صحيفة المثقف

تابيس بين العلمانية والروحانية (4): الخيال والسحر في اعماله

401 تابس1يقول الناقد والمؤرخ مانويل بورخا Manuel Borja (ان تابيس لديه صفة العمومية في فهم العالم، فتصويره ينبع من الخيال، وان تشكيلاته المادية تعبر عن الحقيقة المطلقة الكامنة ورائها، فهو بهذه الحالة يعتمد على السحر المادي والخيال لما ورائها من مضامين ..) ثم يضيف مانويل قائلا: (لنأخذ احد اعمال تابيس ونحللها وهي لوحة (الكرسي القديم) حيث يبدو للمتلقي انه لا يعبر الا عن منظره البسيط، ولكن التفكير بعالم هذا الكرسي ورحلته الطويلة في تحولاته المادية سيعطي لنا صورة اخرى ذات ابعاد مفاهيمية ومعنوية، ابتداءا من ذلك العامل الذي قطع تلك الخشبة بمعانات وتعب، وكانت هذه الخشبة في يوم من الايام شجرة قوية ذات جذور ممتدة الى اعماق الارض وبطاقة حيوية كبيرة وهي مستقرة في غابة في اعالي الجبال ... ولهذا فان حب العامل لعمله الذي نفذه وفرحة المشتري للكرسي وراحة الجالس عليه، كل هذه التحولات للمادة الخشبية ساهمت في حركة الحياة وديمومتها .. وحتى الكرسي القديم نجده يحمل في داخله روح الطاقة الاولية لتلك المياه التي كان يمتصها بجذوره من الارض التي كان يستوطنها .. ان السحر في كل هذه السلسلة من التحولات للمادة تظهر لنا مفهومها الحقيقي وقدسيتها . ونفس الشئ يسري ذلك على المواد الاخرى البسيطة والمستهلكة ..)

كل شئ يتحرك وله روح:

هذا الطرح الفلسفي لاعمال تابيس وحياة وروح الاشكال والجمادات يذكرنا بتراثنا الديني والآية القرآنية الكريمة (لوا انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) .. (كل عرف صلاته وتسبيحه والشجر والدواب ..) بمعنى ان كل شئ في الحياة من جماد وحجر وشجر وحيوان له روح وحياة وحركة ومعرفة ، وهذا ما اثبته العلم اليوم بان ليس هناك شئ ساكن في الحياة والكون ... فهذا الكرسي القديم في نظر تابيس يعتبر شئ حي له روح وعمق تاريخي ولهذا فنحن نتعامل مع اشكال حية وان بدت لنا جامدة لا تتكلم .. يضاف الى ذلك فهو يحمل مشاعر واحاسيس العامل الذي صنعة وفكر ومشاعر الفنان الذي رسمه وحب المشتري والجالس عليه.. ولهذا فان تابيس ينظر الى الاشكال المادية بهذا المنظور الصوفي و المفاهيمي . ...

قرأت كتابا فلسفيا مترجما يدعى – الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر – للمؤلف جان فال 1968 - يتحدث عن سر الوجود والحياة والكائنات في هذا الكون وانها في تواصل وتغير وتجدد مستمر .. ونقلت منه هذا النص (... هذا الاتصال لا يوجد في الكائن الحي فحسب ولكنه يقوم بين الكائن الحي والكون، فهناك تداخل مستمر بين الموجودات بعضها وبعض ... وكل حيوان هو انسان بدرجات متفاوتة، وكل معدن نبات بدرجات متفاوتة، وكل نبات حيوان بدرجات متفاوة.. ففي كل مكان حياة وما الموت الا تغيير في الصورة .. وكتب ديدرو قائلا : ما من نقطة في الطبيعة لا تتألم ولا تستمتع). هذه المفاهيم الفلسفية نجدها في فكر تابيس وطروحاته واعماله الفنية ..

401 تابس2

و بالمناسبة احب ان اذكر معلومة تاريخية (لها علاقة) وهي ان الفرنسيين لما غزوا مصر عام 1798 كان معهم 150 عالما و2000 من الفنانين والرسامين والاطباء والفلكيين وغيرهم ’ وقد عملوا مسحا ميدانيا لجميع المناطق الاثرية في مصر واخرجوا كتابا يتكون من 20 مجلدا يدعى – وصف مصر – فيه رسوم ولوحات عن الحياة المصرية في ذلك الوقت، كما نقلوا معهم الى فرنسا المخطوطات العلمية والفلسفية والجغرافية الاسلامية .. ولهذا فقد تأثر بها المثقفون والادباء والعلماء الفرنسيين ...و ليس بعيدا وغريبا ان يتأثر بها ديكارت وسارتر .كما ان الفنان تابيس كان متأثرا بفكر سارتر والفلسفة الوجودية .. 

و يذكر الناقد الاسباني بيري خمفيري Pere Gimferrer بان غياب التقييم والفهم و المعرفة لاعمال تابيس هو تقصير كبير .. وعليه يجب دراسة اعماله بعمق من جميع الجوانب التاريخية والفكرية والفلسفية والمادية . كما يذكر بيري، ليس هناك ناقد افضل من الفنان نفسه، ولهذا يجب الذهاب الى كتابات تابيس نفسه ومعرفة حقيقة تفكيره وطروحاته الفلسفية ..

صدرت ستت كتب تتحدث عن اعمال تابيس ومفاهيمه الفكرية جمعت نصوصها من خلال ما نشر في الصحافة من نقد وما كتبه هو عن الفن والمقابلات التلفزيونية والاذاعية . واصبحت هذه الكتب مادة غنية بمثابة مراجع لفهم تابيس واعماله . و يقول تابيس : (يثيرني جدا حفر كرافيك او رسم كرافيتي على جدار، عندما اجده مشحونا بالمعاني الانسانية، وهذا اللون من الاعمال يعادل عندي كل ما موجود من اعمال في متاحف العالم ...)؟. وكثير ما نجد آثار وبصمات الفنان تابيس على اللوحة من خلال طبع كف يده على سطحها، وكان يستخدمها كمفردة لغوية معبرة . تلك اليد التي من خلالها تسرب مشاعر واحاسيس الفنان الى المادة الفنية وعناصرها وبشكل ابداعي واعي وخيالي ساحر فتخرج بالتالي اللوحة مشحونة بطاقة كبيرة من الافكار والاحاسيس الحية .

وقد بدأ تابيس يكتب ويطرح افكاره وينشرها منذ عام 1955 الى عام 1970 وهو يقول (لا افكر في الفن التشكيلي فقط وانما اريد ان اعبر عن شخصيتي نفسها ..) وهذا الطرح يشبه فكر الفنان بول كلي حيث يقول (ان تطور الشخصية والتعبير عنها يمكن ان تبلغ المثل الاعلى للكائن الانساني ..) وكان تابيس مثقفا ناسكا و كثير القراءة والبحث في جميع صنوف المعرفة من فن وفلسفة وادب وتاريخ وشعر وغيرها .. وكان يقول (الفن هو مصدر للمعرفة) وهي اشارة الى اهمية و وظيفة الفن الثقافية والاجتماعية واستيقاضه للعقل ......

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم