صحيفة المثقف

صرخة مكتومة

قصي الشيخ عسكرصباح اليوم التّالي إذ كفّ المطر، وانحسرت الرّياح، تبيّن الأهالي أنّ صاعقة البارحة، نزلت، كما حدست الداهية، وبعضهم، عند المنعطف الدوّار، نهاية طريق البرّ. ثلاث نخلات احترقت، الأمر الذي عدّه بعض أهل نهر جاسم بادرة مبهمة لحدوث أمر غامض واضح على أقلّ تقدير لاسيّما وحديث الطريق أصبح جاريا على الشفاه بعد زيارة مدير الناحية للدّعيجي. الذكّرى رجعت ببعض كبار السّنّ إلى أيّام الإنكليز، وتخطيط البساتين في القرية. قالوا إنّ النخلات الثلاث، هنّ بعمر المستر دوسن، ومن يدري لعلّ هبوط الصّاعقة في مكان خال من السّكّان، وفوق نخلات غرسها إنكليزيّ ينذر بعلامة ما. الشّرّ مرّ بغير ما خسائر. لعلّه وعسى!

كان عبد يغادر مع رفيقيه إلى الدّعيجي. راحوا يخوضون في الطّين، يشغلهم الهدوء، وسكون الهواء بعد تلك العاصفة الّتي ظلّت تزمجر طوال الليل. الشّمس الصّافية، كما لو أنّ السّماء تقيّأت كلّ ما في جوفها خلال الظّلام، خيبة أمل للثلاثة الّذين كان من الممكن أن يظلّوا في البيت هذه السّاعة، قرب المواقد، ومع هذه الشّمس السّاطعة في غير موعدها، سابق الثلاثة الوقت قبل أن يجفّ الدّرب، وتعود العربة. كانوا يتطلّعون عن بعد بالنّخلات المحترقة، وحسن يقول:

كان قلبي يهبط، ويصعد، وقد ضممت ركّبتيّ إلى صدري.

-أنا كنت نائما أشخر لأنّني حين أنام لا أستفيق على أيّ شيء.

-لا تكذب أيّها الفيل!الصّاعقة هزّت العالم كلّه.

- ما هي الصّاعقة؟

الفيل يبالغ، ويدّعي أنّه لم يخف، وربّما غاب عنه الخوف، ولا أحد يصدّقه، والصّاعقة نار تهبط من السماء، تحرق الأخضر، واليابس. هكذا شرحها المعلّم. قنبلة ذرّيّة صغيرة مثل الّتي نزلت على اليابان. بقدر قبضة اليد. إنذار. سوف ينتهي الشّر عمّا قريب. الاسم الأعظم بين أيدينا، ونحن غافلون عنه عندئذ تعهّد عبد أن يجلب المفتاح معه، ووعد حسن بنسخة من القرآن، في حين خرخشت، علبة كبريت في جيب الفيل. كاد حسن يوم الاتّفاق يخفق في وعده إذ لم يكن بإمكانه أن يستحوذ على نسخة لمفتاح الضّريح بيسر، وسهولة، مثلما خيّل إليه. بحث عن النّسخة الأخرى في أكثر من مكان. ترى أين وضعت الدّاهية المفتاح. كاد يسأل أمّه الحاجّة لولا أنّه خشي من أن يثير فضولها، فيضع نفسه عرضة لأكثر من سؤال. فتّش في غرفة الاستقبال. حجرة أمّه الحاجّة. قرب سرير الدّاهية. أخيرا تذكّر أنّه لمح الدّاهية، ذات يوم، تصعد إلى دكّة الشبّاك، فتمدّ يدها إلى سلة أعلى الخزانة. دقائق، بين سلع مختلفة تلألأ المفتاح بين أنامله، وارتسمت على شفتيه ابتسامة الظفر. كأنّما عثر على الدّنيا كلّها، ووضعها في جيب سترته الدّاخليّ، جنب كيس صغير من الملح حضرته له الدّاهية طردا للعين.

كانوا يختصرون الطّريق أثناء عودتهم من المدرسة. مرّوا عبر المفصل الدّوّار، وحالما اجتازوا النخلات المحترقات، سأل عبد رفيقيه:

- ماذا تنويان أن تفعلا بالاسم الأعظم؟

- ماذا تنوي أنت أن تفعل به؟

ردّ الفيل، أمّا حسن، فأجاب بهزّة من كتفه:

-أنت!سوف تستخدم الاسم الأعظم لتجعل النّاس يغرقون بالضّحك!

-لا بل أجعلهم يبولون من الضّحك!

تلك اللحظة الّتي، ربّما تعدّ من اللحظات القليلة الّتي لم تتغلّب عليها سخريته، وعبثه المفرط بمدى لا يعرف الحدود. كان هناك ظلام، وعتمة ترتمي أمام عينيه. نقطة تسطع لبصيص شاحب. دخان كثيف. عيناه تختلسان النّظر من فتحة الباب. النّسوة يرتّلن. يرفلن حول النّار. رؤوس تترنّح جيئة وذهابا، كأنّها انفصلت عن الأجساد. صرخة مكتومة. همهمة أشبه بعواء ذئب يتهادى إلى أذنيه في الليل من مكان بعيد، ولمّا تتوقّف الأصوات أيّة لحظة، والمخلوقات الصامتة الصّاخبة تنطق على لسان خلق خفيّ، يراقبه حذرا، فيتساقطن كالثّمار، واحدة بعد الأخرى. أنشودة تتغنّى باسم المسعود الأبّ، وناصر الابن، والأمّ. كلّ شيء يقتحم عليه عينيه، هذه اللحظة:اللّه حيّ، في دقائق الجدّ، على الطّريق إلى الضّريح، يتداعى أمامه مشهد يراه كلّ شهر: أيّها الأولياء. أيّها الجنّ الصّالحون، ومن الصّخب، تنبثق حكاية، رآها يوم أمس على الشفاه:الهدهد ثاقب البصر، سفير سليمان بن داود مستعبد الجنّ من يملك عظمة منه يصبح ذا شأن، ولا يعزّ عليه مطلب، وهو يهيم في البساتين بحثا عن هدهد. اذبحه واستلّ عظامه، وقت المدّ ارمها عظمة عظمة، وإذ يقع البصر على عظمة تسبح عكس التيّار التقطها . اللّه حيّ. ثقب الباب. كم مرّة حذّرته أمّه. كلّ شهر لها جلسة مع حبيباتها. اذهب بعيدا. العب. رافق أباك في الحقل. ثقب الباب. عينه تحفر الضباب، والدّخان، ويحسّ بلمسة من الخلف، فيبهت مذعورا، وإذا بالكلب، يتشمّمه، فيطمأنّ قلبه، وتعود عينه ثانية إلى الثقب. أين هو الهدهد، أو خاتم سليمان، وحالما تنتهي الطّقوس، والمراسم تؤذن بالختام، وُيرفع الحضر، يتسلّل بين الحاضرات. عينه تتابعان شيئا ما. الضّريح. البيت. سرّ النساء، فساعة الجدّ لمّا تنته بعد. هل هناك من يطلّ من ثقب الباب عليهم في الضّريح. هذه المرأة الضخمة ذات الصّوت الرّجوليّ تعرف كلّ شيء. تقدر أن تخاطب الجنّ والملائكة. تأمر العفاريت أن يهجعوا أو يهبّوا لها. قالت لتحلّ البركة في ناصر المسعود. ثمّة يده تمتدّ، بغفلة من عيون الحاضرات، وعيني مروّضة الجنّ التي مسحت على رأسه، وباركته، وتغنّت باسمه خلال الضّباب، وتتسلّل إلى دفتر أصفر، خشن الأوراق. خشي أن يسرق الدّفتر كلّه، فيكون عرضة للسؤال، والعقاب، ومازالت علامة الكيّ ترتسم على يده بعد أن ضبطته أمّه يسرق. اقتنع بأن اقتطع ورقتين صفراوين دسّهما في جيبه، قبل أن يعود من صمته المفاجيء الغريب، على استفزاز عبد:

ـ هل أنت خائف؟

ـ أنا؟أنا؟

ـ الصّفنة ليست لك أيّها الفيل، بل للحمار!

عقّب حسن، وكان الفيل يفاجؤهما:

ـ انظرا!

ـ ماذا؟

ـ من أين لك؟

كاد لسانه يفلت لولا أن تذكّر وجعه. غير عقاب السرقة. كادت أنامل أمّه الخشنة، تخلع أذنه عندما ضبطته يتلصّص على الزّائرات، وألقت اللوم عليه في تأخّر الجنّ وأرواح الموتى الطّيبين، وزادت أذنه فركا، وهي توعده بالكيّ ثانية إن هو فشا الشرّ. ليست وحدها الّتي تعاقبه، بل الجنّ حين ينقلبون من طيبين إلى أشرار:

ـ عثرت عليها.

العيون تتابع. ترتسم عليها الدهشة، وقد عجزوا عن أن يفهموا شيئا من الرّموز. مربّع . خطّ كالأفعى. طيور غريبة الأشكال، وألسن الصغار تتهجى كلمات غريبة:هرموز…طالوت…جردان…فرادور…قال عبد:

ـ إنّها أسماء ملائكة.

ـ أسماء جنّ.

ـ الملائكة لاتحويهم كتب السّحر لأنّهم من نور.

ـ لو كنت أستطيع قراءة المربّع لاستطعت أن أفعل كلّ شيء.

وخطف عبد الورقتين من يد الفيل، مطوّحا بهما في الهواء، فترنّحتا مع النّسيم البارد، ثمّ انقلبتا في الطّين، لتدوسهما الأقدام، وهو يؤكد:

ـ سندخل ضريح وليّ من أولياء اللّه الصّالحين.

وما أن اجتازوا عتبة الباب، حتّى وقعت أبصارهم على قطع النّقود، متناثرة خلف المصراع، فصفر حسن مندهشا:

ـ ما أكثرها!

ـ كلّ هذه لجدّك؟

ـ ليست كلّها من النّذور. أمّي الحاجّة والدّاهية أيضا.

واندفع الفيل، ولعلّه شكّ بشيء ما، أو مجرّد التّحذير:

ـ لا تلتقط حسن أيّ فلس. إذا ما أردنا أن نأخذ شيئا يجب أن نسأل عبد أوّلا.

فهتف حسن :

ـ أنا لست لصّا. انظر يدك، وعلامة الكيّ.

ـ لم أقل شيئا. عبد بن الوليّ، ويحقّ له أن يعطي من يشاء.

خفق قلبه لسماع الإطراء. هو الوحيد صاحب الحقّ في التّصرّف بمال الوليّ. إنّه جدّه مثلما هو أبو الدّاهية. التقط ثلاثة دراهم، دسّ أحدها في جيبه، وناولهما أخريين. كانت العتمة لمّا تزل تعمّ المكان سوى ضوء شاحب يعبر من فتحة أعلى الباب، وعلى الرّغم من العتمة، والهدوء، فلم يشعر الثلاثة بالخوف أو يعتريهم هاجس ما، فلم تكن القبور لتخيفهم، وكثيرا ما كان جبل عريزة ملعبا لهم وقت النّهار، أمّا في الليل، فيصبح مأوى للجنّ، والسحرة، وسوف يكون بإمكانهم، ربّما بعد دقائق، أن يقتحموا عالم الإنس والجنّ، فلا يقدر عليهم أيّ مخلوق.

ـ هل نبدأ؟

ـ هيّا.

خطا الفيل نحو الدّكّة، حيث الشّمعة، فأشعل عود ثقاب، فعمّ ضوء شاحب المكان كلّه، وكانت وجوه الصّغار الثلاثة تفيض بالفرحة والبشر، وبعض الخوف أيضا.

[4]

كانت تدرك تماما أيّة امرأة تقصد، وأيّ رجل تلوذ به، لتنزل عن بعض كبريائها، فتتملّق. ليكن ما يكون، فهي في هذه اللحظة تقطع عهدا غير مألوف، فكم ثارت إشاعات وأقاويل مع كلّ مرحلة، ومع أيّ انقلاب جديد، أو إذا قلنا الصّدق من غير التواء، تأتي الإشاعات من حيث لا يدري أحد أو من دون مناسبة، لكنّ الذي أثار الدّاهية، وجعلها تهتمّ للأمر، هو أنّ الحكومة، بدت هذه المرّة، جادّة في الأمر، وإلّا لما تحدّث المعلّمون في المدارس، ولهج بذكر الدّرب المزعوم القاصي والدّاني، وبغضّ النّظر عن أسوأ الاحتمالات، فلا يهمّها أيّ شيء سوى الضّريح. ليذهب جزء من الأرض أو المكبس. كلّ شيء يهون، وصدق من قال زمان دوّار لا يستقرّ على حال. كنّا إذا هبّت الهواجس، وكادت تقع أزمة ما بين الأهالي والنّاحية، نلوذ بالحاج عبّاس أو الباشا، والآن، اختلط الحابل بالنّابل. تقول لها الحاجّة رقيّة التي خرجت توّا من رحلة جديدة، وحكاية غريبة، تقصّها على الصّغير، قبل أن ينام:

ـ بيت أبي مصعب بيدهم كلّ شيء.

ـ أ هكذا رأيك؟

ـ بيتنا الوحيد الذي لم يسيء إليهم أيّام الزّعيم، لا بل لاذوا بنا خوفا من النّاس.

وقالت الدّاهية بحسرة:

ـ سأفهم منهم أين يمرّ الطّريق ليرتاح بالي.

وهناك تأكيد من ملكة الليل:

ـ ليكن نوعا من ردّ الجميل.

كان الطّريق يذهب بها بعيدا حاملا نذرا جديدة. أسوأ الاحتمالات. وكلّ خطوة تحكي دهرا يرتسم بحلوه ومرّه على الشفاه. هذا الذي تلفه بذهنها، وتكسوه، بعينيها إلى بيت أبي مصعب، ما هو إلّا سحابة طويلة أو سجّادة مزركشة تبدأ، وفق ما يقول المعلّم، من ألمانيا إلى العشّار، وعند شطّ العرب، ينقطع التّواصل، فيبدأ بعدئذ من عبادان إلى الهند، نحن الحلقة المفرغة، يا داهية. شاءت المصادفات كما يرى الشيوعيّون، أو اللّه حسب رأي الملاّ في الجامع، أن نكون نحن تلك الحلقة. وسط العالم. العقدة. التّوازن. أيّ شيء، مثلما أكون أنا، ابن الرّوّاس، كاتبا في المكبس، بمناسبة أو غير ذلك، تجرّني زوجتي أمّ الروّاس إلى نقاش لا طائل من ورائه تسندها ملكة الّليل، فيخلطان السياسة بالبطاطا، مع المعجون، والفجل، ولا يغفلان الباذنجان، وتسبّبه بالحال العصبيّة لمن يأكله، وفق هذا المنظور، تحدث الثّورات، والانقلابات، وقت الصيف في العراق، أيّ عسكريّ مغامر يستطيع في أيّ شهر حار أن يأكل وجبة باذنجان، بالطبع تُفضل أن تكون مشويّة، ثمّ يدخل الإذاعة ويعمل انقلابا، بيان رقم واحد، ثمّ تأتي التفاصيل الأخرى، فيفكّر كغيره في الطريق أو بالأحرى نفكّر نحن فيه وبالطريق، والمشكلة أنّ الباذنجان عندنا برخص التراب، ولو كان الأمر بيدي لجعلت سعره يعادل الذهب، أو صدرناه إلى مصر واستوردنا من هناك الباذنجان الأبيض الذي لم نره بل سمعنا عنه من أمّ مصعب التي تدعي أنّ زوجها أكله في القاهرة، فلعلّ عدوى الانقلابات تنتقل منّا إليهم، على أيّة حال ما دام الطّريق المزعوم مرتبطا في بغداد، فكلتا المرأتين:أمّ الروّاس وملكة الليل على حقّ، أقول يا داهية، اذهبي إلى أمّ مصعب. جسّي النّبض. كلّ النّاس يعرفون أنّ لك في عنقها دينا. لوّحي بالرّشوة، فإذا ما عجزنا عن ذلك حرّكتِ النّاحية كلّها بمالك. واللّه، يا داهية تستطيعين أن تجعلي طريق نهر جاسم ملتويا يمرّ عبر أيّ مكان تشائين مثلما فعل الأغنياء بطريق أبي الخصيب. النّقود يا داهية بإمكانها أن تجعل العالم أضحوكة، نكتة. خرابا. أيّ شيء. قدر نهر جاسم أنّ اللّه خلقها وسط العالم هكذا جاءت، فلا بدّ أن تتصل الحلقة المفرغة إن لم يكن اليوم فغدا، المهمّ ألا يكون الأمر على حساب الموتى. يا ملكة الليل، ويا حاجّة. يا ابن الرّوّاس. اسمعوا جيدا، زمن الإنكليز، والزّعيم، تدخّلنا في السّياسة. الدّاهية نفسها حيّرت الإنكليز. المستر دوسن بالذّات. الآن تعبنا. لا يهمّنا من ذهب أو أتى، ولا تفسير عند ابنة الوليّ لزيارة رئيس الوزراء إلى إيران، وهدوء الأحوال على الحدود إلا الذي لا بدّ منه: درب يمتدّ من ألمانيا إلى الهند والصّين. إذن هي النّبوءة من زمن حمدة. قبل الطّوفان الكبير، وموت الوليّ. سكنت الدّنيا. توقّفت الأشجار. الطّيور. مشهد لن تنساه الذّاكرة. ثمّ فجأة تغيّرت الأحوال، ونعب الهواء، ورحم اللّه الزّعيم الذي غضّ النّظر عن الطّريق المزعوم إن لم يكن في الأمر شيء ما، وأيّ سرّ هو تحمله في أحشائها غوامض الأيّام أولم تسمع، والفرحة تشيع على الوجوه أنّ الدّرب إذا، ما اندلعت حرب سيكون لمصلحة إيران. كلّ شيء يظلّ على حاله، وأوّل بوادر الشرّ ذلك الدّود الأسود، ونحن نعيش فرحا ما بعده فرح. نهر جاسم حلمت بالرّحيل إلى بغداد، ومن دون مقدّمات، أطلّت عليها العاصمة. كلّ بيت ابتاع مذياعا، وتابع أخبار العالم. كأننا خلقنا من جديد. اكتشفنا العالم. الزّعيم. الهتافات. الجيش انتشر على الحدود، والدّاهية في المكبس، تعيش مع النّاس فرحتهم. يشير إليها أحد العمّال، وهو يقلب الجريدة:

ـ انظري، يا داهية، يا أمّ عبد، هذه هي صورة الرّئيس الأمريكي كنيدي.

ـ ما اسمه؟

ـ كنيدي

ـ على اسم كندا.

المراقب يطلق نكتة:

ـ نحن عندنا كندا، وهم عندهم كنيدي.

ـ إنّه ناعم، له سمات النّساء، أمّا زعيمنا ما شاء اللّه. أسد.

ـ ليجرّبوا إن كان في نيّتهم الحرب.

ـ نحن أقوى حتّى لو تحالفوا مع الشّاه.

ـ وهل تترك الصّين العراق وحده!

ـ دعك من الصّين العراق وحده يكفي.

وحين تقترب النّبوءة من نهايتها، يظهر شيء غريب في الأنهار يلدغ النّاس.. علامة. إنذار ما. هل حلّت نهاية العالم، والنّاس ما زالوا في قمّة الفرح. حلف بغداد. أمريكا. تركيا. إيران. الصّين. روسيا. العراق. حتّى الحاجّة الكبيرة خرجت من عزلتها بضعة شهور. أنصتت إلى المذياع، ومحاكم المهداوي. والأحداث الجديدة، وتساءلت كغيرها:

ـ من أين جاء هذا البلاء الأسود؟

كانت قد رأته عند الشريعة، عندما راقبت الخادمة في أثناء غسل الصّحون. سمك صغير أسود، أملس، كالجرّيّ، شوكتان فوق الرّأس، ثمّ ازداد يقينها، وتحقّقت من شكله، ساعة اصطاد عبد واحدة بالشّصّ:

ـ يا ساتر. إنّه ينقر الطّعم كالنهم. شره. ما أقبحه!

كأيّة ظاهرة جديدة تتطلّب تفسيرا، اختلفت الآراء، وتباينت التّعليلات، إلا أنّ المراقب أكّد أنّ الدّود انتقل إلى الأنهار والسّواقي من إيران. لديهم خزّان كبير انكسر فجأة، ومن حسن الحظّ لم يحدث فيضان، لو فتحت إيران سدودها لحدث فيضان مثل الأربعينات، إيران لن تتركنا بسلام. حلف بغداد. انتظروا الجديد، اليوم الدّود الأسود، واللّه أعلم ماذا في الغد لكن الرّوّاس يستدرك فيذكر أنّ الشّاه جلبه من أوروبا ليقضي على البعوض في مستنقعات عبادان، والأهواز، فتسلّل إلينا، وفي نهاية المطاف عضّ على شفته، وهو يتخيّل حدّة الألم:

ـ اللّه ما أشدّ لدغته. كالعقرب، والعياذ بالّله.

عبارته تفتح الباب أمام الدّاهية، لتحذرعبد:

ـ اسمع. لا تنزل إلى النّهر. لدغته لا ينفع معها إلا الكيّ.

ليس هناك من دواء شاف غير الوقت. الزّمن وحده. كم لعنّاه، ولولاه لهلكنا كمدا. الغريب معه يصبح مألوفا، والجديد قديما، حتّى أنت يا داهية، سمحت لعبد أن ينزل إلى النّهر. أصبحنا نألف السمك الغريب، وأطلقنا عليه الدّود الأسود. القرية جميعها، ماعدا أمّ مصعب زوجة عبد العليم المعروف بكرهه للزّعيم، وانتمائه القومي والذي لم يسلم من سخرية المراقب. كان يسمّيه رجل عبد النّاصر في نهر جاسم. زمن دوّار، وما أصعب أن تنزل الدّاهية من عليائها ومقامها الرّفيع، فتقصد ذات الفرج المشوّه. اللّه جلّت قدرته، أحرقها بالدّنيا قبل الآخرة، في مكان يستقبح النّطق به. يمهل ولا يهمل. كانت تفرّ قبل أن تحترق، من الدّود الأسود، إلى الدّاهية خوفا من أن تمتدّ موجة السّحل والعنف نحو نهر جاسم، فللوليّ مقامه، وللدّاهية منزلتها، وفي لحظة واحدة، كانطباق جفنين على أضغاث أحلام، تبرز السّنوات بكلّ عنفوانها، وجبروتها، فتصبح أمّ مصعب عبرة للنّاس في أوج فرحتها، ولو سئلت الدّاهية، في ميزان الحقّ، لقالت إنّها لم تسمع أيّ شيء لا هي أو الحاجّة، ولا ملكة الليل. مع ذلك، فنساء القرية يقلن إنّها زغردت صباح 14 رمضان حالما سمعت بيان الانقلابيين. تلك العاهر بنت الشارع استطاعت، بسحرها، ومكرها، ووقاحتها في الفراش حيث لا تجرؤ امرأة أن تفعله لرجلها ما تفعله هي، وكان للنّساء القدرة على الوصف وكأنّهنّ معها، بتلك الصورة استطاعت أن تكسب ودّ عبد العليم. تقسم زوجة ابن المسعود، وأمّ الرّوّاس، وأخريات يؤكّدن، أنّها من العواهر التّائبات. واحدة من هؤلاء تعلّق بها عبد العليم أثناء إحدى نزواته في المبغى، أشبعت رغبته فيما حرّم اللّه، فشرطت عليه أن يعتزل أولاده، وزوجته، فابتاع لها أرضا في نهر جاسم، واعتزل أسرته، وأولاده، في أبي الخصيب، لا يطلّ عليهم إلاّ لماما، لكنّ شارة الزّعيم، وانتقام اللّه، بانت خلال الأسبوع الأوّل، فأصبحت عبرة لغيرها. دخلت المرحاض، وكان اللّه ضرب على قلبها، فنسيت إذ عبّأت الإبريق بدل الماء من برميل البنزين، وعلى حرارة الفانوس التهب فرجها. يا داهية شرّ البليّة ما يضحك، فكلّ خطوة بذكرى، وكلّ ذكرى بدهر. يا يوم الانقلاب. يوم الأفعى، وعلى الرّغم من كون الدّنيا شتاء، فالشّفاه كادت تتشقّق من العطش. تقول أمّ الرّوّاس الدّنيا رمضان، والذّهاب إلى المشفى مرهق مع ذلك فهي قادرة على أن تتحمّل العطش وتقصد باب الزّبير. ماذا يمكن أن نقول لها؟أيّ مريض يمكن أن تسأله كيف أصبحت. تقدر أن تستوضح عن مرضه…الكلى…المثانة…الأمعاء…، أمّا هذه، فهل يمكن أن نسألها عن فرجها، والحقّ إنّها لو أصيبت بمرض ـ أيّ مرض ـ لما عادتها أيّة من نسوة نهر جاسم. زيارة للشّماتة. باستثناء الدّاهية الّتي انتظرت، فعادتها في منزلها. زيارة مجاملات لا أكثر. أداء واجب فقط. في بيت أمّ مصعب وجها لوجه مع عبد الناصر، وعبد السّلام. هناك إلى اليسار شخص لا تعرفه، وجه طويل، وأنف مثل منقار الغراب:

ـ الحمد للّه على سلامتك يا أمّ مصعب.

قالت، وعيناها تتحوّلان عن الصّور التي يبدو أنّها حديثة العهد على الحائط.

ـ الحمد للّه. اللّه ستر(وأضافت، ولمّا تزل تترنّح في مشيتها) أبو مصعب قال لي لا تقفي جنب مدفأة النّفط، وأنت بالملابس النّايلون. الخطأ خطأي، والحمد للّه كانت شدّة الحرق عند السرّة.

ـ الحمد للّه. وبالسلامة.

ـ لاعيب في المرض يابنت الوليّ لكنّها الشماتة!!

ـ ومن هو العاقل الذي يشمت بمرض؟

باحة البيت، وصوت المذياع. نشيد اللّه أكبر. اللّه فوق المعتدي.

ـ هذا أخوك أبو مصعب، حين يكون في البيت يتابع، هذه الأيّام، الأخبار أوّلا بأوّل.

ـ اللّه يعطيه العافية(تعود عيناها للصّورة الغريبة)من الشخص الثّالث يا أمّ مصعب؟إنّه صغير السّنّ. هل هو من أقاربكم؟

ـ يا داهية هذا المجاهد الجزائري أحمد بن بلا.

المذياع يتحوّل إلى أغنية عاطفيّة. أغنية قديمة. تنقطع الذّكرى، فجأة، ويعود النّشيد، مرّة أخرى. الدّم أم الدّود الأسود. ألفناه. أصبح منظره لا يثير الخوف، والقرف كلّ الأحوال تتقابل وجها لوجه، والحلقة المفرغة الّتي تدور بنا هي الدّم. نبحث عنه دون أن ندري، أو نعرف في أغلب الأحوال. طريق موعود.. القتال من بيت إلى بيت ومن حارة إلى حارة في بغداد. إذاعتا لندن، وواشنطن. العائلة المالكة اُعدمت. والوليّ يأمر عبد:ألق سلاحك. اعدم. اسحل. اعدم. شاحنات على طريق البرّ معبّأة بالسّياسيين الذين سلّمهم الشّاه إلى العراق. حتّى نهر جاسم الصغيرة نصبت المشانق، وهتفت، وأنت يا أمّ مصعب تفرّين إلى الدّاهية مرعوبة:

ـ أنت وزوجك وابنتك يا أمّ مصعب أمانة في عنقي إن تطوّرت الأمور وخشيتم، فتعالوا اسكنوا معنا، وسوف يعلم كلّ النّاس أنّكم في ضيافتي.

كلام يريح القلب من زوجة رجل محسوب على العهد الملكيّ، ولو امتدّ به العمر لربّما وقف متّهما في محكمة المهداويّ.

ـ أصيلة يا بنت الوليّ لكن من يضمن ألا يتسلّل أيّ منهم منتصف الليل، فيذبحنا؟

من حسناتك يا داهية أنّك لا تفشين أسرار أيّة من محدّثاتك. الصورة الحيّة للوليّ الذي يسمع كلّ شيء، ولا ينطق، قلب الدّاهية يستوعب الحقّ، والباطل:

ـ نحن يا أمّ مصعب أهل يجمعنا الخبز والملح. لا الرّوّاس، ولا ابن المسعود، أو آل العمران، فضلا عن الآخرين يجرؤن على إيذاء أحد منكم. نحن أهل.

ـ أينما ذهبت أتعرّض للتّحرّشات. أسمع كلامهن الجارح، فألزم الصمت. تهديد، ووعيد بالذبح، والسّلخ. ورميي بالفسق والفجور.

ـ مجرّد كلام . كلام فارغ لا يقدّم ولا يؤخّر. اسمعي جيدا. هؤلاء الثّرثارات لا يذبحن فرخ دجاج، ولا تواتيهنّ الجرأة على أن يرين قطرة دم.

تأففت، بوجه محتقن عاد إليه الهدوء نوعا ما:

ـ أتقبلين، يا ابنة الوليّ أن يسمّي العمران كلبه(مصعب)، وبيت النّعمة كلبتهم(جميلة).

كانت الدّاهية تقاطع. لولا الحياء والرّزانة المعهودان عنها، لاتّسعت ابتسامتها، ولولا الحزم والرفض القاطع، لكان يمكن أن تطلق ملكة الليل على القطط والكلاب أسماء رجال السياسة ممن تكرههم:

ـ ما لهؤلاء الأمّيّات والسّياسة!ما لهنّ وعبد الناصر، وعبد السّلام أو ملكة بريطانيا، وهل يعرفن القوميّة والشّيوعيّة؟اللّه وكيلك كلّ هذا كلام فارغ.

ـ عقلك يا أمّ عبد، يا داهية، يزن جبالا، وفهمك حار فيه الغريب، والقريب.

ـ وأنا أقول لك إنّ هؤلاء طويلات اللّسان كثيرات الكلام، سلاحهنّ الكلام وحده، لكن حين يجدّ الجدّ، فالأصول تقول لا.

ومرّت فترة صمت، كادت تطول:

ـ كان المرحوم زوجك، يا أمّ عبد، خيرة الرّجال، وسيّد شطّ العرب، أكثر من مائة ألف خلفه. كلّ أهالي شطّ العرب، لكنّها إرادة اللّه دعته إليه قبل أن يرى هذه المهازل.

ـ طوبى للموتى فمن مات استراح.

ـ من يدري. إنّها حكمة يجهل العبد سرّها(وحين بان الانشراح على وجهها تماما، تابعت) الملوك لهم احترامهم، يا ابنة الوليّ، والملك ابن عمّك ينتمي للشّجرة الطّاهرة، في مصر لم يقتل عبد النّاصر الملك فاروق بل وضعه في باخرة وودّعه إلى حيث أرض اللّه الواسعة، وكان الأحرى بهؤلاء ألا يقتلوا الملك وعائلته، ويتركوهم ليسيروا في أرض اللّه الواسعة.

ليس كلّ ما تقولينه يا أمّ مصعب باطلا. الغالي قتل لأنّه انفرد ذات يوم في البستان، بين النّخيل، مع حبيبة القلب. الملكة الحاضرة الغائبة كانت في يوم ما تهيم بالأحلام، ملكة النّخل، والفراش، والزّهور، تجول أينما شاءت، تجول، وتلعب أينما رغبت. تتمايل كبطّة على قنطرة الحوريّة، إلى أن تحقّق المكتوب. كانت مثل حمده صاحبة الجمل البربريّ، غائبة حاضرة، لبست لكلّ حال لبوسها. تخفّت. تسللت. نبحت خلفها كلاب البساتين الغريبة، وعرفتها من رائحتها على الرّغم من تغيّر أسمها الذي أدركته الحاجّة الكبيرة وحدها ولا أكثر من لمسة يد بعد أن قطعت المسافات الطويلة والتقته، أو قبلة على الجبين. حينذاك تجلّت المشاهد الغامضة الواضحة لعينيها…الأمس.. اليوم.. بعد لحظات قبل دقائق وبانتظار أعوام أخرى. حمامة فرّت لصوت طلقة. دم تدفّق مثلما رأيته من قبل، وأراه، الآن شاخصا أمامي، بألف شكل، وصورة. هكذا تنقلب الحال فجأة، فتلبس الفتيات لباس الرّجال. ينمن في الخنادق. يطفن بالشّوارع. أخبار تنذر كلّ يوم بسوء. جراح. دم. ما ذنب الملك وقد حمل القرآن على رأسه، فأمطر بالرّصاص. مثلما بدت الأمور غريبة للدّاهية الطفلة، بدا كلّ شيء مألوفا، وغريبا في الآن نفسه. دم. صوت الوليّ:ألق سلاحك. احمل أختك، ومن الغريب المألوف أن تحبّ القتيل، والقاتل:الأخ، والزّوج. الملك، والزّعيم. أمّ مصعب على حقّ…كيف نحبّ القاتل والقتيل؟ الملك الطفل حمل القرآن على رأسه، فأحببناه هو وقاتله! والداهية أحبت عبد، والباشا والحاجّة كلّ ذلك، والوليّ صامت لا يتكلّم. ألأنّه ساوى بين القاتل والمقتول وقال ذات يوم أحبوا بعضكم بعضا، والغريب في هذه الرقعة الصغيرة الكبيرة، وفي اللحظة التي كسر خنجره تهافتت كالمطر.. كالغبار آلاف الخناجر والسيوف تحزّ الرقاب. إيه أيّها الغالي كانت ابنتك قبل أن تهبّ بغداد، تجلس في باحة الدّار، جنب المذياع الكبير، هي والحاجّة، وربّما معها الخادمة، وأيّة ضيفة أخرى. أمّ مصعب قبل انفجار العداء، واختلاف الأهواء. أين نحن من أيّام زمان. اللّه أكبر…اللّه فوق المعتدي. المذياع كلّ يوم جمعة. وقت الضحى. والعصر. وقت نضج النّسيم، وسكرة الطّير، والماء يلعلع بالصّوت الشّجيّ، ولشدّ ما ذرفت الدّموع، أنا وضيفاتي، وقد تكون أمّ مصعب معهنّ، كأنّ تحت الأنغام الشجيّة بركانا. عنف. ضجيج. مازالت الدّاهية على العهد تحتفظ بصحون الشّاي المزينة بصورة الملك، أمّا صورة الزّعيم، فقد أنزلتها، وركنتها في مكان ما على أمل أن تتحقّق الظّنون، وتصدق الإشاعة، فيرجع صاحب الصّورة في يوم ما، فنحن في كلّ شهر نتطلّع إلى زيارة البائع الجوّال، وهو يرينا صنوفا جديدة من بضاعته، ويهمس لمن يثق به:

ـ إنّها من معمل الزّعيم الذي افتتحه الشّهر الماضي في عبادان.

مهما يكن، فقد قطعت زيارتها لأمّ مصعب الشّكّ باليقين، وأشاعت في النّفس طمأنينة مفقودة منذ زمان. فكم من امرأة زارت قبل الدّاهية، أمّ مصعب، تستطلع، الأخبار. نسين الماضي، وطول اللسان. التّحرّش. الاستفزاز. التّهديد. القتل. السّحل. في الظّاهر تجاوزت أمّ مصعب عن كلّ ما حدث. استقبلت كلّ زائرة ببشاشة، وترحاب، ولم تبال أن تقسم أنّها لا تعرف أيّ شيء عن الطّريق، أيّ أرض يقطع، وبأيّ بستان يعبر. عهود الرّشوة، والفساد انتهت، لا رشوة، ولاجاه في عهد الرّئيس المؤمن، وأبو مصعب، رغم مساوئه، فهو رجل صادق، لم يسع إلى ضرر أيّ إنسان، كلّما ارتقى في وظيفة ومنصب ازداد تواضعا، حتّى كادت الدّاهية تظنّه يتصنّع التّواضع. عضو معروف في الاتّحاد الاشتراكيّ. رافق عبد السلام في إحدى الزّيارات إلى القاهرة، هذا الرّجل يقسم لها برأس عبد النّاصر أنّ الطّريق لن يمرّ فوق الضّريح، ثم لم نخاف؟أمن أجل بضعة أمتار ستعوّضنا الحكومة عنها. العالم كلّه يتطوّر إلاّ نحن. الدّنيا تسير إلى الأمام، فلم نراوح نحن في مكاننا؟ ونقيم الدّنيا من أجل شيء فيه مصلحة للجميع. تريد الحكومة لبرلين وأوروبا أن ترانا، وأن نرى الدّنيا إلى الصين. نهر جاسم مثل الغرفة المغلقة بحاجة إلى شبّاك، رئة. مع الدّرب تدخل الكهرباء البيوت. تلفزيونات. ثلاجات. هذه أدوات يا أمّ عبد يا داهية لم تعد كماليّة. تصوّري السّيّارة كانت غير ضروريّة، فهل نستطيع أن نستغني عنها اليوم؟مكواة الملابس. الثلاّجة. ما ذنبنا نشتري قالب الثلج من الدّعيجي، بالكاد يكفينا بضع ساعات من النّهار. أؤكّد لك يا ريحانة الوليّ أنّ كلّ الأمور تجري إلى خير، فغدا تستريح نهر جاسم في مكانها والعالم كلّه يأتي إليها.

ذلك الكلام الحلو الجميل، لا أعذب منه إلا القول في أنّ الضّريح سوف يظلّ مكانه، إذن من يزفّ الخبر لأبيها الوليّ، هي بالذّات من يكلّمه بعد قليل، وهتف بها هاجس، بعد أن غادرت بيت أمّ مصعب مباشرة: يا داهية الموتى الصالحون يعرفون البشارة، لكن يلذّ لهم أن يسمعوها من أفواه الأحياء، لتعمر صدورنا بالمسك والعنبر وتمتليء بذكر اللّه. كانت تميل نحو المنعطف، باتّجاه المفرق، وحالما عبرت النّهر الأعمى، تبيّنت شيئا ما، تعجّلت في خطاها، وإذ أصبح الطّريق في متناول نظرها، تأكّدت من شكوكها. في عزّ النّهار. ماذا يجري؟لم يكن الباب مغلقا. حركة ما. شيء يلفت النّظر. من يجرؤ على فتح الباب، والتّسلّل؟إنّها في كلّ يوم تجد النّذور، والنّقود مرميّة خلف الباب. مكان آمن، وحرم مصان. شطّ العرب كلّها قالت كلمتها بحقّ غراب. طير لا يعقل، ولا يفهم، لحظة ترك البساتين، والخيرات كلّها، وحطّ على سنبلة نبتت مصادفة جنب الضّريح. يبس في الحال. عاقبه اللّه فمن أين يأتي اللصوص؟وصلت تلهث كلبوة مهتاجة، ثمّ دفعت مصراع الباب، ويدها ترتعش.

ـ من هناك؟

الغضب في لحظة واحدة يتلاشى. الهياج. انبهار. ضوء الخارج يغزو الضّريح. معالم القبر والدّكّة. عشرات القطع المتناثرة على الأرض. تطفو المفاجأة وحدها، والدّهشة:

عبد. حسن. كاظم. الشّمعة. القرآن. علبة الكبريت. الثلاثة يواجهون الدّاهية، غير أنّ حسن تدارك الموقف. اندفع من دون أن يتلجلج:

ـ اتّفقنا يا خالة أن نقرأ الفاتحة، ونؤدّي نذرنا للوليّ.

الموقف يجبر الفيل على أن يتصنّع الجدّ:

ـ لماذا ينذر الكبار وحدهم أمّا الصّغار فلا.

الغضب. الهياج. انقلبا إلى أكثر من علامة استفهام:

ـ وماذا نذرتم؟

عبد مندفعا تشجّعه جرأة حسن، والفيل:

ـ نطلب النّجاح، والدّعاء، عند جدّي، والنّذر طعام عاشوراء.

في هذه اللحظة، تجاهلت حسنا، والفيل، والتفتت إلى ابنها مؤنّبة:

ـ لا اعتراض على دخول القبر، بل حيازة المفتاح بغير علمي.

الجوّ الرّائق أعاد للفيل الطّمأنينة، فعاد إلى المزاح هذه المرّة:

ـ لم لا نقوم نحن الصّغار بقراءة الفاتحة، وأداء النّذور؟

ـ يمكن. لكن عندما تكبر، فتتعلّم ألاّ تبول، وأنت واقف.

ـ عبد وحسن يبولان، وهما واقفان(ثمّ بضحكة)يستطيع كلّ منّا أن يرسم على الأرض ببولته شكل حصان أو شجرة!

وهي تنظر إليهم بصرامة هادئة:

ـ أهذا كلّ ما تعلّمتموه في المدرسة؟(محذّرة)عليكم أن تكونوا نظيفين حين تلمسون القرآن، وتزورون مقامات الأولياء.

لزم عبد الصّمت:

ـ ألا تمنعيننا؟

ـ شرط أن تكونوا نظيفين.

علّق الفيل:

ـ المكان للجميع مجّانا!

وانتبهت إلى أنّ الوقت يكاد يتأخّر، ولعلّ أهل حسين، والفيل يقلقون عليهما، فهتفت تحثّ الثّلاثة:

ـ كفى كلاما فارغا، هيّا معي!

[5]

كانت هي المرّة الأولى التي يكذب فيها عبد على الدّاهية، قبل، كان هناك كذب أبيض يندرج ضمن المشاكسات الّتي يشفع له فيها توسّط الحاجّة. لا يدري لم فعل ذلك. الخوف. المفاجأة. ولعلّها إشارة تحذير. كان ذلك كافيا إلى الحدّ الذي جعل عبد وحسن يتوقّفان عن أيّة محاولة فيما بعد، أمّا ذهن الفيل، فقد انصرف هذه المرّة إلى كبد الوزّ، وفق هذا التّصوّر يظلّ بستان أمّ عبد الرّحيم هدفا وقت الظّهيرة حين تهجع الطّيور على الجرف. الأسرة الوحيدة الّتي تربّي الوزّ مع سرب الدّجاج، والخضيريّ، ولم يكن من الصّعب على الفيل أن يجلب مَعِيَ خروف ممّا يلقيه إلى النفايات محلّ الجزارة في الدّعيجيّ. شيء ما يحقّق الأمل. الحظّ السعيد يستيقظ بعد سبات ونسيان، فيستأثر به وحده. رفيقاه خافا. جبنا. أمّه تقول عنه في محافل تجمعها بالنّساء إنّه عندما كان يحبو قبض على صوص، ومزّقه بليطة. كان ذلك قبل أن يذبح الحسين. وجه كوجه الكلب. شعر مثل شعر الخنزير. أبرص أعور يحزّ الرّؤوس. الشّمر فقط يقدر على أن يقحم الظلام المليء بالأرواح الغريبة، في الوقت الذي ترتجف فيه القلوب هلعا. كلّ الجنّ، والأشباح، اعتادت على سماع اسمه، من جلسات أمّه الشهريّة. الفيل وحده ملك الغاب الذي يغلب الأسد. ابن الدّاهية ذبح دجاجة، وهو بعمر سبع سنين، فأين هو أو الآخر حسن منه؟ طيب أعرض عليكما فكرة!

ـ من يستطيع أن يمشي في الظّلام وسط البستان، أو ل…ا أقول لكما جبل عريزة. أيّ بستان كان، بستاننا نحن بستان الباشا!

ـ يمكن يمكن، لكن(يحكّ رأسه)، ويؤيّد حسن بعد تلجلج:

ـ ولماذا نخرج؟ما الدّاعي؟

ـ أنا متأكّد من أنّك ستبول على نفسك من الخوف!

ـ لم أفعلها في الفراش، وأنا صغير، فكيف أفعلها الآن؟!

سيتولّى الأمر وحده. لا خير فيهما. وهو متأكّد من أنّ الخوف يعيقهما. ظهرا، وبينما الأهالي هاجعون في منازلهم، خرج إلى المكان المقصود. الهدوء والصمت، ورجلاه تلتهمان الدّروب بين النّخيل إلى حيث أجمة الحلفاء. يده تقبض على الكيس المليء بالمصران. ظلّ يتربّص بين الأجمة والجرف. وعلى مرمى من بصره يمتدّ المشهد العريض لبستان آل عبد الرّحيم. شجرة التوت الضخمة يمكن تغطي عليه. السّواقي يستطيع أن يتدرّج إلى إحداها. نهاية البستان من جانب النّهر الأعمى يكثر الشوق والعاقول، فيعيقانه. كلّ ذلك لا يعنيه بقدر ما يعرف حركات الكلب الذّي غالبا ما يضطجع بالقرب من البطّ تحت ظلّ نخلة. تلك العقبة الوحيدة الّتي تعيقه. ، وإذا ما بقي الوضع على حاله، فإنّ الوصول إلى حافّة النّهر يكون أشبه بالمحال. عيناه لا تغربان عنه. المهمّ كيف يلتفّ إلى السّاقية الضيقة. الوقت يجري، وبعد ساعتين يخرج أهل البيت إلى أعمالهم، فيملاؤون البستان. فكرة ما توقّدت في ذهنه، حين رأى الكلب يرفع رأسه، ويفتح شدقيه متثائبا، ثمّ ينهض، ويتمطّى. يغادر مكانه إلى المنزل. الفرصة حانت. نشوة، التفّ معها متخفيا بالحلفاء إلى الجرف، وانساب كمن يدبّ على أربع ملتصقا بالسّاقية. البلل وصل إلى ركبتيه، وقرصته برودة الماء. التفت رافعا رأسه بحذر نحو الباب، ومدّ يده داخل الكيس. أخرج المصران الملفوف، وراح يزحف على ركبتيه. يكاد يكون على بعد خطوات من هدفه. أنفاسه تتلاحق. لحظات.. رمى المصران، متحاشيا أن لا يحدث أيّة ضجّة تفضحه. كان ذكر الأوز يرفع رأسه، ويتأمّل المصران، فتصدر عنه نفخات كالأفاعي، ثمّ يتهادى كالمفتخر، ويميل برأسه، ليهوي بمنقاره، فيبتلع طرف المصران القريب منه. يده ترتخي، وعيناه تحومان نحو العتبة حيث الكلب الذي شُغل في تلك اللحظة بقرص خبز. الذكر يبتلع، وهو يرخي، ويرخي. دقائق ثقيلة إلى أن توتّر الطّرف الآخرمن المعي، عندئذ بدأ يسحب. يسحب، ونظراته تجول في المكان. عيناه لا ترتفعان عن الكلب. لحظات قليلة تفصله عن أمنيته. أيّام قليلة، ويصبح السّعد بين يديه. كمن عثر على خاتم سليمان. النّقود تسيل في جيوبه. أسئلة الامتحان يعرف سرّها. المال. النّقود. الذّهب. عندئذ يصبح أهمّ رجل في العالم. كلّ شيء يقدر عليه. إنّه يملك مفتاح السّرّ. يشدّ على المصران، وهواجسه تتوزّع بين الحلم، والكلب، وحشرجة الطّير الّذي ابتلع ثلاثة أمتار من معي الخروف. كان يسحب، والذّكر ينسلّ معه، ولمجرّد أن انساب إلى الجرف، قبض على عنقه، وعبر من السّاقية إلى الضّفة، ثمّ توارى في أعماق البرديّ الكثيف، ويده تقبض على الغنيمة، وقد أنسته المفاجأة أيّ ألم في ذراعه، أو أيّة خدوش سبّبتها الأشواك، والأحجار في ساقيه، وركبتيه.

كأنّه كان يقبض على العالم كلّه..

الدّنيا كلّها…

ملك يديه…

في غضون ذلك تأكّد من أنّه وصل إلى برّ الأمان، فالتقط أنفاسه، وانهمك في عمله. أخرج سكّينا، وبدأ يعالج الأحشاء. رمى الكبد، والسكّين داخل الجراب، بينما ترك الجثّة في مكانها، وقفل راجعا. عندما وصل، واستقرّت قدماه على مأمن من كلّ شبهة أدرك أنّ ذكر الأوز لم يكن صيدا سهلا. فقد ترك خدوشا على ساعده، في الوقت نفسه، اكتشف قدرته على القيام بأعمال كبيرة يعجز عنها من هم في سنّه فضلا عن الكبار. كلّ شيء بأوانه، وساعته، حتّى يحين موعد الذهاب إلى المقبرة. بقي يعالج الكبد سبعة أيّام مثلما قالت داعية الجنّ، خطوة بخطوة، وأقلّ غلط في الحسابات يفسد الخطّة، فيضيع كلّ الجهد هدرا. عمل أصعب بكثير من إقناع عبد وحسن في التّحضير للاسم الأعظم أو المشي في البستان خلال الليل. أيّها المسكينان، ستريان كيف أغزو العالم وحدي. سبعة أيّام فقط إلى أن تجفّ الكبد. القطط والفئران، والطّيور الجائعة. علبة مغلقة، وبين لحظة، وأخرى، تتحسّس نظراته ذلك المكان الأمين، وخلال مدّة الانتظار، سمع عن جريمته السّابقة، وتفصيلاتها، بروايات مختلفة، فأمّ عبد الرّحيم عثرت مصادفة ضحى اليوم التّالي على بقايا الوزّ المفقود. اكتشفت غيابه حالما عاد سرب الدّجاج، والطيور إلى البيت ساعة الغروب. وفي العتمة خرج عبد الرّحيم يفتشّ داخل الحقل مهتديا بضوء الفانوس. كلّ الجهود ضاعت سدى. وفي ضحى اليوم التالي وُجِدت البقايا داخل السّاقية. هكذا روت أمّ عبد الرّحيم الحكاية. أشكال مختلفة للتّأويلات:لعلّه ثعلب انفرد بالسّرب الأمر الّذي ترك انطباعا سلبيّا عند الأهالي عن تكاثر الثّعالب في البرّ، ومداهمتها البساتين والزّرائب. ذلك يعني مشكلة جديدة، وربّما هو ذكر السّلاحف، اغتنم غفلة، ونهش الأوز، ثمّ سحله إلى السّاقية. كان الفيل يسخر من حكاية الثّعلب، وذكر السّلاحف. لتتضارب الأقوال. ليقولوا ما يشاؤون. ثعلب. ذئب. غول. هو كلّ هذه الأشياء. وحده يدرك جليّة الأمر، فبعد أيّام قليلة يحصل على بغيته. معجزة ينفرد بها وحده. أذناه لا يغيب عنهما حرف، وعيناه تتابعان:

تملكين العالم كلّه. تدخلين على الحكّام، والملوك بغير إذن. يسيل الذّهب أنهارا بين يديك. تجعلين زوجك خادما مطيعا لك. تعيشين مثل الأميرة، فإذا ما أردت أن تسيري، فلا يراك أحد، فلك ما تشائين. لكن يجب أن تعمل التعويذة بدقّة، فيدفنها صاحب الشّأن وحده ليلا في مقبرة، وأيّ خطأ لا يغتفر. الجنّ لا يسامح في تعويذة ملك الجنّ والإنس سليمان.

كان يتظاهر بالنّوم. الظّلام المنتظر. المحطّة الأخيرة جبل عريزة، ثمّ ماذا ألم يكن له أخت ترقد هناك. كم مرّة لعب على الجبل وقت النّهار؟الجنّ يعرفونه، وأهل القرية يقول بعض منهم:ليس ذاك بجنّ، بل الغجريّات اللاتي اتخذن من هذا المكان في الليل ملعبا لسحرهنّ، وشعوذتهنّ، وهو لا يخاف من الجنّ، فكيف بالنّور. ضوء القمر، يفسد الّسحر، ولا بدّ من ظلام تام,السّعالي تلك العجائز القبيحات اللاتي لهنّ شعر منفوش يصل إلى الرّكبتين، وأنوف طويلة، وأسنان كالمناشير، وأظافر حادّة طولها بالأمتار، لا يؤذينه. أكّدت لأمّه مروّضة الجنّ، وقد سمعها من وراء الباب. أمّ المساحي المرأة ذات القدمين الحادّتين القاطعتين، قد يحمن حوله، صارخات، غاضبات، مستهزئات، فلأقلّ لفتة ثمن، أمّا ضعيف القلب، الجبان، فيركبنه حتّى يطلّ الصّباح، أو يرجع ناقصا أحد الأعضاء:أنفا، أذنا، أو إحدى العينين. الأشكال التي يعرفها في النّهار قد تنقلب عليه في الظّلمة إذا توجّست منه خيفة، وهاهو منذ الصّباح يرى قزما بساق، وعملاقا بعين، وامرأة برجلي معزى، ويشخص أمامه وجه ذو عينين كالقوقع، ولم يكن أمامه إلاّ أن يحفظ الأشكال، فيصادقها حتّى لا يخونه قلبه.

في الظهر التمس عهدا من المقبرة. تجوّل هناك. لمس التّراب بيديه. كلّ شيء ساكن، هاديء تحت الشّمس. القبور ذاتها كانت تنتشي بالنّسيم الصّافي، والنّور، وتضيق بالحياة والبشر. حين يصل إلى حافة المقبرة، يتوغّل خطوة عند الجهة المقابلة للبساتين، فيسهل عليه الإفلات من خطر ما. يدفن الكبد المسحور، ويظلّ ساعات يؤدّي طقوسا وعاها من مروّضة الجنّ صديقة أمّه، ثمّ يهرع عائدا إلى المنزل، ويندسّ في فراشه، كأنّ شيئا لم يكن.

والعالم كلّه محصور بين يديه.

الدّنيا تلك الّتي لا حدّ لها.

والخوف لمّا ينزل إلى قلبه بعد.

خطا حذرا خارج المكان. كان أخوه الأصغر يغطّ بنوم عميق. لا حركة أو صوت إلا صرير من بعد، أو عواء خافت. أسقط صقّالة الباب. دفع المصراع بهدوء، للوهلة الأولى فزّ واطمأنّ إلى الكيس. الكلب أيضا. يتبعه حتما. ابتسم، وعادت إليه الثّقة، بوجود الكلب. وكما لو قطع طريق العالم كلّه، استدار مع المنعطف. أذناه ترهفان السّمع: نقيق ضفادع. نعيب. أزيز وردان. صرير، وما لبث فجأة أن التفّ به الطّريق ممتدّا إلى الفسحة الخالية من النّخيل، والشجر وسط البريّة. الظّلام يقوده، فيبدو كلّ مظهر ممّا يعرفه نهارا مرتفعا للأعلى. النّخيل عن بعد، وملامح الضّريح، وأشكال قريبة من الصخور. أجمات. أشواك. حرقة في ساقه اليمنى، وخدش. توقّف عن السّير يخبط العتمة بيديه، كأنّه يصارع تيّار ماء هبّ بوجهه فجأة، فهتف بهمس:

ـ روي.. رروي. أين أنت؟

لكنّه لم يسمع أيّ صوت. كان يخبط في الظّلمة، و يخاطب الكلب الّذي انسحب قبل لحظات، شأنه في النّهار عندما يتبعه إلى مسافة، ثم يعود إلى البستان.

ـ روي. أين أنت؟

ومع وقفته توقّفت الظّلمة ذاتها. رأى وجها مختلفا عن الوجوه، بعيدا عن التّصوّر والوصف، ويدين تنزلان من كتفين عاليين، ثمّ عن بعد تهبط نحو وجهه. أكثر من يد. أغصان تتحجّر، عيون عائمة في الهواء. ماء واسع يتحرّك إليه، أمّا السّماء، فراحت تهبط في عينيه بنجومها الذّابلة الخاوية. لم يشعر إلا، وهو يقف عند حافّة المقبرة، ويتوغّل قليلا عند أقرب قبر يصادفه. هو المكان ذاته الذي حدّده ظهر اليوم. كانت الرّؤى تتوالى. تتدفّق، وأنفاسه، تلهث في إثرها، وبينما هو يهيل التّراب على الحفرة الصغيرة، وإذا بنور شاحب يومض، ثم، يخفت…ظنّه حشرة تلمع، لكنّ عينيه، وشكوكه، خانته. في تلك اللحظة مباشرة تحرّك شيء ما. صوت تلجلج في أذنيه. أهو الكلب عاد ثانية؟

ـ روي أهذا أنت؟

وما كاد ينتهي من عبارته حتّى بدّد ضوء خافت لا يعرف من أين تدفّق بعض ملامح الظّلام، فدارت الدّنيا بعينيه، وتوالت الأشكال الغريبة. لم يرها من قبل. كلّ صور الجنّ حفظها عن ظهر قلب، وكاد يراها كلّ يوم. أمّا هذه…كلّ جسده مشلول. متورّم. عاجز عن الحركة. أسنان بارزة طويلة. شعر مجدول ليس بذات نهاية. أظافر أطول من السّيوف. ذات الأسنان الغول كشّرت بوجهه. تلتهمه بلقمة واحدة، في حين صدرت عن الطّرف الشّماليّ قهقهة لصوت أجشّ، وعلى الضوء الخافت المتقطّع كان يرى كلّ الصّور واضحة. عن يمينه جثّة بالكفن. قربه تقف القبيحة ذات الأسنان الطّويلة. في اليسار مخلوق عار، يلتفّ شعره حول جسده. يدان ترسمان في الهواء إشارات مبهمة. كان المشهد يتفكّك، وتحلل إلى أشكال حادّة: ذات الأظافر الطّويلة تجري كأرنب تطارده كلاب، وذو الشّعر الطّويل يخطو متثاقلا. زعيق محموم من جميع الصّور. زعيق، وصراخ. الضوء يخبو لحظات، ثمّ يلتهب. ركض من ناحية، ودبيب من جهة أخرى، والمخلوقات تتوالى، وتتكاثر. تتوالد. أمامه ساعة بكاملها. ساعة بحجم الدّهر، وأثقل من الزمن كلّه. ذات الأظافر الطّويلة اقتربت منه، فتبيّن أنّ بيدها سيخا، وسكّينا، وكان مسخ يقف خلفها، ويمدّ نحو وجهه شعلة نار، ليخيّم سكون، وتجثم الظّلمة لحظات، فينفتق بعدها الضّوء الخافت:

ـ كنّا ننتظرك!

ـ أتأكل معنا؟

نطق صوت أجشّ من جهة ما، وكلّ الذي يعرفه الفيل أنّ الماء تصبب من جبهته، وغطّى جسده كلّه:

ـ عليك أن تأكل معنا!

وزعقت صاحبة الأسنان:

ـ أنت أنقذتني بقدومك هذه الليلة، ولولاك لقتلوني مثل هذه(وأشارت)انظر إليها لذلك لا بدّ من أن تأكل معي. لابدّ من ذلك.

وأشارت إلى الجثّة الملفوفة بالكفن، عندئذ نسي الكلام، وانتابته قشعريرة نفضت الماء عن جسده. لحظتها كان كلّ شيء يتجمّد فيه. عيناه، شعره، رأسه، وفمه يعجز عن أن يطلق صرخة تشقّ الظّلام، ماعدا ساقيه اللتين كانتا تجريان به باتّجاه السّاحة، ثمّ ينعطف من حيث لا يدري إلى البيت، وما أن دلف إلى غرفته، واستلقى على سريره، من غير أن ينتبه لما حوله، حتّى تزحزح قليلا ما الثّقل عن شفتيه، عندها أطلق زعقة حادّة كسرت سكون الليل، فاستفاق لها كلّ من في البيت.

 

د. قصي الشيخ عسكر

...................

حلقة من رواية: نهر جاسم، الكتاب الثاني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم