صحيفة المثقف

لحظة مفارقة

عقيل العبودالبيت القديم، اخر ما تبقى فيه، تلك الأريكة التي اثارها، مثل كاتدرائية معلقة وسط قلب يسكنه الوجع. 

صاحبي، مشاعره لم تعد تقوى بعد لأن تبقى هكذا جامدة دون حراك.

الإرث الذي خَلَّفَهُ ابوه قبل موته، سقف، نوافذه  تساقطت ركاماتها عند بقايا حديقة كانت عامرة بشجرها، ونخلها، وساكنيها.

المحلة القديمة كانت تجتمع صباحاتها مع تغريد البلابل، وزقزقات العصافير.

 بيوتات، قسم من واجهاتها، تم تحويرها على شاكلة محلات وأسواق، كأنما أُريدَ بها تلك البقعة، ان تصبح مدينة متكاملة بجميع مكوناتها، بما فيها مستوصف الصحة، والمدارس، كل بحسب فئته العمرية، اضافة الى مركز الشرطة والحراسات الخاص بالطوارئ النادرة انذاك.

الأصدقاء، ما تبقى منهم، انتماء لم تنته جذور أواصره التي جمعتها محبة وألفة.

وظيفته صارت تلح عليه هكذا، لأن يحصل على اجازة يتمتع بها أملاً بلقاء أمه، التي لم يبق لها من أيامها الاخيرة الا تلك اللحظة الفارقة من الزمان.

زملاؤه، بل وحتى رئيس عمله جميعا، يحثونه على السفر، جوازه الذي تم تجديده قبل سنوات خمس فتحت اوراقه، لتنشطر بتلك الطريقة التي ما برحت في أنظاره؛ رصيف المطار، الطائرة، الحقائب، الجوازات، المسافرون، بداية الإقلاع، ذلك الشعور الذي ينقل تلك الكتلة من الفيزياء الى فضاء بلا جدران.

الوطن كما يبدو، تاريخ يسكن الذاكرة، يؤرق أوجاعها يحوم بها مثل طائر يبحث عن احفاده الذين تركهم عند بقعة من بقاع هذا العالم الفسيح، لعله يعيد بناء عشه الذي تداعى ذات يوم.

العمر تلك المحطات التي توالت حقائبها عند ارصفة متعاقبة،  بات يمضي بسرعة هائلة، المنفى تلك البلدان التي ابتدأ بها شروط حياته التسعينية، انقضت  ازماتها، وازمنتها هكذا على ذات المنوال؛ ربع قرن، مداره قصص واحداث، حكايات ترتسم في حسه ومشاعره.

الحياة كما يبدو فصول مسرحية يسدل الستار عند مشاهدها المتنوعة،  ليطلع الجمهور عليها أسوة بسيناريوهات وفصول اخرى سبقتها؛ تفاصيل تغور بعيدا لتشهد عند تلك النقطة من الوجود فلسفة الموت،  حيث تقفل ابوابها تلك الرغبات والآمال التي يفكر الانسان في تحقيقها، ربما منذ صباه وبحرص وتفان تراه يسعى نحوها.

وتلك حقيقة هذا الكائن الذي تراه تجتازه الحواجز، وتستغرقه المسافات، وذلك وفقا لاسرار فضوليته لتحط به عند منعطفات هذا العالم الفسيح، بهذا القدر اوذاك من المقادير والموضوعات. 

برتلك الالغاز جميعا اجتمعت عند مركز الدائرة المرسوم وسط ذهنه، ثم راحت تتوالى هكذا مثل بندول الساعة نحو المنتصف، تنتقل به، تتجول.

لعله يغير مكانه، اوربما يعود الى محطته التي انطلق منها اول المطاف، ليلاقي حتفه هناك ربما بعيدا عن الضجيج-الماضي، الأحباب والأصدقاء، المدرسة القديمة، الشوارع،  المحلة، الأوراق الصفراء، رائحة التراب الممزوج بعطر المطر.

الدمعة التي ساقتها تلك الرموش فوق الأحداق، استعادت انفاسها، لتعانق بكاء أم ارادت ان تستعيد احزان شوقها، لعلها تلك الأرواح تنهض من نومتها مثل الاشباح.

 ***

عقيل العبود    

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم