نحو الداهية التي أظهرت جزعها أكثر من أيّ إنسان آخر.ضربت صدرها.وخمشت خدّيها، وقصّت خصلة من شعرها، وقد رجعت إلى السواد. اليوم مات عبد حقا، ويحقّ لها أن تبكي، واليوم أحبّت النمر.قال الناس عنها :ستجنّ، فما شوهدت أرمل تبكي على زوجها مثلها.امرأة خلقت للسواد منذ الطفولة، وما الثوب الأزرق إلا لمحة عابرة في حياتها ......

هكذا تحدّثت عنها القرية، امّا الحاجّة رقيّة فقد اتخذت لها مكانا وسط مجلس العزاء .كانت تتطلّع بوجوه الزائرات صامتة، لكنّها حين يجنّ المساء، ويكاد البيت يخلو إلا منها، والداهية، وبعض الفلاحات، والخدم، فإنّها تجلس عند عتبة غرفتها، وتنوح بأبيات شجيّة، حتّى تأتي الداهية أو أيّ من الفلاحات، فتقسم عليها أن تترك جلستها تلك....

ولم تصبر الداهية على قضاء الأربعين في"نهر جاسم" بل قصدت النجف.صحبت ابنها، والحاجة.هناك عند القبرين المتجاورين -لأن ّ الداهية أوصت أن يدفن زوجها جنب أخيها- هناك جلست المرأتان تبكيان .طالت الجلسة، وطال البكاء، بعدئذ ختمت الداهية نحيبها وهي تنظر إلى ضرّتها الغالية، وترفع طفلها الذي لم يبدأ البكاء بعد:

- إنّهما يرقدان سعيدين الآن، فهذا خاله، وهذا أبوه!!!

وأضافت الراوية في ختام كلامها عن الداهية:

إنّ أمّ عبد لم تعد مرحة، صاحبة نكتة، كما عهدها "أهل نهر جاسم" من قبل، فبعد وفاة زوجها لم تلح أيّما ابتسامة فرح على وجهها قطّ طوال عمرها المديد.

 

د. قصي الشيخ عسكر

كوبنهاجن / 1991م

.....................

إلى هنا ينتهي الكتاب الأول من رواية نهر جاسم ويليه الكتاب الثاني وعنوانه الطريق وأحداثه تدور زمن حكم عبد السلام عارف ومحاولة الحكومة شق طريق يربط القرية بالتنومة الناحية وعبادان وخشية الناس على بساتينها ونبؤة قديمة .

السؤال المطروح للقاريء الكريم هل يحب ان نستمر ؟ لكم القرار أيها الأعزة.

حلقة من رواية: نهر جاسم: الداهية الفصل الثالث

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم