صحيفة المثقف

العَيْشُ معًا في سَلاَمٍ.. الطّرِيقُ نحو المُوَاطَنَة الحَقِيقِيَّة

علجية عيشمقدمـة: كل الديانات تحض على السلم وتدعو إلى تحقيق السلام وتصلي من أجله، وتحمل شعارات على شاكلة " ليكن السلام حليفك"، فالعالم اليوم في حاجة ملحة إلى أن يسود فيه التعايش السلمي وأن تعيش كل الشعوب في سلام بعيدا عن الحروب المسلحة والتفجيرات النووية، وقد اخترع الحكام عبارة التعايش السلمي أو العيش معا في سلام بديلا للحالة الوسطية بين الحرب والسلم، وهذا ربما لكسب الوقت، في حين يرى البعض ان استعمال التعايش السلمي أفضل من الحرب الباردة، من أجل بناء عالم يسوده السلم، ولذا وجب على الحكومات ومنظمات حقوق الإنسان أن تضع حدا للهول الذي ينزله رؤساء الدول القوية بالشعوب الضعيفة، وحتى الحكام بشعوبهم، إن السبيل إلى العيش في سلام هو محاربة "العدائية" و"التطرف"، وترسيخ روح "المواطنة"، لكن كيف يقبل طرفان بالتعايش السلمي أو بتعبير أدق، كيف يعيش طرفان معا في سلام، وهناك طرف لا يعترف بحق الطرف الآخر في البقاء والوجود؟، لأن العيش في سلام يسبقه الحوار، وفي الحوار ينبغي أن يكون هناك قبولٌ كاملٌ بالآخر واستعداد تام للالتقاء معه ومن ثم التحاور معه في كل شيئ يخطر على البال دون اي شروط أو إملاءات، فلا يرى الواحد منهم أنه أكبر حجما ووزنا من الآخر، إن الحوار لا يشترط إلا الاعتراف بالآخر ككيان مستقل له خصوصياته، والحرب وحدها لا تعني حسم الصراع، والجزائر كنموذج فقد خرجت منتصرة وهي تحارب الإرهاب من أجل ان يعيش شعبها في سلام، وتمكنت من استعادة الأمن والإستقرار من خلال ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وتعين عليها استلهام رسالة أول نوفمبر 1954 التي كانت خلاصة فكر سياسي وطني، راى النور بعد مخاض عسير.

من أجل أن يَحُلَّ السّلام والبناء والنّماء في صفوف الأمّة وعلاقات شعوبها

إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومبادئ القانون الدولي الإنساني، وما سبق ذلك من مواثيق دولية، كانت كلها بعد حروب دامية مدمرة خاضعا العالم، وممارسات خاطئة ارتكبها الكثيرون من أصحاب القرار والسلطة، مما دعا المصلحين إلى إلى إعلان تلك المبادئ وتبنيها في الهيئات الدولية، لإيقاف الحروب التي تشنها بعض الدول على الشعوب وارتكابها أبشع الجرائم في حق البشر، كما حدث في جنوب أفريقيا، ويوغسلافية والبوسنة والهرسك وكوسوفو، وكذلك الجرائم التي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني وتمارسها أمريكا وبريطانيا على العراق وأفغانستان، فالسلام والأمن والخضوع لحكم القانون الدولي مرتبط بمدى التقدم في تنمية أحاسيس الانتماء والإخاء الإنساني بين الشعوب والأمم وتوسيع دائرة القبول والالتزام بالقواعد والمفاهيم الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية المشتركة القائمة على روح العدل والإنصاف والتضامن الإنساني المشترك، ودون ذلك وبقدر القصور في تحقيق تلك الأهداف والمساحات المشتركة تظل القوة والقهر والصراع سمة العلاقات بين الأمم والشعوب، ولا يقتصر السّلام الشامل على ما يفهم منه الآن من الانسجام بين الدول فحسب، بل يشمل حياة الأفراد بما يحقق لهم من الاستقرار في داخل الدولة وخارجها، فالدولة لا تنال غايتها من الانسجام الدولي إلا إذا تمتع أفرادها بنعمة الأمن والطمأنينة فيما بينهم، لقد كانت الأديان كلها تنادي بالعيش في سلام، وكان السّلام هو التحية التي تبادر بها الشعوب بمختلف لغاتها، ورفعته في شعاراتها أمام الأمم، ولا يسع الحديث هنا عن السلام في الشرائع السماوية (الإسلام، المسيحية، اليهودية وفي الأديان الأخرى)، لكن يمكن أن نوجز القول بأن الأصل في التعايش هو السلام الدائم التي دعت إليه هذه الأديان، فبالسلام تتسع دائرة العلاقات الإنسانية بين أفراد الشعوب، وهو المبدأ المنشود في العالم المعاصر، بل في كل عصر ليعيش الناس في امن واستقرار، ولو نظرنا إلى العالم من حولنا لوجدنا عدوانا على السلام على المستويين العربي والعالمي، والدليل النزاعات التي عاشتها الشعوب في العالم والحروب المسلحة الدموية، وحتى الحروب الأهلية بين أفراد البلد الواحد (تجربة الجزائر في العشرية السوداء نموذجا)، ولعل التفرقة العنصرية والاضطهاد، وعدم توزيع الثروات بشكل عادل سبب كافٍ لقيام النزاعات والحروب الدولية والحروب الأهلية، فقد كانت الجماعات البشرية القوية وما تزال، تجيز لنفسها الاعتداءات من أجل السيطرة على حدود دولة ما، واستغلال مواردها الاقتصادية (النفط)، من هنا جاء الصراع المسلح الذي أخذ اسم الحرب حسب الموسوعة العسكرية.

تعريف السِّلم والسّلام

عرف السِّلْمُ بأنه عدم وقوع الحرب، ويشترط ألا تحاول دولة ما غزو الدولة الأخرى ولا تقطع عنها أي مورد يضمن حياتها مثل الماء والكهرباء، لكن السلم يختلف مفهومه من مجتمع لآخر، وفق أوضاعه السياسية والإجتماعية، وبالنظر إلى التطورات السياسية، بات من الضروري فرض السلم على الجميع داخل الدولة أو خارجها، خاصة الدول التي لا تتوصل إلى نتيجة حاسمة، ليس أثناء الحرب، بل بعد الحرب، وعبارة العيش في سلام مرادفة للتعايش السلمي، الذي يراد به عودة العلاقات بين دولتين أحدهما كانت مستعمِرة الأخرى، وتبقى الدولتان على توافق مهما كانت التقلبات السياسية، فكيف نسمي إذن عودة العلاقات بين الجزائر وفرنسا ؟، هل يجب على الجزائري مثلا أن يتعايش مع دولة حليفة لفرنسا، حتى يصبح التعايش هنا متوازنا متعدد الأطراف، وإن كان الحسم في مثل هذه المسائل يتطلب إجراء استفتاءً شعبيا، وأن تترك الحرية للشعب أن يقرر، فالسؤال يتجدد طرحه وهو كالتالي: هل تستطيع دولة مستقلة لكنها غير مستقرة أمنيا (استمرار العمليات الإرهابية) أن تنجح في فرض سلم خارجي شامل؟ ويمكن أن نبسط السؤال بالصيغة التالية: كيف تبسط دول ما السلم لدولة أخرى محتلة، وهي غير مستقرة أمنيا، أي أنها عاشت مأساة وطنية ومهددة بحرب أهلية.

و السلم يقابله التطرف، وهذا المصطلح يأتي مقابل الاعتدال والاتزان، وهو يعني المبالغة في التشدد الزائد عن اللزوم، مع رفض للتراجع والاعتراف بالخطأ، حيث يقود إلى أعمال عنف، وظاهرة التطرف التي يعاني منها العالم اليوم لها جذور تاريخية ومظاهر متعددة،، تميزت في بدايتها بالتزمت الفكري الديني السياسي ثم اتخذ أنصاره مواقف عدائية وفي الأخير بإعلان الحرب وتخريب المؤسسات وإسقاط الحكومات، وكانت الخلافات المذهبية (الشيعة والسُّنَّة) والعرقية(العرب والأمازيغ) قذ شكلت قوى مضادة، دون أن ننسى الحركات والأحزاب الدينية والسياسية ذات الأصول السلفية مثل (الهجرة والتكفير والجهاد الإسلامي) فإنها تلتقي جميعا في برامجها الفكرية المتطرفة، وهذا راجع إلى ضحالة في الفكر وقصور في الفهم في كثير من المسائل التي تتعلق بالتجديد والتطور والحداثة، وساقت أصحابها إلى غربة فكرية، كما أن تكفير الآخرين واستباحة دمائهم، والتميز بالعنف، كما يعود سبب التطرف إلى فساد الحكام والحُكْمِ وطغيانهم واستبدادهم، ومعرفة أسباب التطرف والعنف تتطلب تظافر جهود العديد من الباحثين المختصين في علم النفس والإجتماع، وعلم الأديان، لأن الظاهرة متشابكة ومتداخلة، ولأن الإسلام يحذر من التطرف، يقول أهل الاختصاص أن الحروب الأهلية أكثر دمارا وخرابا من الحروب الدولية، خاصة وأن مشاكل الجوار والتعاون أو التعايش أصبحت لا تقبل حلا، ولذا إطالة فترة السلم يتطلب توفر الانسجام بين الجميع داخل وخارج الدول على السواء، وتتطلب مزيدا من التسامح، يقول أحد المفكرين وهو رجل قانون: " إن السلم عملية بناء مستمرة"، وهذا يعني أن السلم لا يعني الهدنة، فالسلم يحتاج إلى وقاية، ووقايته تأتي عن طريق العدالة الإجتماعية، أي بتلبية الحاجات والمطالب وبتنمية الثروة وتطويرها، مادامت هناك دولة مستقلة تتمتع بالسيادة المطلقة.

أما السّلام مصدره كلمة سَلِمَ، وهي كلمة عامة في كل زمان وفي كل مكان ولكل إنسان، ومعناها أنه بيني وبينك المحبة والطمأنينة والأمن، والسلام ذكرت في القرآن مع ما يشتق منها أكثر من 80 آية في مناسبات مختلفة، وبمعانيها المختلفة بحسب المواقف والموضوعات، كما ذكر القرآن كلمة السلام 42 مرة، والسلام في العلاقات الدولية، أي علاقة دولة بأخرى هو الأصل ولا يجنح للحرب إلا في حالة الضرورة والدفاع عن النفس وحماية الدولة والنظام، ولهذا يرى الكثيرون أنه ينبغي أن يكون لهذه الدولة جيش قويّ يحمي حدود تلك الدولة، وأن يكون على جاهزية ويقظة دائمتين وهو يواجه الإرهاب والجريمة المنظمة، والتأقلم مع كل الظروف، وبخاصة ظروف الصحراء، لأن الأسلحة مهما بلغت من تطور، يبقى العنصر البشري الطرف الأساسي في أي حرب، وحسمها لا يكون إلى بقدرة المقاتلين على التأقلم مع ظروف ساحات المعارك وبخاصة المعارك الصحراوية، سؤال يلح على الطرح، ما الذي تأتي به الحرب، سواء كانت دولية أو حرب أهلية وماهي صورتها في الوعي والمتخيل الإنساني؟، ففي العالم العري اليوم تقاتلا رهيبا، لدرجة أن الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان اعتبرته فعلا وحشيا بل جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، ولا يغيب هنا أن نقول أن صُنَّاعُ الموت عادة ما يتلذذون بقتل شخص يعارضهم، عكس الإنسان العاقل فهو يرى التقاتل بين ابناء الوطن الواحد (النظام والفيس)   إخفاقا شاملا للدولة وللسلطة، وللعامة وللنخبة، ذلك أن مجتمعا حريصا على استمراريته في الحياة، ويطمح إلى مستقبل واعدِ لا يقبل أن يرى دمه يسفك بشكل يومي، فالمتعارف عليه أن الشعب يحارب جنبا إلى جنب ضد عدو خارجي يهدد وجوده، لكن يحدث العكس و حين يحارب أفرادها بعضهم بعضا، أليست الحرب الأهلية انتحار جماعي؟، أرادت جماعة من وراء البحار أن تدفع بهذا الشعب إلى الموت، يمكن الإشارة أن تحقيق دولة موحدة ليس بالضرورة أن يكون بالقوة، وإنما بالتعايش السلمي في إطار احترام حقوق الآخر وعدم التدخل في شؤونه الداخلية.

كما أن وقاية السلم تكون بنزع السلاح والتصدي للإنقلابات السياسية في العالم، فقد أخفق الخبراء في مؤتمرات عديدة حول نزع السلاح ولم يتوصلوا إلى حلول للتهدئة من حدة النزاعات والخصومة فيما بين الدول، ولم يتحقق مشروع إنشاء نظام دولي سلمي يتضمن نزع السلاح وإقرار الأمن الدولي، وانقسم الفريق إلى جانبين: جانب يرى أنه وجب توفير الأمن أولا، والجانب الثاني قال أنه ينبغي نزع السلاح أولا حتى يستتب الأمن، كون الحرب أهلية كانت أم خارجية هي نوع من الوباء الاجتماعي مهما كانت مبرراتها ووسائلها، لأن الإنسان هو الذي يقتل لا السيف أو المدفع أو القنبلة النووية، والأسلحة ماهي إلا أدوات القتل، وقد أكد خبراء الحرب والسياسة أن الروح العدوانية لدولة من الدول لا تتعلق بأهمية تسليحها أو بمجرد التهديد باستخدام سلاحها، فأسباب العدوان داخلية ترتكز على الدعاية والإعلام، والتكيف التقني، أي البنى الفوقية (السيكولوجية والإيديولوجية) وحتى الدينية، ونشير هنا أن كل الديانات تحض على السلم وتدعو إلى تحقيق السلام وتصلي من أجله، وتحمل شعارات على شاكلة: " ليكن السلام حليفك"، ولهذا فالإرهاب منبوذ، لأنه يجعل المجتمعات تعيش في اشد حالات الذعر والخوف والرعب، وهو الذي مارسته الثورة الفرنسية ويدخل في حكمه الاغتيالات، في حين نجد أن الصراع السلمي التوافقي هو صراع تدافع حضاري بنّاء يحقق الإصلاح، ويدفع إلى الإرتقاء والتقدم.

مؤتمرات السلام.. وقفة تاريخية

يقول خبراء الحرب أـن معركة السلام ليست سهلة وبالدرجة التي يتصورها السياسيون، فثمة قوى لا تقبل السلام إلا بشروط، أولها مسخ هوية الدولة الأصلية واستبدالها بهوية دولة أخرى، مثلما حدث بين الجزائر وفرنسا التي أرادت أن تكون الجزائر فرنسية وأن تتنازل الجزائر عن ماضيها، بل تقدم تنازلات حول العديد من المسائل (تجريم الاستعمار)، ولعل مطلب السّلام ناجم عن تطور أسلحة الدّمار التي تستعملها الدول القوية، والتي حولت النساء والأطفال والشيوخ وحتى الجيوش المقتلة إلى جثث، وأصبح السباق نحو التسليح المادة الخام التي تتسابق إليها الدول، وبالعودة إلى قرون مضت نرى أن البشرية عرفت منذ ظهورها المذابح والمجازر من أجل البقاء، غاب فيها صوت العقل، وسجلت خسائر كثيرة، فكان على الدول والحكومات أن تعقد مؤتمرا للسلم، كانت المؤتمرات العالمية للسّلام عبارة عن اجتماعات دولية لتعزيز السّلام تُعقد في عواصم أوروبية مختلفة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أول مؤتمر سلام عقد في لندن عام 1834، بينما عُقد أول مؤتمر يحمل رسمياً اسم "مؤتمر السلام العالمي" كان في باريس عام 1889، ثم المؤتمر الثالث في روما عام 1891، حيث أسس ناشط السّلام والبرلماني الدنماركي فردريك باير (1837-1922) المكتب الدائم للسلام الدولي (PIPB)، وهو منظمة مركزية لمجموعات السلام تدعو لنزع السلاح واللجوء لمحاكم العدل الدولية والتحكيم الإلزامي لفض النزاعات بين الدول، ثم يأتي مؤتمر باريس لنزع السلاح الذي انعقد في الفترة بين 1919 و 1920، وها قد مضت تسع وتسعون سنة على انعقاد هذا المؤتمر، الذي واجه صعوبات، بحيث لم يتم الاتفاق بين المؤتمرين من عسكريين وخبراء سياسيين على تعريف ملائم لمفهوم الجندي، بعدما تغطت أوروبا بوحدات الميليشيا، فكان الإخفاق، لأن الجميع لم يكونوا على اتفاق على نقطتين أساسيتين هما: البدء بنزع السلاح أو بموضوع نظام الأمن، فكان رأي البعض أن استتباب الأمن مرهون بنزع السلاح، وكان الرأي الآخر بالنقيض، خاصة الدول التي كانت ترفض فكرة إجراء تفتيش أجنبي فوق أراضيها.

ولما تبين أنه يستحيل الوصول إلى نتيجة اتفق المؤتمرون على مشروع إصدار ميثاق يوقع عليه جميع من شاركوا في المؤتمر، فكان ميثاق كيللوغ بريان، الذي يندد بالحرب وطالب بتسوية الخلافات بودية، والتعهد بالامتناع عن الحرب في العلاقات الدولية، وكان المؤتمر قد باءت نتائجه بالفشل لغياب الوسائل اللازمة لتنفيذه، وأغلق الحوار حوله من جديد، بعدما أضيفت له سلسلة من المواثيق الثنائية لعدم الاعتداء على الآخر، لاسيما الميثاق الذي أبرم بين هتلر وستالين الذي بني على خداع وخيانة، ورغم إعادة إحياء مؤتمر باريس على شواطئ بحيرة ليمان، كان ذلك بعد حادثة القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما، يرى صاحب التقرير أن فشل مؤتمر نزع السلاح (باريس) سببه أن كل طرف يحاول أن يستدرج الطرف الآخر للتخلي عن أفضل أسلحته، بينما هو يحافظ على أسلحته الخاصة، وكما يقال الحرب حيلة، ولا توجد نية صافية في التفاوض، وكل طرف يسعى لاستعمال السبل "الماكيافيلية" في إقناع الطرف الآخر وإلحاق به الخسارة، فيما يرى آخرون أن الأسلحة ليست وحدها تمثل قوة دولة ما، فقد كانت الولايات المتحدة الوحيدة التي تملك السلاح الذري ولكنها لم تستعمله، ولذا فالمسألة تتعلق بالدعاية والإعلام الذي يعتبر أقوى سلاح لإرهاب الدول، ثم البنى الفوقية السيكولوجية والإيديولوجية.

ولعل رفض الولايات استعمالها السلاح الذري أو النووي أو تأجيله، وفق الدراسات يعود إلى رغبتها في أن تكون عضوا في رابطة للدول من أجل تأمين مبدأ أساسي للعدل والسلام، تبين ذلك في خطاب الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون على هامش مأدبة أقامتها رابطة فرض السّلام في 27 مايو 1916، ولم يزل خطاب ولسون الذي ألقاه في 01 يناير 1918 فصّل فيه شروط السلام ووضعها في 14 نقطة، من اجل الحفاظ على الهدوء والاستقرار، فيما راح نيلسون أحد أعضاء الوفد البريطاني لمؤتمر باريس للسلام يعلن تذمره من اجتماعات ولسون والزعيم الفرنسي جورج كليمونصو لتقسيم آسيا الصغرى وكأنهم يقطعون كعكة، إن مداولات مؤتمر باريس للسلم عام 1919 بينت كيف تؤدي الخلافات حول تقرير المصير إلى حروب جديدة، وهذا للرد على الرئيس الأمريكي الذي أراد أن يكون تقرير المصير لبعض الشعوب التي ترضى عنها أمريكا مثل الشعوب النمساوية الهنجارية التي كما يقول لها مكانة بين الأمم، كان ولسون يرغب في أن يراها آمنة مستقرة وأن تمنح فرصتها الكاملة في نهضة مستقلة.

التعصّب والتطرف يولدان "العدائية" ولا يحققان "التعايش السلمي"

إن السلم والاستقرار لا يقومان على القمع والمذابح والحروب الواسعة والحروب الأهلية والاغتيالات التي تطال السياسيين والنقابيين ورجال الفكر، ولأن السّلام وحده يحقق القيمة الإنسانية للفرد وللجماعة وللدولة، فالعربي إنسان والعجمي إنسان والأبيض إنسان والأسْوَدُ إنسان والحاكم إنسان والمحكوم إنسان، فهم إذا سواسية كأسنان المشط، فما أحوج العالم اليوم إلى السلام؟ وهذا يستوجب معرفة الأسباب المتعارضة مع السلام وكيف يمكن إلغاؤها، من أجل العيش في مناخ يسوده الأمن والاستقرار والطمأنينة، كما أن السلام وحده كاف لضمان حرية الشعوب في كل مجالات الحياة لاسيما حريتهم العقائدية، فلا إكراه في الدين، إذ يمكن أن يتعايش المسيحي مع المسلم، والمسلم مع المسيحي، وحتى اليهودي المتديّن، والسلام يشترط الابتعاد عن التعصب والتطرف فكري كان أو ديني، أو ثقافي أو سياسي، أي تسهيل ذلك لكل معتنق لدين (حرية العقيدة) أو لحزب (التعددية السياسية) أو رأي (حرية الرأي) بدون إكراه أو إرهاق أو إقصاء أو إغراء، وبخصوص هذه الأخيرة حرية الرأي، فحقوق الإنسان أعطت للفرد التعبير عن رأيه بالطريقة التي يراها، باعتبارها وسيلة للفكر، دون أن يكون متبعا لغيره، كما أعطته حق الإختلاف (المعارضة) مع الدولة والسلطة، فالاختلاف والخلاف في السياسة مثلا قديمٌ، يعود إلى موت الرسول (ص) يوم اجتمع الصحابة في موقعة السقيفة لاختيار الخليفة، ومن هنا نشأت العدائية بين الأفراد والجماعات.

قد يتساءل قائل من أين تأتي العدائية؟، وهل يتوجب علينا أن ننظر إلى العمل العدائي فقط؟ وكيف نعالجها كظاهرة اجتماعية؟، أو التخفيف على الأقل من حدّتها؟ والحقيقة أن العدائية لا تكون بين دولة ودولة أخرى، وإنما قد تتولد بين النظام والشعب لأسباب عديدة تتعلق باختلاف في الأفكار والمواقف، والرؤى والسياسة وقد تتولد العدائية عن رفض الشعب لتوجهات السلطة، أو الدعوة إلى تغيير النظام، مثلما حدث في تونس وليبيا ومصر والعراق، انتهت بإسقاط الأنظمة، أو ما نسميه بالربيع العربي، والعدائية كما عرفها علم النفس الاجتماعي تظهر عن التعصب في الرأي والفكر، كما تستخدم للدلالة على وجود مجموعة من التصرفات السلبية تنتهجا جماعة ما، قد تتمثل في حكم بالإعدام ظلما، التحامل على الغير، أو اغتيال شخص ما، أو إبعاده عن السلطة دون وجه حق، تجويع شعب عن طريق رفع الأسعار واحتكار السلع، تزوير الانتخابات، احتكار السلطة، يشعر الإنسان أنه يعيش في عالم مأزوم، يقيد حريته، ويجعل منه مواطنا مستهلكا فقط، لدرجة انه يتصور أو يُخَيَّلُ له أن هذا العالم غير قادر حتى اليوم على الاقتراب من حقيقة أن التقدم والنهضة والخروج من نفق التخلف مرتبط بالحرية وبالوعي، وبوجود بشر يتحركون في فضاءات مجتمعهم بلا خوف من سلطة فاسدة، أو إرهاب أو إقصاء أو أي تهديد يتسلط على أرزاقهم وحقوقهم وكراماتهم من قِبل أطراف بعينها ولمصلحة أفكار وإيديولوجيات محددة، والأمثلة كثيرة ومتنوعة، فمن الصعوبة إذن تحليل كل ظاهرة على حدا، لأنها تصرف اجتماعي تقوم به جماعة تحمل نزعة تدميرية، فتقوم بأعمال عدائية، فيحدث الإحباط، وقد يؤدي هذا الإحباط بجماعة ما إلى تكوين هوية اجتماعية موازية وقد تشكل ميليشيات مسلحة، كما أن هذا الإحباط قد يدفع بالشعب نفسه (الجماهير) إلى تبني العنف، والخروج إلى الشارع، وما يتبعه من تخريب وحرق للممتلكات وقتل للأرواح.

هكذا تدفع السلوكات الغوغائية بكل فرد إلى التسلح، أي حمل معه سكين أو خنجر حيث ما كان، وقد نجدهم يترقبون الأحداث لإحداث الفوضى انتقاما من السلطة أو النظام، لكن ما حدث في الجزائر في بداية التسعينيات يختلف تماما عمّا حدث في تلك الدول، ولو أن الضريبة كانت غالية جدا، فقد اختارت الجزائر مشروع المصالحة الوطنية، هذا المشروع الذي كفكف دموع الجزائريين، واستطاع قادة الجزائر جيشا وحكومة وأحزابا أن يحققوا "الوئام" والارتقاء بالوطن عن طريق ترسيخ قيم الانتماء و"المواطنة" في ضمير المواطن، كمبدأ وكمرجعية دستورية وسياسية، والعمل على رفع الخلافات الواقعة بين مكونات المجتمع والدولة في سياق التدافع الحضاري، وتذهب إلى تدبيرها في إطار الحوار بما يسمح من تقوية لحمة المجتمع، بحيث يشعر الجميع بأن مستقبلهم مرهون بها.

لا يمكن تأسيس "مواطنة" بلا ديمقراطية

لقد صاغت المنظمة الدولية مفهوم "المواطنة" من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك في إطار التحول الديمقراطي الذي يعتبر وسيلة لتحقيق العديد من الأهداف السياسية، فإذا عملنا بالمقولة الشهيرة: " أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فالمواطنة تعني أن هناك حقوق للدولة وهناك حقوق للوطن علينا أن نؤديها، فهي علاقة تبدأ بين الفرد ودولته، ولذا ربط الحقوقيون دولة المواطنة بحقوق الإنسان في العيش في سلام، والمشاركة في الحكم من خلال العملية الديمقراطية، و المواطنة في المفهوم المعاصر تعني التعبير عن علاقة الفرد بدولته، تلك العلاقة التي يحكمها دستور الدولة والقوانين الصادرة عن سلطتها التشريعية لتنظيم تلك العلاقة، بتحديد حقوق الأفراد، وكيفية التمتع بها، ودور السلطة داخل الدولة في حماية هذه الحقوق، فالمواطنة إذن تعني أن جميع أبناء الوطن يعيشون فوق ترابه سواسية، بدون أدنى تمييز، يشعر فيها المواطن بالإنتماء والولاء للوطن، وتأتي المواطنة من خلال وعي المواطن بأنه حرٌّ في بلاده وليس مجرد مقيم يخضع لنظام معين، دون أن يشارك في صنع القرارات، وتقوم المواطنة على عناصر ثلاثة هي: (الحوار، التسامح والسلام)، ولا يتحقق السلام إلا بتوفر هذين العنصرين وتطبيقهما في الواقع، حتى لا يبقى مجرد فكرة، ولذلك فإن الحديث عن ثقافة الحوار وعن الحوار بين الأديان والتقارب بين الثقافات لم يعد ترفاً فكرياً، بل هو رهان جديد للعصر المتحضر والمستنير، ويرى بع الباحثين أن المواطنة تقوم على ثلاث قيم هي: الحرية، المساواة والمشاركة، وهي تمثل معا المحاور الرئيسية لضمان الخير العام للبشر، وإقامة العدالة وحقوق الإنسان، من خلال عقد اجتماعي بين المواطن والكيان السياسي التابع له، فيما يرى محللون أن القيمة الثالثة وهي المشاركة هي المضمون الحقيقي للمواطنة، أين يسهم المواطن في صنع القرارات التي تؤثر في حياته بشكل مباشر، وهذه المشاركة لا تتحقق إلا من خلال اللامركزية في الإدارة العامة، وتشجيع تأسيس منظمات المجتمع المدني واستقلاها الذاتي.

كما أن الديمقراطية من وجهة نظر منظري المواطنة ضرورية لممارسة المواطنة، ولذا فإن الأنظمة الدكتاتورية المستبدة تضرب في العمق قيم المواطنة عرض الحائط، ويتم ذلك عن طريق تزوير الإنتخابات، وتقييد حرية التعبير والرأي والمعارضة، ناهيك عن ألوان الفساد والمحسوبية، من هذا المنطلق الفكري يجب أن لا يكون الآخر كابوسا مريعا، بل بالعكس يجب أن يصبح حافزاً للحوار والتفاهم، لأن الفكر الديمقراطي يفترض الحوار والتفتح ونبذ الفكر التسلطي، كما أن الحديث عن التسامح   يتيح العيش مع الجماعة والتعاطي مع الآخرين, مع إعطائهم حق التعبير وحرية الفكر والاعتقاد، ولا يكتمل مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي، إلا بنشوء دولة الإنسان، بمعنى أن لا تمارس الدولة أو السلطة إن صح القول الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه المواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية، باعتبارها مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وتحفظ على المواطن حقوقه المختلفة، وتعترف بالتنوع الثقافي، واللغوي والإيديولوجي والسياسي، بما يحقق لحمة النسيج الاجتماعي للمجتمع، ويؤدي إلى شراكة في تنمية المجتمع، وهذا لا يتحقق إلى بالحوار، وفي الأطر الديمقراطية، كطريقة حياة ورؤية، فالأمة اليوم مطالبة بتجديد خطابها، لا هو خطاب سياسي، ولا هو خطاب ديني، بل كما قال المفكر الجزائري محمد أركون خطاب اجتماعي discours social، أي خطاب الكم الأكبر من البشر في المجتمع، فهو إذن خطاب مجتمع بأسره.

العيش معًا في سلام هو الحلّ

وإذا نظرنا إلى جانب علم النفس الاجتماعي، فعلماء النفس والاجتماع يركزون في بحوثهم على العلاقات بين الأجيال، أي جيل الأبناء وجيل الآباء والحفاظ على الممتلكات الروحية التي صنعت مجد الآباء وفخرهم حين يسلمون المشعل حتى يثبتن الجيل الجديد، ولا يتكلم بلغة الحرقة والانتحار الجماعي عبر قوارب الموت، شريطة ألا يكون كبش الفداء من أجل أن يحتفظ الجيل القديم بسلطته ونفوذه، فالمسالة حسب الخبراء اجتماعية أكثر منها سياسية، فلا يمكن العيش في سلام إلا إذا توفر شرط أساسي وهو تحقيق "المواطنة" كما أسلفنا للقضاء على كل أشكال العنف، وسد بؤر الكراهية، وكعينة فالحالة الجزائرية قدمت مثالا أكثر توضيحا، إذ القوى الاجتماعية والإيديولوجية لم تكن تتجه كلها على نمط واجد باتجاه الخط الذي انتصر عام 1962 بعد استلام السلطة من قبل مجموعة منه المجاهدين، بل إن التيارات والصراعات المختلفة كانت قد ظهرت سابقا حتى أثناء الحرب، وذلك في وسط جبهة التحرير الوطني، وكانوا يتناقشون حول الشخصية الإسلامية أو الجزائرية للبلاد، بمعنى هل هي إسلامية أم جزائرية، فكان الاعتماد على خطابات جبهة التحرير الوطني من أجل تقديم صورة عن بنية المجتمع الجزائري وآلية عمله اليوم، ويلاحظ أن الساحة السياسية تلعب هنا دورا حاسما بالقياس إلى الساحة الفكرية والعقلية، ثم بالقياس إلى الساحة الدينية وتداخلهما مع بعضهما البعض، فكانت لها تجربة طويلة المدى في مكافحة الإرهاب وهذا ما جعل منها دولة مهمة على المستوى الإقليمي والدولي، من خلال ترقية وتعميم قيم السلم والمصالحة الوطنية والعيش المشترك، وكانت تجربتها نموذجا مرجعيا للحد من التطرف، واعترافا بجهود الجزائر فقد تم الإقرار بــ: "العيش معا في سلام " كيوم عالمي اقترحته الجزائر كاعتراف دولي بجهود الجزائر في غرس بذور السلم والمصالحة الوطنية وترسيخ قيم المواطنة"، وصادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثامن من ديسمبر 2017 بالأغلبية، واختير يوم 16 ماي يوما عالميا للعيش معا بسلام، من أجل إقامة عالم في كنف الأمن والسلام والتضامن والانسجام، لضمان حماية الدولة لأراضيها وحدودها في مواجهة أي غزو خارجي، إذا قلنا أن الجزائر ما زالت موضع تهديد أمني، نظرا لما تتميز به من إمكانيات اقتصادية تجعلها من الدول المحورية في منطقة المغرب العربي بصفة خاصة، فقضية الحدود ومشكلة الصحراء الغربية والنزاعات الداخلية المتاخمة للحدود خاصة الجنوبية (مالي) كانت في صلب السياسة الخارجية الجزائرية، تشير الأرقام أنه من بين 27 نزاعا حدث في سنة 1999، أي منذ مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، اثنان فقط كانت بين الدول.

ولعل ما حدث في العشرية السوداء سببه غياب علمية المفاهيم التي جعلتها عرضة للتوظيف السياسي من أجل خدمة طرف على حساب طرف آخر، لأن النخب الحاكمة في الجزائر أغلبها عسكرية، خاصة مع انتقال النظام الجزائر من الاشتراكية إلى الرأسمالية، شعر فيه المواطن أن الدولة تخلت عنه أو أنها لم تعطه حقوقه، بل أصبح يشعر انه لا ينتمي إلى هذا الوطن، وهذا ما خلق ظاهرة اغتراب المواطن الجزائري، فكان الحل عنده تبني سياسة العنف تعبيرا عن مطالبه وحقوقه، ودفعته إلى الانخراط في جماعات في نظر النظام هي خارجة عن القانون، وفي نظرها هي صاحبة حق، ولم تعد الجزائر تفكر في محاربة الإرهاب فقط، وإنما في مرحلة ما بعد الإرهاب، وتكريس نوع من الاتصال بين الدولة والمجتمع، والبحث عن سبل لا يكرس الانفصال بين الطرفان (السلطة والفيس)، إذن، يكون البناء، التحدي ألكبر للعمل على تعميق مسار المصالحة الوطنية، ومواصلة تعميق الإصلاحات، ولكن لا يمنكن لهذه الأخيرة أي الإصلاحات أن تتحقق إلا في إطار الاستقرار الذي يوفر السلم.

إن ما حدث في العشرية الحمراء ويحدث اليوم من تغيير في القوانين والمنظومات وتدمير للمؤسسات كلف الشعب بعضا من أقدس حقوقه الديمقراطية، وربما العشرية الحمراء كانت تشبه نوعا ما أسطورة الخطر الأحمر، لأنها تناسب الذهنية المسيطرة آنذاك عندما غرقت الشعوب في بحر الهستيريا الدموية، فكان ضحيتها الشعب دفع ثمنا غاليا، وكما قال فرانكلين روزفلت الرئيس الثاني والثلاثون للولايات المتحدة : " كان على هذه الأمة أن تتحمل حكومة لم تكن تسمع شيئا ولا ترى شيئا ولا تفعل شيئا، كانت الأمة تتوجه إلى الحكومة ولكن أنظار هذه كانت تحدق إلى مكان آخر فعاشت في سراب ودمار".وقد خلق هذا الدمار هوة سحيقة ما زالت تفصل وبشكل خاص المجتمع الجزائري عن ممارسته الفعلية للعمل السياسي رغم ما تعيشه الجزائر من مستجدات وهي تنتظر بشوق كبير متى تتحقق المصالحة الوطنية التي وعد بها رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة منذ توليه كرسي الرئاسة في عهدته الأولى من سنة 1999، بدأ من الخطوة التي تجعل المواطن يردد مقولة: " ما أشبه اليوم بالأمس".

دخلت المصالحة حيز التطبيق، لكنها ما زالت غير مكتملة، ويكفي ان نقف على واقعنا اليومي، نرى كم هي عميقة عزلتنا عن الوطنية وشغفنا بالشعارات المزيغة والكلمات الرنانة المخادعة التي أجهضت كل ما هو وطني وألقت عليه ظلالا أمام جمهور مخدر سجين مشاكله اليومية، وهو في حرب كبيرة من أين يدفع فاتورة الغاز والكهرباء و..و..الخ، ووقف هذا الأخير (الجمهور) على عقارب الساعة ونسي أن عقارب الساعة تدور في حركة متواصلة، فاختزله الزمن، وبقي في تناقض عسير دون أن يكون له دور مباشر في اتخاذ قراراته، فاقدا بذلك لأي وعي اجتماعي أو سياسي .

من هذا المنطلق ألا يجدر بنا أن نتساءل في عفوية أين هو الوطني الحقيقي في الجزائر المستقلة؟ هل هو ذلك الجالس على كرسي المسؤولية في غرفة مكيفة، له سكرتيرة خاصة به، بحيث تقتصر وظيفته سوى توقيع الوثائق والملفات ولا يدري ماذا يحدث من ورائه وفي غيابه، فكان مجرد مظهرا أو لوحة حائطية تزين جدران الغرفة..، أم ذلك الذي يضرب الأرض بساعديه، إن الوطني الحقيقي في الجزائر هو ذلك الأسْوَدُ الذي أحرقته الشمس وهو ينبش من أجلنا المحاجر، يكسر الصخر ليتخذ منه أداة لإيوائنا، هو عون النظافة، القائم على ستر عوراتنا المنتشرة في القمامات، وهنا كانت الخيبة السياسية فكان الاغتراب السياسي وكان الاغتراب الإنساني بأتم معنى الكلمة .

إن العظمة لا تقاس بالسخاء فقط، بل للصرامة مكانتها، فقد كان على الجزائر بعد العشرية السوداء أن تختار بين الانتقام والعفو، طالما العفو خصلة العظماء، فلا يمكن لرجل مهما كان نفوذه وسلطته أن يمارس الدكتاتورية ضد ملايين الجماهير، وليس بالضرورة أن تكون هذه الدكتاتورية نسخة طبق الأصل لدكتاتورية ستالين أو هتلر في سياق حرب داخلية، ومثلما خلق ستالين سجون الغولاك goulag وقام بنفي الأشخاص، قان النظام الجزائري قبل المصالحة الوطنية بتشييد المعتقلات السياسية في رقان، وحشدها برجال يمثلون كوادر الدولة، (سياسيين، كتاب، أطباء، مهندسين، رجال قضاء، صحافيين، وحتى أفراد من الجيش) الذين عارضوا النظام، لكن معظمهم كانوا من الفيس المحظور، نشير هنا أن الصراع بين السلطة والفيس كان صراع بين سياسيين ضد سياسيين استعمل الطرفان السلاح كاد أن يؤدي إلى اختفاء الدولة الجزائرية، لقد خلق الإرهاب نازيون يلاحقون المواطن باسم القوانين، بعدما تأسس جيش مواز للجيش الوطني الشعبي (الجيا)، لكن بفضل التعقل والوعي تمكنت الجزائر من تضميد جراحها عن طريق المصالحة الوطنية، ورأت أن علاج العنف لا يكون بالعنف، وهي تجربة لاقت إعجاب الدول.

إسهامات الجزائر في إسكات السّلاح في 2020

تلاعبت الدول العظمى ليس بشعوب العالم الثالث وحده، وإنما بمصير الشعوب كلها، وما لحقها من دمار سياسي، اقتصادي، واجتماعي، وفكري وثقافي، وفشلت كل النظريات، لأن "حامي العالم حراميه" وهو الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة الموساد..، من المفارقات طبعا أن نقرأ عن نهاية الحرب الباردة التي تحدث عنها زعماء حلف الناتو ووارسو، الذين يمثلون 22 دولة وقعت على معاهدة نزع الأسلحة، والتكيف مع التغيرات الكبرى التي شهدها العالم على الأصعدة الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية، وما أحدثته الثورات من خلل في الميزان الدولي بالعالمي، بدءً من ثورة إيران الإسلامية، التي أسفرت عن تصاعد التنافس في مجال التسليح النووي، دفع بالولايات المتحدة منذ الرئيس ريغن إلى تغيير مواقفها وإعادة حساباتها من جديد، دون أن ننسى حرب المياه، وحرب النجوم.

الحرب الباردة لم تنته، وإنما اتخذت لها شكلا جديدا، تطورت وحلت محلها الحرب السّاخنة، هذه الحرب اتخذت لها مسارا معاكسا، حيث حركت ملفات عديدة (الملف السوري، اليمني والفلسطيني)، والذين يقودون هذه الحرب يريدون إعادة رسم خريطة العام الـ: 2020 الذي يعتبر عام إسكات السلاح والامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضي دولة ما واستقلالها السياسي، بل تؤكد أن أيّا من الأسلحة لن تستخدم مطلقا، وسيكون الحس الديمقراطي البديل لإعطاء حرية الفكر والممارسة السياسية، عن طريق الحوار الوطني، هذه الحملة التي تقودها مجموعة العقلاء في الإتحاد الأوروبي، تقول أنه بحلول 2020 سيكون العالم عالم بلا حرب..، نشيد هنا بالدور الفعال الذي تقوم به الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي من أجل استتباب الأمن والسلم، رغم النزاعات التي تبرز هنا وهناك من حين إلى آخر، لاسيما دور الجزائر بقيادة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة من أجل أن تكون القارة الافريقية سيدة في معالجة قضاياها الداخلية وأن تجد الحلول المناسبة لمختلف مشاكلها دون تدخل من أي كان من الدول الخارجة عن النطاق الإفريقي، السؤال المطروح ه: في ظل تداعيات المعارك وإرهاصات الوصايا الدولية،هل يمكن القضاء على كل التوترات، في الوقت الذي ما تزال السياسات الخارجية للدول قائمة دون تغيير؟، ليس تجاه العالم الثالث فقط وإنما تجاه العالم الإسلامي على الخصوص، فقد ظل الموقف الأمريكي قائما للقضاء على الإسلام والهوية الإسلامية من خلال جعل القدس الشريف عاصمة إسرائيل، وبالتالي فالصراعات المسلحة أو التهديد بها ستزيد من حدتها، ولن يكون هناك إسكات للسلاح، وهذا يعني أن العالم سيستقبل 2020 على صوت أسلحة جديدة، (أسلحة روسية، إيرانية).

فمهما كان الصراع شرق شرق وشمال جنوب، فالصراع في الحقيقة لم يعد مقتصرا فقط على قوى دولية متناحرة من أجل الهيمنة، خاصة وأن العلاقات بين الدول القوية تميزت بين الصعود والهبوط..، وإنما هو صراع داخلي، ولعل أفضل مثال هو الحروب الأهلية القائمة على أساس طائفي خاصة بين الشيعة والسنة في العديد من مناطق العالم الإسلامي في لبنان والعراق وإيران، وفي سوريا واليمن، بتواطؤ الأنظمة من أجل تنفيذ أجندات أجنبية، استعمل فيها السلاح، دون الحديث عن الحرب بين الإسلام والمسيحية، وطالما هناك صدام حضارات، وهناك تضامن مع إسرائيل ضد العدو المشترك أي العالم الإسلامي، أي أن المساندة الأميركية اللامشروطة لإسرائيل متأصلة بعمق في السياسة الأميركية، ولذا فنظرية "المؤامرة" مستمرة على مرّ الأجيال والصراع لن يحل بوسائل سلمية (حوار وتفاوض) وإنما بوسائل عسكرية، ومن هذا المنطلق ليس من مصلحة الأنظمة تجاهل السباب الحقيقية لكثير من النزاعات والصراعات السياسية القائمة في كثير من البلدان حتى ولو كانت غير إسلامية، وتجاهل هذه الأسباب لن يزيد الشعوب إلا ضعفا وعجزا ومزيدا من الدماء والدمار والخسائر.

خاتمـــــة

لقد كانت الحرية نعمة، فإذا بها حكر جديد على فرد تحيط به عصابة، كانت الكرامة من أعز ما يعتز به الإنسان، فصارت هدفا لكل اضطهاد ومصدرا لكل حرمان وشقاء، كانت حقوق الإنسان مكفولة بالدستور والقوانين، فإذا تصبح منعطفا متعاليا من الحاكم على المحكومين، ويؤكد التاريخ الكثير من الحقائق، ففي العالم العربي باسم الشعب تم ابتلاع الجيران، تمثلت في نزيف الأدمغة، هكذا تنهار الحضارات، حين تتحول الأقلية إلى عصابة مسيطرة تسوق الناس بسوط الإكراه (العنف)، فالمجتمعات اليوم هي في قمّة أزمتها، والأفق أمامها مسدود تماما، والمواطن في كثير من دول العالم، لاسيما العالم الثالث ما زال يعاني الامتهان وعدم الشعور بالأمن على نفسه وماله، وكالعادة نقف أمام السؤال الذي لا يموت: ما العمل؟.، لقد بات ضروري اليوم أن يعيش العالم في سلام، ولا يمكن لأي بلد أن يخرج عن هذه القاعدة، وكما يقال: "من لا يغير نفسه فإن قوانين التاريخ جاهزة لتغييره، ومن يغفل عن سنن الله، فإن سنن الله لا تغفل عنه"، وهاهو التغيير السلمي يلف بجناحيه كل العالم، وعلى العرب أن يوقفوا هذه الثورات الشعبية، ويختاروا وهم في طريقهم نحو المستقبل، إمّا الإستمرار في المذابح، وإما بالطرق الحضارية على الطريقة التشيكية، فلا يخسر أحد ويربح الجميع، ذلك متوقف على معرفة سيكولوجية المعارضة، وعدم نضج هذه الأخيرة يحمل خطرا على التغيير السريع.

فكل من يدعو إلى اللاعنف فهو يدعو إلى دار السّلام وليس إلى الانتقام، ودورات العنف مغلقة ودورات الحب مفتوحة، والعنف يُدَمِّرُ والحُبُّ يبني، والكراهية نفي للأخر وتسميم للذات، ولذا فإن علاج العنف بالعنف لا يولد إلا العنف، والعنف مرض خبيث لم تتخلص منه الثقافات سواء الغربية أو العربية الإسلامية حتى اليوم، وليس في الجزائر فقط، وإنما في ربوع العالم كله، لقد ربحت الجزائر الحرب على ألإرهاب الهمجي بفضل المصالحة الوطنية، التي جعلت من الجزائر بلد ذاكرة وإرساء روح التآخي والسلام، هي الرسالة التي يمكن أن نوجهها إلى المثقف والنخب الثقافية في المجتمع لإحداث التغيير في الوعي الديني، في الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والتربوي ليتحمل كل واحد مسؤوليته، وبوصفها جزءًا عضويا من هذا المجتمع على النخب المثقفة أن تعي بأن دورها مهم جدا في عملية إنتاج المعرفة وبلورة الوعي الاجتماعي الذي يشكل عاملا حاسما في التغيير، حتى ولو كانت في فكرها ومواقفها كلًّا متجانسا.

يقول دعاة السلام: "إذا كنت تريد أن تتحرر من الخوف عليك إذن بالسلام، وقبل أن تُقْبِلَ على السلم لابد عليك أن تؤمن بالسلام، لابد أن تتصالح القيادة مع نفسها والمواطن، ومن هذا المنطلق بات على القيادات الحاكمة وبشكل حتمي التصدي لحل المشكلات ورفع المظالم، وفي المحصلة تظل الحروب مأساة إنسانية، ومن مصلحة الأطراف الداخلية والخارجية المتصارعة في العالم كافّة نبذ العنف في علاقاتها واحترام حقوق الإنسان الأساسية، ختاما، نقول ما قاله رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة في خطاب سياسي له مطول، أن الجزائر اليوم تخوض بكل عزم في كنف السلم الداخلي المستعاد، بناء دولة الحق والقانون القائمة على صلاح الحكم ورشاده، والهادفة إلى ضبط العلاقات وتحرير المبادرات وضمان احترام حقوق الإنسان، والارتقاء بالهوية والشخصية الوطنيتين، والعيش في نهاية المطاف في ظل دولة لا تزول بتقلب الأحداث ولا بزوال الرجال، لقد مكنت عودة السلم للجزائر من التفرغ لاستئناف تعبئة جهودها وإمكانياتها لمواصلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وهي مطالبة اليوم بأن تحقق العدالة الاجتماعية والحكم الراشد.

 

علجية عيش/كاتبة صحافية

....................

* هذه رسالتي إلى رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم