صحيفة المثقف

أوروبا وقضايا العرب!

محمد العباسيطوال سنوات مديدة وتحت مسميات عديدة فتحت بعض الدول الأوروبية أذرعها لكل من كان يلجأ إليها من دعاة المظلومية.. وفي أحيان كثيرة كان هؤلاء اللاجئون في واقع الأمر هم أصحاب الظلم ومرتكبوه وليسوا ضحاياه.. كثير منهم قد يكونون من أصحاب السوابق وهاربون من أحكام بالسجن كونهم مجرمين ولصوص ومهربين وليسوا بالضرورة من ضحايا للتمييز أو السياسة.. بعضهم من المخربين الإرهابيين.. لكن احتوتهم تلك الدول الأوروبية بحسن نية أحياناً.. ولمآرب أخري في أحيان كثيرة !

أغلب من اقتحم دول أوروبا من رعايا دول الشمال الإفريقي هم من ضحايا الفقر والفاقة والجهل.. بعضهم عاشوا في أوروبا بشكل قانوني وأنجبوا فيها أبنائهم وبناتهم.. وآخرون دخلوها خلسة وتهريباً.. و"اختلط الحابل بالنابل" هناك.. واصبح الصالح فيهم جاراً للطالح.. وبات أغلب الدخلاء يسترزقون من الأعمال المشبوهة.. وأما من تم استيعابهم بالطرق القانونية فقد تم توفير منازل لهم ومساعدات مالية وتغطية صحية وتعليم مجاني وأمور حياتية جمة.. كل هذا تحت مسميات حقوق الإنسان وحماية المستضعفين ممن كانوا عرضة للظلم والتفرقة في أوطانهم.

قد يكون البعض محقاً في جداله أن أغلب مظالم شعوب منطقتنا هي بالأساس ناتجة عن السياسات الغربية عبر التاريخ وعمليات الاستعمار المتعاقبة والأطماع في نهب خيرات المنطقة بالذات بعد اكتشاف النفط.. فمن بين المظلومين بحق والمبعثرين في العالم الكثير من الأكراد والشعب الأحوازي وأعضاء مجاهدي خلق الإيرانية والكثير من العراقيين والسوريين والأفغان وغيرهم من مناطقنا الشرق أوسطية.

أما الأكراد فهم شعب مظلوم تم تقسيمه بين أربع دول جائرة هي إيران والعراق وتركيا وسوريا.. وربما تكون معاهدة "سايس - بيكو" في (1916) هي التي حطمت آمال الدولة الكردية الموحدة في العصر الحديث.. غير أن جذور المشكلة الكردية تعود للصراعات منذ قرون.. والحديث في ذلك يطول.  أما الإمارة الأحوازية (الأهوازية) فقد ابتليت باكتشاف النفط فيها في (1908) مما دفع "رضا خان بهلوى" فى إيران أيام الحكم "القاجارى" في القيام بحملة عسكرية (1924 (ضد أميرها العربي "الشيخ خزعل العامري".. منطقة الأحواز المعروفة أيضاً باسم "عربستان" تجتمع فيها قبائل من العرب السنة والشيعة.. ولا يزال الشعب الأحوازي إلى يومنا هذا ضحية لممارسات التفرقة من الدولة الفارسية بسبب تمسكهم بعروبتهم.. بغض النظر عن مذاهبهم.. وكان للبريطانيين دور كبير في دحض محاولات "عربستان" عرض قضيتهم على "عصبة الأمم" بعد الحرب العالمية الأولى خشية أن تتحد مع العراق وتعيق المخططات الغربية في المنطقة!

أما فرنسا بالذات فقد فتحت ذراعيها لأعضاء منظمة "مجاهدي خلق".. وهي أكبر وأنشط حركة معارضة إيرانية تأسست عام (1965) على أيدي مثقفين وأكاديميين إيرانيين بهدف إسقاط نظام "الشاه".. وبعد سقوط نظام "الشاه" نتيجة "الثورة الإيرانية" والتي أدت منظمة "مجاهدي خلق" دوراً كبيراً في انتصارها بعد أن كان "الشاه" قد أعدم مؤسسيها وعدداً كبيراً من أعضاء قيادتها، ظهرت خلافات بينها وبين نظام الحكم الإيراني الجديد للملالي، ووصلت بعد عامين ونصف العام من الثورة إلى حد التقاتل بين الجانبين في صراع محتدم يستمر حتى الآن  .استقبلهم "صدام حسين" لسنوات في معسكرات على الأراضي العراقية غير أن سقوط "صدام" وصعود التيار الشيعي الموالي لـ "ولاية الفقيه" عرضهم لمضايقات واستفزازات جمة.

أما في العراق وسوريا البعثيتين.. فقد عانى الكثير من مواطنيهما الأمرّين من ظلم وتنكيل وتعذيب ممنهج لكل من يتجرأ ويرفع صوته أو قلمه مطالباً ببعض الحقوق!  رغم أن الدولتين (الجمهوريتين) البعثيتين كانتا تتبعان الفكر البعثي لمؤسسها السوري المسيحي "ميشيل عفلق" (1947) غير أنهما كانتا أبعد ما يكون عن فكرة الجمهورية الديمقراطية المتعارف عليها.. كان الفكر البعثي مبنياً على شعارات مثل "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" وتدعو إلى الاشتراكية والوحدة والحرية والانقلاب ضد الحكم الظالم والعميل.. مجرد شعارات بينما كانت ممارساتها الداخلية قاسية لا تمت للحرية بصلة.. تشتت وتشرّد بسبب ممارساتها القمعية أعداد كبيرة من مثقفيها وعلمائها وأكاديمييها وشبابها حول العالم.

مرة أخرى,  كان ملاذ أغلبهم بين أحضان أوروبا وكندا وأمريكا.. ونرى اليوم أن من بقى حينها في العراق وسوريا يهرب اليوم نتيجة الصراعات المذهبية والداعشية ومجازر الحشود الشعبية في العراق.. وقصف النظام السوري والروسي للقرى والمدن ومجازر مرتزقة "حزب الله" في سوريا.. اختلفت الأوضاع والشعبين لا يزالان يعانيان من تبعات دهور من الظلم والاستبداد لدرجة أن البعض بات يتحسر على أيام الظلم والحرمان قبل "الربيع العربي البائس" لأنهم على الأقل كانوا ينامون الليل في بعض الهناء ويأكلون مما يزرعون وأطفالهم كانوا يرتادون المدارس.. بل بات البعض الأكبر سناً يتحسرون (قهراً) على أيام المستعمرين الإنجليز والفرنسيين وحتى العثمانيين لأن كافة الانقلابات العسكرية في العالم العربي جلبت لهم وبالاً وغير ما كانوا يتمنون.

و الحقيقة تبقى أن الاستعمارات والمطامع الغربية في خيراتنا هي من تسببت في دمار أحوالنا.. والسياسات الغربية هي التي خلقت "القاعدة" و"داعش" وشجعت على ظهور الميليشيات الطائفية في العراق لتشغلنا ببعض.. لنقضي على بعضنا البعض.. وها هي أوروبا اليوم تعاني ولو قليلاً من بعض التفجيرات على أيدي فئة من "مواطنيها" ممن فتحت لهم أبوابها ونست أن كل واحد منهم يحمل إرثاً متوارثاً من أيام تعرضهم للاستعمار الظالم (في شمال أفريقيا) تارة ومن قمع الانقلابيين العسكريين بعد حركات التحرير.. ربما نتعاطف معهم ونستهجن مقتل بضع عشرات هنا وهناك في أوروبا والغرب هذه الأيام.. لكننا نستهجن أكثر من التخاذل الدولي المشبوه عن المجازر التي نتعرض لها كل يوم.. ربما ظنت أوروبا أنها هانئة وبعيدة عن مشاكلنا.. لكن أوروبا اليوم قد فقدت "سعادتها" لأنها غضت الطرف عن "تعاستنا"!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم