صحيفة المثقف

الأبعاد الدلالية في رواية "تيلاندسيا" للكاتبة سلمى الغزاوي

اناس الكنونيلكل كتابة بعدا دلاليا يتوارى حول الكلمات والمضامين والأفكار والرموز التي تحتويها، ومن خلال التصفح الأولي لرواية "تيلاندسيا" لكاتبتها سلمى الغزاوي، توحي لنا بسمات وإيحاءات عديدة، من حيث الشكل يتضح لنا أن الرواية صادرة عن دار كيان للنشر والتوزيع، وأنها عبارة عن جنس سردي أدبي، تتكون من 155 صفحة من الحجم المتوسط، تتضمن مجموعة من المذكرات تدخل بلا شك في أدب الرحلة، تحكي عن معاناة وآلام مجموعة من الشخصيات الذين تصادفهم أحداث مختلفة في طريق رحلتهم نحو تحقيق أحلامهم.

يوحي عنوان الرواية "تيلاندسيا" بعدة معاني، من بينها "الطحلب الاسباني" وهو في الغالب ينبت في المناطق الرطبة، ويسمى أيضاً بالريشة الوردية، كون أن لون زهرته يميل إلى الوردي، كما يتميز بأوراق خشنة قادرة على استخلاص الرطوبة من الهواء.

ويقدم لنا غلاف الرواية إيحاءات كثيرة، من بينها صورة لشخصية يظهر من خلال ملامحها السوداء أنها من أصول إفريقية، والتي يمكن التكهن بأنها شخصية محورية في الرواية تدور حولها مجموعة من الأحداث، وقبالة أنظار هذه السيدة مدينة وردية تحيط بها مساحة بمثابة بيداء، وهي في رمزيتها أقرب من الحقيقة إلى الحلم، واللون الوردي الطاغي على غلاف الرواية يرمز إلى الحلم الذي نظل نقاتل من أجل تحقيقه وبلوغه، ومن ناحية أخرى يرمز إلى لون نبتة تيلانديسيا ذات الزهرة الوردية والتي ترمز إلى الحلم حسب الحكايات التي تتداول عنها.

لكن سرعان ما تترجم كل هذه الفرضيات أو القراءة التوجيهية إن صح القول إلى عدة دلالات وتأويلات يوحي بها مثن الكتاب، ينوط الوشاح عنها حينا، وحينا آخر يرغم القارئ على التسلح بكل الإمكانيات والتقنيات والمعارف المناسبة لفك رموزه وشفراته، كون أن كل نص أدبي يحمل في طياته غايات قصوى هي الدافع إلى إنتاجه.

تحكي الكاتبة في روايتها عن مأساة إنسانية يتعرض لها المهاجرون من دول إفريقيا الوسطى نحو قارة هو بمثابة خلاص أو فردوس لكل غذاباتهم، وعلى رأس هؤلاء المهاجرين الأمازيغي "مامادو" من أصول مالية، ترعرع بتمبكتو، وهو يعتبر شخصية محورية التي تدور حوله جل أحداث الرواية التي تكشف لنا عن محنته التي تسببت فيها الصراعات الدموية التي خلفتها جماعة "بوكو حرام" ومجموعة من المتطرفين، حيث هاجر نحو المغرب باعتباره بوابة العبور نحو أوروبا، وتتقاطع معه في محنته هذه مجموعة من الشخصيات التي رافقته في جل الأحداث التي مر بها في المغرب، "عبدول" رفيق دربه، ثم "حماد" و"جورج" من الكاميرون، و"أماديا" من النيجر، و"ميكائيل" من الكاميرون، و"تلايتماس" أمازيغية مغربية، و"نورس" من سوريا، و"علياء"... بالإضافة إلى مجموعة من الشخصيات الثانوية التي تتقاطع مع مامادو في نفس المعاناة والآلام والأحلام، فتتشكل بين هؤلاء الشخصيات علاقة إنسانية، تجعلهم يمدون يد العون إلى بعضهم البعض، ويحاولون ما أمكن تخفيف عبء الحياة عن بعضهم البعض.

تضمن الكاتبة روايتها مجموعة من القيم الإنسانية الكونية، كالمحبة والتعايش والتلاقح بين الديانات والتقاليد والعادات، كما تجعل من التسامح جغرافية شاسعة تدخل تحت مظلتها كل إنسان يتصف بإنسانيته رغم اختلاف معتقده ولونه وجنسه وبلده.. وهذا يظهر جليا من خلال التعايش الحاصل بين مامادو ورفاقه المسلمين مع جورج المسيحي الذي أواهم بمنزله وأطعمهم، والشيء نفسه نلاحظه من خلال التعايش الحاصل بين مامادو ورفاقه مع صاحبة مطعم أنوال بطنجة "تلايتماس" و"نورس" أصحاب البشرة البيضاء، إذ لم يكن مشكل الجنس أو اللون أو العرق عائقا أمام توظيفهم ودعهم من أجل تحقيق أحلامهم.

يمكن القول أن الفكرة المحورية التي تنبن عليها الرواية في سردها، تتمثل في الدفاع عن القيم الإنسانية الكونية المشتركة بين جميع الناس على اختلاف معتقداتهم وجنسياتهم وألوانهم وأعراقهم، كقيم المحبة والتعايش والتسامح والتواصل والتلاقح والانفتاح وقبول الأخر واعتبار الإختلاف نعمة، وتجنب الخلاف والتعصب والعنصرية التي رمزت إليها الكاتبة في مجموعة من الشخصيات الثانوية التي تتلفظ بألفاظ شنيعة في حق المهاجرين الأفارقة القادمين أفريقيا الوسطى.

كما نشير إلى أن الرواية تضم ثلاث فصول رئيسية، عنونة الكاتبة الفصل الأول ب "في طريق الحلم والذي يبدأ من بداية الرواية إلى حدود ص: 56، والذي تتحدث فيه الكاتبة عن المعاناة والمشقات التي تعترض المهاجرين السريين وهم يحاولون شق طريقهم نحو تحقيق حلمهم بالعبور إلى الضفة الأخرى. فيما يخص الفصل الثاني يمكن القول أنه يبدأ من ص: 57 إلى حدود ص: 110، عنونته الكاتبة ب "على ضفاف الحلم"، وتحكي فيه عن مرحلة جديدة من حياة المهاجرين، والتي يبدؤون فيها بتهييء أنفسهم لاستقبال أحلامهم، بالاشتغال وجمع المال لتسديد تذكرة العبور إلى إسبانيا. أما الفصل الثالث والأخير يبدأ من ص: 111 إلى نهاية الرواية، وقد عنونته الكاتبة ب "أضغاث أحلام"، إذ في هذا الفصل تتبخر أحلام كل المهاجرين، بعد أن أودى حلم العبور إلى الضفة الأخرى بحياة "أماديا" و"جورج"، فبدأ "مامادو" و"عبدول" و"نورس" بالعدول عن حلم هجرتهم إلى العدوة الأخرى شيئا فشيئا، وقد ساهمة صاحبة مطعم أنوال بطنجة "تلايتماس" في عدول هؤلاء الشباب عن الهجرة وتسوية وضعيتهم بطنجة، كما دعمتهم في بناء مستقبلهم وعودة "مامادو" و"عبدول" إلى موطنهم تمبكتو وإنشاء مستقبلهم هناك.

فالرواية في مجملها تعبر عن ظاهرة إنسانية واقعية في عمقها، إبداعية من ناحية سردها، تتجلى فيما نشاهده من حروب طائفية وصراعات دامية بأفريقيا الوسطى وغيرها من الدول الأفريقية، والتي تسببت في خلق احتقان وهجرة العديد نحو أوروبا، وتسببت من ناحية أخرى في تفشي الفقر والمجاعة التي ساهمت في هجرة العديد نحو شمال إفريقيا وأوروبا بحثا عن متسع للحياة، وما يعرف هذه الهجرة من معاناة وآلام وعذابات تكاد تكون أقسى على المرء من أمواج البحر الأبيض المتوسط.

 

بقلم أناس الكنوني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم