صحيفة المثقف

بين الحرية ونزعات التحكم والسيطرة

محمد العباسيهل ولي الأمر "يمتلك" من في رعايته ويملك كامل الحق في تقرير مصائرهم كيفما يشاء؟ هل الأب يمتلك الأبناء ويتسلط ويتحكم في إرادتهم، فقط لأنه يدير أمورهم في مراحل معينة من حياتهم؟ هل كل أب أو أم، بغض النظر عن ممارساتهما الإيجابية أو السلبية، يستحقان من الأبناء الولاء والطاعة مدى الحياة دون قيد ولا شرط؟ هل الزوجة ملكية خاصة للزوج؟ هل المواطن في ظل حكومة ما مجرد ترس من تروس ديمومة تلك الدولة دون رأي أو قرار؟ هل يحق معاملة هؤلاء الأبناء والزوجات والمواطنين كسجناء تحت رحمة سجانين غلاظ القلوب دون حقوق ولا إرادة؟

رغم دخولنا الألفية الثالثة لا يزال بيننا آباء وأولياء أمور يفرضون على بناتهم الزواج قسراً رغماً عنهن.. وأحياناً دون السن القانوني.. وأحيانا لرجل يكبرها بعشرات السنوات.. وفي بعض الأحيان تكون عملية التزويج نوع من المبادلة، زوجة مقابل التنازل عن ديون مثلاً.. أي تصبح الفتاة في هكذا عملية مجرد بضاعة يمتلكها شخص بحكم أبوته وسلطته عليها إلى شخص آخر، ليغتصب براءتها وطفولتها تحت مسمى الزواج.. ويتم التضحية بهذه الإنسانة والحكم عليها بالسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة في كنف من يستعبدها.. ولن يستحي الأب من تكرار جملة "أنا حر في عيالي".. وكذلك لن يتوانى الزوج المفرض على الفتاة من تكرار القول "أنا حر في حلالي".

وقد نرى زوج يعامل زوجته كأنها ملك خاص اشتراها من ذويها وله السلطة في أن يعاملها كيفما يريد.. يطالبها بمطالبات زوجية فوق طاقتها تحت مسمى حقوقه الزوجية.. يفرض عليها الالتزام بأمور هو فقط يراها مناسبة دون الأخذ برأيها ومصلحتها.. يستحوذ على مالها أو معاشها ليتحكم بها ولا تخالفه في أمر.. يفرض عليها الحمل وتحمل أعباء الحمل دونما مراعاة لصحتها وقدرتها الجسدية.. يتحكم بعلاقاتها الأسرية وزياراتها لأهلها وزيارتهم لها تحت ذرائع واهية.. تصبح الزوجة مجرد أداة تخدم شهواته ورغباته وتطيع أوامره وتسير في ركبه دون أدنى مراعاة لحقوقها وكينونتها.. تعيش هذه المسكينة جسداً بلا روح في ظل "سي السيد" الطاغي غصباً عنها.. وقد يتمادى الزوج بكيل الإهانات أو حتى الضرب لزوجته بلا أدنى مراعاة لحقوقها ومشاعرها.. ولا ولن يقبل النصح تحت مقولة "أنا حر".

يقول الأستاذ "جاسم المطوع" (الأنباء) أن كثير من الآباء لا يتدخلون من أجل الدفاع عن بناتهم المتزوجات من زوج ظالم بذريعة أن "ما عندنا بنات يتطلقن" أو أن الزوج هو "جنتكِ وناركِ".. وكأنما الزوج يمتلك الحرية التامة في معاملته السلبية للزوجة، بينما الزوجة لا تمتلك ذرة من الحرية أو الحقوق في شئونها ومصيرها.

وقد كتبت زوجة مظلومة في مدونة (مكسات) رسالة لزوجها الظالم: "احترتُ كيف أبدأ رسالتي ..من أين.. وكل شيء يرسم ملامح نهايتي ..أريد منك أن تفهم قبل أي شيء أنني لست كلمة تكتبها متى تشاء وتمحوها متى تشاء ..لستُ العصفورة التي برصاصة منك تُسمِعكَ ألحانها والغناء ..لستُ المدفأة التي تطفئها في صيفك وتشعلها في شتائِك ..لستُ المكان الذي تأوي إليه فقط في شتاتِك ..لا أعتقد أن الفراق قد غيرَ بكَ شيء يُذكر ..لا أعتقد أنك تنوي أن تبني ما تدمر ..سنين أمضيتها معك في ناري وأنيني ..أفنيت معكَ عمري.. أفنيت معكَ سنيني ..طالَ صبري عليك ..و أنت تهينني وتضربني بيديك ...طال صبري عليك ..وأنت تُريني من العذاب كل ما لديك ..وفي كل مرة أصمت وأبكي ..لا أتكلم ولا أشتكي ..سنينٌ وأنا أحاول أن أغير شيئاً فيك ..سنينٌ وأنا من نبع الغرام أسقيك ..سنينٌ وأنا أصرخ من عذابي في وصالك ..فوجدت نفسي خاسرة وقلبي هالك ..اسمعني يا زوجي المصون ..يا سفينة عذابي في بحر الظنون .. يا قدري المرير والقدر لا يوقفه القانون ..إن كان ابتعادي لم يؤثر فيك .. وإن لم تشعر بملائكة الرحمة تناديك ..فليس بوسعي إلا أن أقوم بفعل ما أفكر فيه .. لن أنتظر بعد أكثر.. فجرحي محتاج لأحدٍ يداويه".

إن مفهوم الحرية له دلالات عديدة.. وبالذات في مجتمعاتنا التقليدية، نمارسها على هوانا.. نحقها لأنفسنا ونمنعها عمن سوانا.. وفي شئون زواج الأبناء مثلاً قد نلزم البعض بالطاعة العمياء والولاء فقط لأننا نعتقد بكل أنانية أننا أدرى بمصالحهم منهم.. كما هو الحال مع الأبناء واختيار الزوجات.. بل قد يأمر أب أو أم أحد أبنائه بتطليق زوجته التي يحبها فقط لعدم قبولهما هما بها.. لأسبابهما الخاصة بهما، دونما اكتراث لرغبة الابن ولحرية اختياره لشريكة حياته.. هذا مجرد مثال قد يحصل في أي أسرة حولنا.. فهل يحق لأولياء الأمور بمثل هذا التدخل الصارخ ومطالبة الأبناء بطاعتهم وتنفيذ رغباتهم بذريعة "بر الوالدين"؟ بينما بر الوالدين لا علاقة له إطلاقاً بالزواج، بالذات إن كانت هذه الزوجة مؤمنة تطيع زوجها.. لكن لمجرد أن يكون الأب مثلاً لا يحبها فيأمره بتطليقها.. هذا الأمر لا يتوجب تنفيذه إطلاقاً.. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. ما ذنبها، وما ذنب الزوج أيضاً؟ هذا مجرد مثال بسيط قد ينطبق على أمور أخرى كثيرة تتعدى على حقوق وحرية من نعتبرهم ضمن دائرة سلطاتنا.. نفرض عليهم كل شيء حسب أهوائنا نحن ورغباتنا.

لو توسعنا قليلاً إلى أمر أكثر اتساعاً وشمولية.. ونظرنا إلى أحوالنا كرعية ومواطنين محكومين ضمن منظومة الولاة وسلطة الحكومات والملوك.. فهل السلطان أو الأمير أو الحاكم أو الملك أو شيخ القبيلة يملك حق التملك؟ هل للمسئول الحق في أن يتحكم في مصائر من تحت سلطته وضمن دولته أو عشيرته؟.. هل مفهوم "الملك" يعني أنه "يمتلك" الأرض بما فيها من خيرات .. ويمتلك كل ما عليها وكل من يعيش فيها؟ هل للسلطان حقوق وحريات في التصرف كيفما يشاء، بينما الشعب محروم من حقوقه ومن حرية اختياراته وأسلوب حياته؟ وإلى أي مدى يحق للحاكم أن يتحكم في الحريات المتفق عليها دولياً في مسائل تتعلق بالتعبير والرأي؟

موقع (مواطن) الإلكتروني يشرح ذلك: "أمام هذا التدفق اللامتناهي لاستخدام أو توظيف كلمة "الحرية" سيبدو أي حديث عنها مملا وغير مجد ربما، خاصة وأننا في الشرق الأوسط نشاهد أكثر المعاني سوءاً لكلمة الحرية، وأكثر الطرق بشاعة في توظيفها! فقد نجحت الأنظمة القمعية وبكل اقتدار وتفنن في تصوير "حرية" التعبير والرأي في مجال السياسة، على أنها الدمار والخراب وانعدام الأمن.. كما نجحت التيارات والمذاهب الدينية المختلفة إلى تقديم الحرية على أنها عدم الالتزام بالضوابط الشرعية ومناداة إلى العري والتردي الأخلاقي.. وكذلك نجح "المحافظون" في مختلف المجتمعات العربية إلى تقديم الحرية على أنها "فيروس" سيتسبب انتشاره إلى غياب كافة هوية المجتمع وأصالته وعراقته.. من هكذا نوع من الأمثلة بصورة عامة مع الإشارة إلى مظاهر "قمع" السلطة أو الدين أو المجتمع لأي صوت مختلف معارض.. حتى تطوّر هذا الوضع ليصل إلى النخب المثقفة والمتعلمة في كل مجال.. والتي بدورها قد تمارس القمع مستندة على "الأمن" و"الدين" و"الأعراف والتقاليد".. إمّا كل حجة على حدة، وإما جميعهن سواء".

فهل يحق للمواطن أن يمارس حريته وينتقد سلطة وسيطرة ولاة الأمر على خيرات وطنه؟ فمن المعروف أن بعض الدول قد تكون طاغية ويحكمها طغاة مستبدون.. ويتحكم الولاة بشعوبهم وكأنهم سُخرة لديهم وعبيد.. لا حق لهم إلا فيما يجود به الوالي عليهم من عطاءات، وبالتالي عليهم القبول والرضوخ و"تقبيل الأيادي" الكريمة دون اعتراض.. وقد يتم منع كثير من أشكال الحريات المدنية المتفق عليها عالمياً بذريعة درء أسباب الشقاق والانشقاق عن سلطة الدولة.. وربما تهرباً من المسائلة والمحاسبة.. وقد ينتج عن مثل هذا التحكم المطلق في كبح الحريات إلى خلق بؤر للطامعين في الصيد في الماء العكر، والقيام ببث الفتن والنعرات و"تسيس" المطالبات المستحقة إلى مآرب أخرى لا يُحمد عقباها.

يقول الأستاذ "حسين التتان" (الوطن): "هناك الكثير ممن "يخلطون" بين أمرين متعاكسين للغاية، بين حرية التعبير، وبين التعدي على الآخرين، تحت شعار "حرية التعبير".. فالأولى هي الفضاء المفتوح لإبداء الرأي، دون الحاجة إلى مهاجمة الطرف الآخر بشراسة أو دون امتهان لكرامته وهويته وإنسانيته، أما التعدي على حريات الآخرين والطعن في كرامتهم وشرفهم والسخرية من معتقداتهم أو أي أمر آخر له علاقة بخصوصيات الأفراد والجماعات فهذا الأمر لا علاقة له بالحرية مطلقاً، وإنما هو نوع من أنواع الجريمة التي يعاقب عليها القانون وترفضها الأخلاق".

مثل هذه المغالطات إنما تنشأ في ظل الحرمان من المشاركة في موارد الدولة، ومن الحرمان من المشاركة في تسيير دفة الحكم لما فيه مصلحة الجميع.. أما إذا تحكمت بعض الأنظمة في كل شيء ومنعت من شمول موارد الوطن كافة المواطنين، فهنا تتكون بذور عدم الرضى والنشوز والاختلاف مع أصحاب السلطة.. ومن ثم تنمو الاختلافات إلى خلافات تأكل في مسارها "الأخضر واليابس". فكما قد نستهجن سيطرة الأب على الأبناء والتحكم بمصائرهم، ونرفض الزوج المتسلط الظالم، نرفض تحكم الدول وأصحاب الشأن والمتنفذين الأقلية في مصائر الأغلبية من أفراد الشعب.. ولا يستقيم الوضع إلا بتنفيذ بنود الدساتير المتفق عليها بالعدل ونبذ كل تلك الممارسات التي تخدم فئات بعينها وتحرم الآخرين.

و تبقى الحرية مثار نقاش وتأويل.. فحرية التعبير أو حرية الرأي هي الحق السياسي لإيصال أفكار الشخص عبر الحديث.. وقد يُستخدم مصطلح حرية التعبير أحياناً بالترادف، ولكن يتضمن أي فعل من السعي وتلقي ونقل المعلومات أو الأفكار بغض النظر عن الوسط المستخدم.. عملياً، حق حرية التعبير ليس مطلقاً في أي بلد.. ولا ضير من بعض القيود لمنع الانفلات الشاذ والضار بحقوق الآخرين.. لكن لا بد من السماح لحيز من الحرية للسيطرة على تمادي بعض الأنظمة المغالية في سلطاتها.. وهنا يأتي دور المجالس النيابية لطرح مشاكل وحاجات الشعب والدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم.. فالأصل المتعارف عليه أن الحكومات تخدم شعوبها وتراعي مصالح المواطنين.. فالعلاقة بين الوطن والمواطن كما العلاقة بين كل راعي ورعيته، علاقة تكاملية، ترسخ مفهوم الانتماء الحقيقي، وتترتب عليها آثارها العظيمة، وتعّبر عن صدق الفهم وحُسن المعاملة والحرص على المصلحة العامة.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم