صحيفة المثقف

نهر جاسم.. النهاية

349 رواية نهر جاسمأخيرا

بساعات قبل رجوع حسن رأت نهر جاسم القتل في كلّ مكان، هكذا فجأة، بين الممكن والمحال انكشف الغموض، ووقعت العيون والآذان على الصّور، والأصوات في التلفاز والمذياع. عرفوا أنّ مؤامرة كبيرة أخفقت، وأنّ هناك دولة مجاورة تعاون معها المرتدّون لإسقاط الرئيس. المؤامرة، هذه المرّة، قادها كما يزعم التّصريح الرّسميّ، أعضاء كبار في الحزب الحاكم. مادام الخونة بعثيين، فقد فهم القاصي والداني من هي الدّولة المجاورة. ولاح في الأذهان أنّ مشروع الوحدة سوف يؤول إلى زوال. واتضح للداهية الآن سرّ سفر العمّ النّمر المفاجيء إلى لندن، واللغز الذي اكتنف تصفية أملاكه. كان الرجل، كما شاع، يرتبط بعلاقات وثيقة مع المسؤولين الكبار في البصرة وبغداد من المحسوبين على الرّئيس السّابق، لكنّ الثعلب يشم الخطر عن بعد. قبل أوانه. وربّما غلب على ظنّ بعضهم أنّ عددا من المسؤولين الذين عجزوا عن الهرب وحُوكموا فيما بعد كلفوا الثعلب أن يحمل معه بعض أموالهم لقاء عمولة تقاضاها. امّا أكثر النّاس إظهارا للشماتة، فكانت الداهية التي علقت على نجاة النّمر بأنّه كلب انكليز. صناعة بريطانيّة. الحادث المشهود ترك طابعه على قرية نهرجاسم، فليس من باب المصادفة أن يخيّم التشاؤم من جديد، لموقع نهرجاسم القريب من الحدود، وحين عاد حسن، عرف القاصي والداني أنّ الدولة اختارت بعثيين من كلّ المحافظات ليعاقبوا الخونة. العراق كله مارس القتل، ونهر جاسم وجدت نفسها تطلق النار بيد ابنها حسن. هذه اللعبة البريئة التي داعبت خيال الصغير ذات يوم، فتلقفها كما يتلقف الكرة، وإذا بالاختيار يقع عليه ليقتل!!النّبؤة كبرت، والداهية معتكفة حتّى خفّ وجعها، وخفت الورم عن شفتيهاوفكها. لم تكن الحرب جديدة عليها. رأتها في أثناء طفولتها. عاشرت الموت. مهما بعدت عن المأساة، يبدو أنّها أصبحت أكثر قربا منها، غير أنّ صوت وحيدها لمّا يزل يلحّ في أُذنها:

ـ ياداهية لنرحل مؤقتا.

مقتنعة أم لتؤكّد:

ـ أكثر من الحشود التي وقعت بين عبد الكريم وشاه إيران أيام زمان ولم تقع الحرب.

ملكة الليل تؤكد أيضا:

ـ يُقال إنّ الشّاه ترك سلاحا يستطيع أن يمحق به كلّ الدول العربيّة مجتمعة فمن يجرؤ أن يتحرّش بإيران.

كلّ ذلك يمكن أن يكون كلاما لكنّها راحة البال التي امتحنها الله بها في أحلك الأيّام، والطفلة القادمة من حرب لاتعي ملامحها القاسية إلا عبر أبيها وأخيها. تدرك أنّ في الأفق حربا مدمّرة، ولاتريد أن تصدّق نفسها. إنّها ليست متأكدة من الزّمن فقط. ربّما تقع الحرب بعد دقائق أو قرون، بل تخجل أن تزور قبر أبيها الوليّ بوجهها المشوّه، ولكي تتأكّد من مخاوفها، انتظرت إلى الخميس حتى زال الورم تماما، ولم تعد تخشى من شماتة الكارهين. ذهبت إلى الضّريح. أشعلت الشّموع، وجلست تتملى خواطرها. الخجل ممّا بدر منها في الحلم، وقد حدثت نفسها ألا تتكلم بعد الآن. الرّؤيا وحدها تكفي، وأمامها عجب الأشياء: النهران الأعمى والكودي يعانق كلّ منهما الآخر. نهر شطّ العرب التحم بالمالح قادما من جهة الشّمال. المشاهد تكدّست وجثمت ساكنة أمامها. حشرات من حديد. بعوض غريب. ذباب. جعلان. صراصر. نمل. عقارب من حديد. حمرة تلوح من بعيد على وجه الأفق، وفوق المياه. وسط ذلك العالم المليء بالحشرات المعدنيّة الكبيرة، راحت تسأل عن أبيها أين هو كأنّه لم يمت أو ظنته حيّا إلى هذه الساعة الموحشة بالأفق، والمتوحّشة عن البشر، وحين التفتت من دونما كلام، كان لها ماأرادت. وجدت المعتوه أمامها. التفتت باتّجاه آخر، فوقع على عينيها وهو يسبق التفاتتها، فيشخص في كلّ مكان، ثمّ فاجأها بنطقه الواضح القويّ العذب:

ـ هل دعوتني ياداهية؟

ـ بل دعوت أبي.

ـ أنا أبوكّ!

ـ إنّي أعرف أبي.

ـ أجئت تسألينني عن الحرب؟

لافرق بين المعتوه والوليّ، وبينها أو حسن، والمختار، وابن النّبهان، الموتى والأحياء يسألون عن شيء ما. مجهول. معروف. أصبحوا أشبه بالمجانين. الحرب. من عهد آدم وهو الشّجار باق إلى اليوم، والوليّ الذي ترك الحرب يوم كانت الدنيا غضّة طريّة لايجيب، وهو يعرف أن لاأحد يسأل عن الأمان ومتى يحلّ على الأرض ؟ اليوم رأت مالاتراه عين حتّى كادت تنفجر من الغيظ:

ـ هل تحدث حرب؟متى؟ أريد أن أعرف. أخبرني؟

نظر إليها نظرات غريبة مبهمة غموض الساعة التي هي فيها، وغادر المكان. القبر. كان حقّا المعتوه. وقد ازداد اللغز غموضا. هل كلمته نائمة أم في حالة صحو، ومع التفاتها، وعيناها تتعقّبانه، وهو يهرول إلى مكان ما تناهت إلى سمعها أصوات خشنة حادّة، ورأت عبر الفضاء المترامي من طرف البرّ حركة لناقلات ودبّابات، وسمعت أزيزا في الجوّ، فاستعاذت باللّه من الشّرّ القادم، وأطفأت الشّمعة، ثمّ غادرت المكان، ومن حولها، عن بعد، عند طريق البرّ، على الحدود، تزداد كثافة الأصوات، وحركة النّاقلات المتوجّهة نحو الجنوب والشّرق.

ـ 8 ـ

…لم يكن أمامه بدّ …عرف أنّه استنفد كلّ وسائله، ولم تجد ملكة الليل لمزاحها من منفذ أمامه سوى أن تقول له قبل أن يخرج:

ـ رفيق. . رفيق. . متى تعود!

أمّا الداهية، فقالت:

ـ إذا طرحوا عليك مسألة الجيش الشّعبي والتّدريب على السلاح، فأنت مريض ومعفى من الخدمة الإلزاميّة. لاتنس ذلك مفهوم؟

وهو آخر يوم وأوّل يوم. هكذا نحن نتخبّط في الأيّام فما أتعس الذين يلهثون وراء مابين الأمس واليوم، وقد كان القلب يسيل أمام الرّغبة والرّهبة، فإذا هو يخرّ أمام الخوف وحده، والدّاهية تخاف عليك من التدريب والجيش الشعبي، وربّما يقولون لك حسن لاتتدرب لكن تعال معنا لتقشر البصل والثّوم، حسن سبقه بسنوات، ومارس القتل قبل أيّام،

فأيّة دنيا سوف يدخلها بعد عالم الحاجّة الخرافي اللذيذ، ودنيا الداهية الصّارمة الزّاهية، ثمّ الحياة الحلم مع امبراطورة القلب ناهدة! كلّهنّ نساء، وها أنت ياعبد تسير كالسلحفاة إلى عالم جديد. تكون بعثيا. أخيرا اقتنعت؟ أو الأيّام هي التي أقنعتك. المهم أن تقتنع أنت، وتغضّ النظر عن تلك الكشرة التي تسفر عن أسنان صفراء، وتردد مثلما يردد المسؤول الأعلى. ألم يعترف حسن أنّ الحزب علمه التدخين وشرب الشاي تلك السيرة التي أثبتت أصالة الحزبيّ أيّام النضال السلبي، ومثلما رأى الموت ذات يوم يحوم في أمّ البروم وبينهما عدّة أمتار. سياج واطيء فقد ذو قضبان، لتدور الأيّام فتبرز نهر جاسم إلى القتل من جديد. تمارسه عبر حدودها. كان أهلها حين يجد خلاف بينهم يقتل بعضهم بعضا، وآخر موجات العنف وفق رواية أمّه الدّاهية، والمرحومة، وملكة الليل كانت يوم طرد آل الحاج عبّاس عائلة النمر، أبعد كلّ تلك العقود والسّنوات تشتاق القرية إلى القتل، فلاتقدر أن تأكل بعضها إذ لم يعد في جسدها مايؤكل، لكنّها تمتدّ إلى أبعد من نفسها ، فتقتل الآخرين:

ـ لديّ بعض الآراء الصّريحة أرجو ألاّ تنزعج منها.

ـ أنظر كيف اكتسبت شجاعة حالما انتسبت إلى الحزب.

ساعة ألقى الاستمارة على المنضدة، راوده نفور من زمن الطّفولة، وعاوده الحماس ذاته الذي أبداه أمام الداهية، والشجاعة نفسها التي اعترف بها:

ـ هل مارست القتل حقّا؟

ابتسامة، ويمسح شفتيه بكمّه:

ـ هؤلاء خونة، ومن حقّك أن تستفسر، لكنّي أقول لك إنّ الطّعنة إذا جاءت من الأقرب تكون أشدّ، فالعقاب يلزم أن يكون أكثر حدّة.

الطفولة انتهت بالجنون والقتل العلنيّ، فهل ينفع التمرّد الآن، واللحظة تؤذن بخراب البلد كله بدءا من شيء معروف مجهول:

ـ هل أنت نادم.

ـ أبدا…أبدا.

ـ إسأل أيّ شيوعيّ سابق بعثيّ الآن عن وضعه الماضي والحاضر أيّهما أفضل…

ـ من حقّي بعض الاعتراضات. .

ـ هذا أفضل، ربّما تلتقي بمسؤولين في جلسات ومناسبات قد لايفهمونك مثلي فلاتتردّد معي في السؤال عن أيّ إشكال.

ـ أُفرض أنيّ اقتنعت، ماذنب الآخرين؟ومافائدة كسب الفلاح الأمّيّ والفلاحة الأُمّيّة اللذين يظنان حصانا مشوّها عفريتا أو جنيّا ممسوخا. لو كنت هنا ورأيت كيف كبرت قريتنا بقدرة قادر، وتحوّلت…

ـ الرّهان على هؤلاء لأنّهم يمثلون الأغلبيّة.

ـ الشّيوعيّون في فترة من الفترات اهتمّوا بالكمّ لاالنّوع فسقطوا.

ـ ليس هذا هو السبب بل لأنّهم استفزّوا عواطف النّاس ومعتقداتهم.

ـ إذن هذا هو المحور. كيف يقتنع الإنسان البسيط بالانضمام إلى حزب أسسه مسيحيّ سوريّ.

ـ حسب هذه القاعدة يجب ألاّ نقبل إسلام الصّحابة. كانوا يعبدون الأصنام. كيف نقبل إسلام محمّد علي كلاي، ونرفض إسلام عفلق، ثمّ إنّ الرّجل قال ياعرب كونوا أمّة واحدة. ماعلاقة الفكرة بالدين، أو كونها تتعارض مع الإسلام، بالعكس. !

ـ أنا معك، لكنّ الموضوع حسّاس وربّما تستفيد منه إيران في أيّ نزاع ينشب بيننا وبينها.

ـ لهذا السبب نقول من ليس منّا فهو علينا.

ـ أنا منكم يارفيق!!

ـ من حسن حظك أن أكون أنا مسؤولك، فتستطيع أن تسألني عن كلّ شيء، وتلزم لسانك مع الرّفاق في أيّ اجتماع، وسوف أصحبك إلى اجتماعاتي في القرى، والمراكز فتحضر معي الندوات واللقاءات لتزداد خبرتك.

ليقل مايشاء، وليقل هو مايشاء. المهم إنّه بعد سنوات نفث مافي صدره أمام الداهية أُمّه، واكتسح حسن رفيق طفولته، فلامناص من أن ينساق مع أحد الأطراف الثلاثة. الجنون حيث عالم ناصر المسعود يرى كلّ شيء، ولايبصر أيّ شيء، لاأحد يسأل عنه ولايسأل هو عن أحد، وهناك عالم المرحومة والداهية، ولامفرّ إلا أن يختار العالم الجديد على مضض، فيعيش لحظات الفرح والخوف، على الرّغم من كرهه لذلك العالم، ونفوره من حسن الوحيد الذي يأمن إليه لحدّ الآن!!

في الأيّام القادمة راحت الداهية تسابق الزّمن، كأنّها في مشوار لايريد أن ينتهي. بدأت تخرج كلّ يوم إلى الضريح. كانت كلّما ازدادت ضجّة البرّ وحركة الناقلات، توغّلت في شرودها وثمّت تحوم عيناها في الفراغ علها تعثر على بصيص من بعيد، غير أنّ المشهد أبى إلاّ أن يطالعها بشكله الأخير غير مبال بخاطرتها اللاهثة وراءه. كان يتوحّد في كلّ الاتجاهات:الأنهر يسير أحدها نحو الآخر. البرّ يلتقي بالنهر، فلاالأرض أرض ولا البحار بحار. الحمرة تغطّي الضباب ومياه الأنهار، أمّا الذباب، والبعوض فيصبح من معدن وحديد…

اليوم أم غدا…كانت تقول لأبيها الصّامت أمامها:إنّ الطريق لم يعبّد بعد، ومانسمعه أو نراه من تهديد أو حشود أمر حدث كثيرا، لكنّه زاد عن حدّه في هذه الأيّام، فما تقول أنت؟

هذا مايمكن أن يكون وفق ماوقعت عليه عيناها وسمعته أُذناها…

السكون غائب

صخب قبل الهدوء، وقلبها يعرف من زمن أنّ المصائب تجري حيث يسبق السكون!

ضجّة وشتائم…

حديد يقطع البرّ

فجأة …. .

ومن حيث لايعلم أحد،

ولاالداهية صاحبة النّبوءة،

فجأة… من كلّ مكان يطلّ وجه الحرب…الحرب!

فعلا ياداهية إنّها الحرب، وقد راهنت على كلّ شيء : النّبوءة، السكون، الخوف، الإذاعات…

ويبدو أنّ الأحداث مرّت كلمح البصر أكبر من قدرة نهر جاسم عى الاستيعاب، وأوسع، فاستعصت، وهي تحلّ في غير وقتها، على فهم الداهية الواثقة بنبوءة آخر زمان. في البداية اندفع الجيش داخل الأراضي الإيرانيّة، عندها كانت نهر جاسم تغفو بأمان أوّل الحرب، وتلمس بهاجسها حدث الحرب لحظة بلحظة : عربات الجيش مرّت من الطّريق الترابيّ. مدرّعات بالمئات تندفع من طريق البرّ. طائرات تغطي السّماء. ولا أحد يشكّ في أنّها هي الحرب أمام السّمع والبصر. وتكاد القلوب تنفيها. أيُعقل أن يجري ذلك بساعات وأيام، وفي الليالي الأولى استمرّ الصّخب عند طريق البرّ ثمّ خفتت حدته. خلال تلك الأيّام لم يفكر أهل نهر جاسم بالنّزوح. قالت الداهية هذه ليست الحرب المقصودة بالنبوءة، فالدرب لم يعبّد بعد، ولاحرب حقيقيّة من دونه، ولعلّ إيران المتعبة من الثورة، والمشغولة بأمريكا تقبل بوقف القتال، وعلى الرّغم من كلّ مظاهر الحرب إلا أنّ نهر جاسم مازالت في أمان، وخامر الظنون أن تنتهي المعارك بعد بضعة أيّام، وهتف عبد حين سمع أنّ الجيش أصبح على مشارف الأهواز:المكبس سلم من الخطر، وبركة الضّريح تظلل على القرية. كان حسن كثيرا مايصحب عبد في جولاته، وجهوده الإعلاميّة. بعض الأحيان يخالط لهجته الخطابيّة تهديد واضح. العراق لم يخف من موسكو حين رفع العصا بوجه الشيوعيين، ولامن عبد الناصر ونحن نؤدّب القوميين المنحرفين، أو من إسرائيل حيث أعدمنا الجواسيس، فمن تكون إيران، ومن هؤلاء أصحاب اللحى والوجوه المصفرّة:

ـ إيران لم تتحرّك بعد…

ـ أين هو جيش الشاه؟

وفق تلك الصّورة جرت الأحداث. عبادان سقطت. الأهواز محاصرة. الأهالي يذهبون إلى العشار للتبضّع شانهم أيام السلم، ثمّ يتابعون البلاغات، ولايزعجهم سوى ظلمة الليل، وصفارات الإنذار، ويبدو أنّ القرية، والحرب تطول، بدأت تفقد شبابها، وتقرّ أخيرا بهاجس مشوش، وكثيرا ماكانت النفوس، تلوك وسط نشارة الدم، سؤالا تنمّ عنه العيون وتخشى الألسن من أن تبوح به : لمَ اندلعت الحرب؟ وعلام اندفع الجيش داخل الحدود؟ ماذا لو كان عند إيران جيش؟ وتميل التخرّصات إلى السلاح النووي، والكيمياوي، والأسلحة السرّيّة، مع ذلك لابدّ من الفرح، وبين السعادة المصطنعة، وبداية تململ الخوف، استهلك الأهالي قواهم، وزادهم تعبا أنّ النبوءة، ألقت، في مثل هذه الظروف، بكاهلها على صمتهم الذي لابدّ منه. بدأت النبوءة تطلّ بمعالمها عليهم، وتنفض رويدا رويدا غبار الزمن عنها. كانت تملي الواقع من جديد كما أرادت من قبل: بين عشيّة وضحاها غزت الأنظار عشرات السيّارات والشاحنات المحمّلة بالحصىوالرمل، وفاحت رائحة الزفت والقار، ومثل أيّ كابوس كريه جثمت على الأنفاس آلات المزج والخلط والنخل والرصف، فأُدرِك أنّ النبوءة ربّما تتأخّر لكن لاتكذب نفسها. لقد أصبحت رائحة الزمن ماثلة للعيان، ومعها خرجت الدنيا عن وهمها، فسقطت على الطريق الذي بدأ يتلوّى بالزفت والقير!!!

معقول!!

ياألله أحقا حدث ذلك؟!

الشؤم فرض نفسه قبل الأوان، كمن به مرض مخفيّ، يشك فيه ، تلك الحكاية التي نامت طويلا ثمّ استفاقت منتصف الحرب، فكانت الداهية تبصر القتال والقتل ولاتدركه، وكان أهل نهر جاسم يعيشون الحرب، ولايرونها فكم من ولاة فكّروا وأعرضوا ، كم من رؤساء وملوك مرّوا، عندئذ شهقت الداهية، وأخرست عبد الدهشة، أما حسن فكان يتباهى أمام الأهالي، وهو يؤكد فكرته القديمة في أنّ الطريق كان قبل الحرب يخدم الجانب الإرانيّ، أما الأن وقد احتل الجيش عبادان، وأصبح على مشارف الأهواز، فلم يعد من مسوّغ لتركه كما كان، وليعلم الناس أنّ الحكومة تركت طريقهم من دون تعبيد لهدف يصعب فهمه من قبل العوام وإلا فما قيمة طريق يستره الزفت والقير أمام منجزات عظيمة كالتأميم وبيان آذار. والحقّ فإنّ نهر جاسم بعد التعبيد بدأت تفتح عيونها بالخوف والقلق على عوالم أُخرى. مرّت بها قرى جديدة، واحتكت بالجنود العائدين من الجبهة المارين بها. كانوا محمّلين بالغنائم. ساعات. . راديوات. . تلفزيونات. . مسجّلات. . قلائد. . وكان بعض الضبّاط يستقلون سيّارات تركها أهلها وفرّوا أو استولوا عليها من معارض في عبادان، وتناقلت العيون بالصمت حكايات كثيرة لكنّ أحدا لم يجرؤ على البوح، كأنّ العيون والذاكرة والهواجس انتقلت من إنسان إلى آخر من غير الحاجة إلى آذان وألسن وكان أقصى ماتستطيع أن تفعله الداهية أما مايعرضه الجنود من غنائم للبيع، هو أن تستعيذ بالله مما تراه : المال الحرام!

ـ متى تحين السّاعة؟

ـ هل ينتهي العالم عمّا قريب!

ـ الدنيا لم تشخ بعد.

ـ الدجال.

ـ الدجال أعور!

ولاتلمّ نفسها إلا حين تعود من الضريح، وتأوي إلى البيت، فينطلق لسانها مع ملكة الليل وعبد عمّا رأت وسمعت ذلك النّهار وهي مأخوذة بمنظر الجنود العائدين من الجبهة، والحقّ إنّ الحرب جعلت مقام أبيها الوليّ يزداد رفعة ليس فقط لأنّ العرب الرحل ضربوا بخيامهم حول الضريح عند اندلاع الحرب فازدهى المكان بالحياة وامتلأت الباحة الفراغ إلى بداية"عريزة" بل شملت بركته بعض الجنود الذاهبين من الجبهة بأجازات إذ شوهدوا يتوفٌفون أمام الباب فيقرؤون الفاتحة أو يلقون إليه ببعض النقود.

في غضون ذلك تحتم على نهر جاسم أن تحتضن الموت. أشبه بإعدام حصان معتوه بدلا من أن يذهب أهلها إلى مكان آخر ليعزوا ذوي الموتى، وبعد انتشار الأحاديث عن الأعور الدّجال ، ومرور أشهر على الحرب، رابطت في المفرق إلى اليمين عن الضريح حيث طريق البر المكتظ بالحركة فرقة يتحدّث أفرادها لُكنة غريبة ، ويبدو أنّ الناس تحاشوا الاحتكاك بجنود الحاجز مبتعدين بالمرة عن طريق البر، باستثناء المعتوه الذي يكلم الجميع مدنيين وعسكريين، كان في أغلب الأوقات يقف عند الحاجز، فيجد المسلحون فرصتهم لممازحته، مع أنّه لايقف هناك ـ شأنه في أيّ مكان ـ أكثر من بضع دقائق، حتى طرق حسن ذات يوم البيوت بيتا بيتا يعلن أنّ على أهل نهر جاسم الحضور بأمر الحكومة والحزب إلى الحاجز، فخشيت الداهية على ابنها عبد ولم يطاوعها قلبها أن تتركه يذهب وحده، فصحبته إلى هناك، مما دفعه ألى مجاراتها في أثناء المشي، والخروج قبل الموعد المقرر بساعة على الأقل.

وقبل أن ينجلي المشهد، كانت الظنون تميل بالناس نحو تأويلات شتى. أيّ خبر هذا الذي تجمّع له الناس فرضا، فما كان لابن العمران أو غيره من الحزبيين أن ينادوا بجمع الناس كلهم قسرا. إنّها نهاية الحرب أم أيّ خبر. تبرع للمعركة. تطوّع. تحذير من إيواء هاربين، أمّا قرب الموقع فقد تجلى بعض الغموض: ثلة من الجنود ذوي اللكنة الغريبة يرتدون ملابس خضراء مرقطة، وعلى مدى خطوات شاحنة عسكريّة، وسيارة جيب صغيرة استند إلى مقدمتها ضابط طويل، أحمر أشقر. كان المسلحون والضباط يشيرون إلى ثلاثة جنود معصوبي العيون، جثموا مكتوفي الأيدي إلى ظهورهم، وبتوارد الدقائق ازدحم المكان بالأهالي، والعرب الرحّل، ولكون الفضاء مفتوحا، فقد تمكنت الداهية وبعض النسوة من متابعة المنظر وهنّ جالسات. ظلّ عبدواقفا جنب أمّه، وعيناه تتأرجحان بين حسن الواقف ضمن مجموعة الحاجز، وجنود الإعدام، أو الجنود معصوبي العيون ثمّ تستقران على وجه أمّه المتعب. علامة الموت تحوم مرّة أُخرى. الحصان…المشنوقون الثلاثة في ساحة أمّ البروم. المحافظات كلها تشترك في الإعدام. المشنوقون يدلعون ألسنتهم بوجوه المتفرجين. سيارة من زمن بعيد، أيّ عهد كان تأتي عن طريق البرّ ترابط في الفسحة يقال عنها سينما متجولة. ملكة الليل والعبيد ذهبوا حالما غابت الشمس، وتناثرت الأنوار من السيارة : ضحك إنّه الضحك الذي نسمع به من ابن الرواس. قالت له لو كنت في بلد آخر لأصبحت ممثلا مثل الذي رأيناه يدلع لسانه، وقال لها ياملكة الليل، أمّا أنت فسوف تقفزين من مقعدك لأنّك ستظنين السيارة في الشاشة تسير نحوك!كلّ ذلك يجري و الممثل يتغيّر. يقفز من طائرة، يدخل مسمارا في أذن فيخرجه من أخرى. الجمهور يضحك، ونهر جاسم تكبر فلا تعرف نفسها على حقيقتها إلا في البكاء والضحك. يرتفع الضحك، ولابدّ من الاحتفال : أم البروم أم ذات مساء حين تأتي سينما متجوّلة، وخلال لحظلت يستعدّ جنود الحاجز. الجبناء حاولوا الفرار. الضابط يشير بيده، ثمّ يزعق فيردد البرّ صيحته:

ـ استعد !

جثا ثلاثة جنود، أمام المكبلين، فلم يتأخر الضابط بصيحة ثانية:

ـ ارم!

انطلقت الرشاشات. الموت. لاأكثر من رعشات خفيفة. زغردت بعضهنّ. وملكة الليل كادت تغمض عينيها وتفرّ بهما إلى السينما المتجوّلة التي طالعتها ذات مساء. أمّا الداهية فلاذت بعينيها عن المشهد إلى أيّ مكان. . أهو الكبر أم التعب جعلها تقرف، وهي التي فتحت عينيها على الموت. كنّا نعايش القتل بأيد طليقة وعيون مفتوحة. نقتل ونُقتل، فلانقرف من منظر الدم كمشهد اليوم، وكم رأت لعاب أبيها يسيل للدم ورائحة الموت قبل أن يعرض عنه تماما، ولم يكن قطّ ليكبّل أيدي أعدائه ويعصب عيونهم، وكأنها منذ ذلك العهد البعيد شدّت بيدها طرف سروال عبد، فذابت تنهيدتها وسط الأصوات الطّائشة:

ـ خونة يستحقّون.

ـ النبي قال الدفاع عن الأرض والعرض والمال.

ـ من يدافع عنّا إذا انهزم الجند.

ـ والله لو كانت لنا حدود مع إسرئيل…

ـ في العراق رجال…

وفي أيّ وقت كان عصرا أم ظهرا، أيّ وقت للإعدام، وغالبا مايكون قبل أذان المغرب، كانت القرية تعود من مراسم الإعدام صامتة. تلك الليلة أعرض عن الطعام، وبان الإرهاق على وجه الداهية إلى درجة أنّ عبد لامها بلطف على مرافقتها له، وكان يعلم أنّ قلبها لايطاوعها أن تتركه وحده:

ـ ألم أقل لك لم يكن لحضورك أيّ معنى!

ـ من منا لم ير الموت، لكنه لم يكن بهذا الشكل.

وقالت ملكة الليل، وذاكرتها تومض ثانية بين السينما والإعدام:

ـ ياقلوب أمهاتهم.

بعد الحادث السابق بدأت نهر جاسم تعي نهايتها، ولاتبالغ الأخبار إذا عدت تعبيد الطريق حسبما ورد في النبوءة القديمة علامة لزوال تلك القرية كما زال من قبل قوم عاد وثمود فمع ازدياد الحواجز وتنفيذ أحكام الإعدام علنا بالجنود الجبناء على مشارف القرى ازدادت التكهنات في أنّ أمرا ما سيحدث بعد أن ظنّ الجميع في أنّ الحرب ستتوقف باندفاع الجيش داخل الأراضي الإيرانيّة، لكن شيئا فشيئا بدأت أصوات المدافع والانفجارات تقترب حتى كادت تُسمع في القرية التي تحدثت هذه المرة عن حرب شعواء تأكل الاخضر واليابس وتعيد العالم إلى زمن السيوف والرماح والسهام. هي الحرب الثالثة. البشرية ترجع إلى عهد آدم. تختفي مظاهر العمران. الناس يركبون الحيوانات، وفي آخر خميس للداهية مع أبيها في ضريحه، رأت بين فرق الإدام المقتفية أثر الهاربين، وهدير الدبابات، رأت أخاها عبد وزوجها الغالي النمر. أبصرت كلّ من ماتوا، وبرفقتهم الأحياء يحيطون بالوليّ. كان يجلس على عرش الماء، وفوق رؤوس المريدين تحلق غمامة هابطة من السماء، ولم يطل الصمت بالولي بل انتفض فجأة فتطاير الماء حوله وهدرت السماء، ليزعق بالأحياء دون الموتى:

ـ انفضّوا من حولي!

من تجرّأ على الكلام الداهية وحدها:

ـ المقيم ياداهية كالراحل!

ـ قد تنتهي الحرب ياأبي.

ـ كلكم قاتل وكلكم مقتول.

ـ سمعت من قبل!

- كلكم قاتل ومقتول!

إلى هنا يختفي دور الراوية فلم يعد لها وجود لأنّ الحرب تغيرت فجأة وليس بوسع الأهالي إلا الاستعداد للهرب المفاجيء، فعند الظلام تحققت النبوؤة عبر طرفيها المتناقضين: الماء والنار. غاب النوم من العيون. واضطرّوا للسهر كي يتابعوا البلاغات. وفي ساعات الفجر انقلبت لهجة مذيع بغداد، كأنّه يتكلم بانكسار. الظواهر الجارية تدلّ على حدوث شيء ماليس في مصلحة البلد. وكانت الداهية تزداد قلقا على عبد، وفكرت حقّا بالفرار، وبين اللحظتين:الهرب الأوّل، والفرار الأخير، تلخّصت سنين طويلة استلها منها توقف المذياع عن بثّ الأناشيد الحماسيّة وإذاعة بيان لم تفقه من معناه أيّة كلمة، وعندما رجع الغالي ظهرا، وكان قي مقرّ الشباب مع حسن، حدّثها عن صديق الطفولة، ومافعله قبل انطباق الماء المفاجيء على نهر جاسم، فحالما شاعت هزيمة الجيش في عبادان، فقد حسن أعصابه، وصرخ أنّ الجيش تراجع ليعيد الكرة، ويستعيد أراضي أكبر مما كانت في قبضته، الحكومة واثقة من نفسها لأنّ إيران لم تخترق حدودنا بعد، وأهل قرى شط العرب خاضعون للأمر الرّسميّ الذي يفرض عليهم البقاء، ولكي لايبدو بهيئة المتنصّل من كلامه أكد في اجتماع دعا إليه بمبنى الشباب أنّه سوف يمثل القرية في المعركة القادمة، خير تمثيل، فإمّا أن يرجع ومعه سيارة تكافؤه الدولة بها شأنها كلّ مرّة مع المبدعين في الحرب، أو أن يعود بتابوت…

أمّا كيف حدث الأمر فهناك أكثر من خبر…

قيل إنّ إيران بعد استيلائها على عبادان، واندفاع جنودها نحو الحدود وضعت نهرجاسم أوّل هدف لها حيث تقطع اتجاه الجنوب، ومن سخرية القدر أنّ كلا الفريقين كان يتعامل مع النبوءة من دون أن يدري، إيران كسرت سدّ الكارون لتغرق الكتائب المنتشرة في البر، أمّا العراق، فقد فتح قنوات الماء كي يغرق البساتين، فيعيق الإيرانيين…ولم يكذّب أهل القرية عيونهم وهم يرون الموت يزحف، ويلتهم أوّل المتحمّسين للوقوف بوجهه : حسن العمران. كانت الضجّة أكبر من أيّ حزن، ففي خضم الأحداث العظيمة ينسى الناس أنفسهم وتظلّ مألوفة في الحرب صورة الموت، ولم يحضر جنازة ابن العمران أحد، فالجميع يتأهبون للفرار، ربّما تكون الداهية أكثر من بكى في مجلس الفاتحة. كانت ساعة العزاء تذرف الدمع لمصرع الأحبة، فمن رآى دموعها لم يشك لحظة في أنّها تنزل حسن منزلة ولدها، وهي وحدها تعرف جيدا أنّه الفيضان القديم جاء هذه المرّة بالماء والنار، فعلى من ياترى يحلّ الدور بعد ابن العمران؟

إنّه القدر المبرم والذي معه جاءت الأشجار تهوي، وجذوع النخل تجثو كهياكل نافقة في الرّمال، فأين هي العيون من الذباب وقد بدا يحوم على بقع حمراء يزاحم بعضها بعضا على الأرض، مع ذلك قد يكون مايحدث وهما يجري أمام العيون لولا هي الحوادث السابقة جاءت تذكر الداهية بطفولتها. آه من وجه للحوادث غير غريب خادعها بثوبه الجديد، فكيف عرفته ولم تدرك وقتها أنّه الوليّ الذي أغمد سلاحه وصرخ ثمّ هرب فيما حوله، في هذه الساعة وهو صامت لايسمعه إلا الداهية، نعم هي التي تسمع فقط ولكن لاتدرك كلماته!!

وشيئا فشيئا…

رأت المياه…أبصرت كلّ شيء. كانت نهر جاسم أو بقاياها تلتفت إلى نفسها وتنسى للمرّة الأولى موسكو وواشنطن وبغداد وبكين وطهران و……

كانت المياه تبتلع الطريق، والنار تهبط من السماء. العنفوان. الموت. الأيّام كلّها تساقطت الميمونة والمنحوسة. هي ذاتها الحشرات الحديد التي ظهرت في التجلي الأخير. المشهد الساكن تململ، والوحش الخرافيّ، غامض الملامح، وكان هناك معتوه، يركض بين الماء والنار…أمّا الداهية فكانت تهرول جهد سعيها مع من هرولوا يسندها ولدها عبد وعصاها ومن خلفهما ملكة الليل. لقد حاصرها الوقت وضايقها الماء، والنار والحديد.

ولأنّ الراوية اختفت، فكلّ شيء يخضع للتخرّصات، وكلّ الأحداث تعتمد على الوصف الخارجيّ، ففي حالة مثل هذه يتساوى الظاهر والباطن، والخارج والداخل، يُقال:السيل قدم من الشرق، والدماء سالت فوصلت الركب. النخل احترق، وانمحقت الخضرة. جثث الشجر المحروق اختلطت بالماء:الصفصاف والسدر والعنب. النخيل من غير رؤوس. هياكل محروقة من أعلاها، ومن أسفل تعفنت بالماء. تلة الموتى جبل عريزة تكدست عليها الجثث فاختلطت عظام الكباربالصغار أمّا الضريح فقد رفضت ذاكرة من بقي من القدامى أن يصيبه أيّ مكروه. قد يصل الماء إلى بابه، ويقف، أو تعجز ألسنة النار أن تأكل عتبته، ولعله يغرق ثمّ يظهر من جديد بعد سنوات فتصاحب ظهوره المفاجيء معجزة جديدة. الحقّ لاأحد يقدر أن يعطي وصفا دقيقا لما أصبح عليه الضريح بعد النكبة ماعدا ذلك الخبر الذي ارتبط بالمعتوه ناصر المسعود يوم اندفاع السيل والنار. هو وحده لم يفر تشبّث بالضريح يزعق بصوت واضح:الحرب الموت الحرب حينئذ انقطعت أخباره، وقد اشتبه به بعض الأهالي الذين نزحوا إلى العشار ومحافظات أخرى عند اشتداد الحرب، فخيل إليهم أنهم رأوه أو رأوا أشخاصا يشبهونه في مناطق مختلفة. أبصروه في الناصرية، والحلّة، وبغداد. في كربلاء والنجف، وهناك من رآه في الرمادي والديوانية والكوت، وكلّ من رآه يدرك أنّه ناصر المسعود وليس شخصا آخر. المواصفات نفسها. الهيئة ذاتها. الملابس هي لم تتغيّر، كأنّه انشطر كالحرب القائمة إلى عشرات الصور.

أمّا الداهية وابنها عبد، فيقال إنّهما استقرا في قرية أخرى بعيدة عن الحدود، وانقطعت أخبارهما عن كلّ مخلوق، اللهمّ إلا إذا التقينا راوية أخرى جديدة عاشت معهما في مكانهما الجديد، وراقبت أخبارهما عن كثب، مثلما حدث في المرة السّابقة…

ولعلها تكون ملكة الليل….

تمّ الانهاء من كتابة هذه الرواية

في كوبهاغن بتاريخ23/3/1993

د. قصي الشيخ عسكر

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم