صحيفة المثقف

بين جزيرتين

سردار محمد سعيدمهداة للصديقين صالح الرزوق وجمعة عبد الله

أحلى الجلسات جلسة تأمل وأمتع الأصوات أنين ناي يصدح .

لي ناي صنع من القصب، وتتلاعب أصابعي فوق ثقوبه بخفة ولين .

 طويلاً كانت هذه هي متعتي التي تغنيني عن المتع الأخرى والشهوات الماديّة والوقتية .

 على ضفة الفرات أرقب لونه الطيني وأشعر كأن السمك يطرب للألحان المنبعثة من عزفي فيتقافزمبتهجاً، والنواعير على جرفيه تدور وتدور بحريّة، ويخفت صريرها منصتة لصوت الناي، وحتى الكتل الطينيّة لم تعد موجودة فقد ذابت لفرط حلاوة النغمات .

وقد اخترت ضفة مرتفعة قليلاً أعزف فيها وأُسمع الأحياء من نبات وطيور وكذلك الجماد كالنسيم والسحاب والمطر والصخور الصلدة المنضدة بتعسف وبلا نظام .

قالت مليكة جزيرة القهر :

ما لي لا أرى غراب البين، لأنتفنّ ريشه الأسحم إن لم يأتني بخبر يقين عن مصدر صوت الناي الرخيم .

قال الغراب:

أنا هنا مليكتي وجئتك بنبأ عظيم، هذا العزف البديع لرجل ساحرأظنه من نسل"داوود" ينفخ الناي القصبي وأنامله تتحرك وكأنها بلا عظام، يحسن النفخ، يملك موهبة قلّ نظيرها، ومما يزيد في ظني أنه ساحر أن الطيور تهرع لسماعه، وغصون الشجرتهتزطرباً، وتثمر تيناً وزيتوناً، والفراشات تحوم حول الورود، وحتى السحاب يتراكم، ويتدافع، والصخورتتشقق فتنبجس منها العيون، وليلاً تتراقص النجمات وتسطع أشعتها، ويكتمل القمرفينثر فضته على الماء .

ردّت مليكة الجزيرة :

هذا الذي كنت أبحث عنه، من يأتي به؟ هو الذي رأيته في الحلم، إنه هو، إنه هو عازف الناي، هذي صفاته، يتأمل كثيراً ويرنم كثيراً، يأكل قليلاً وينام قليلاً، يعشق جمال الروح والعقل كثيراً والجسد قليلاً،

أريده أريد ضمه لحاشيتي، أريده مع نايه .

همس الغراب في أذن المليكة: لن يأتي بالسهولة التي تتصورينها .

المليكة : إذن ماذا أفعل؟

الغراب : عذراً مليكتي، عليك أن تغريه، تبرزين له من تحت الماء، تنضين ثيابك واحداً بعد واحد، تغتسلين بالماء، كل جسدك عضواً عضواً، ولا يرى نصفك الأسفل، ليكن تحت الماء، فإذا انبهر واندهش لجمال مليكتي ولجسدها الرَخص وجلدها الرطيب، وتوقف عن العزف رافعاً الناي عن فمه، وفتح عينيه المغمضتين، وكف عن تأمل الطبيعة عدا مليكتي فيقيناً قد وقع في حبك فاستدعيه، وسيأتيك رافعاً راية الحب الحمراء .

قالت المليكة : أصبت الرأي، لا تخبر أحداً حتى يأتيني خاطباً، فمن العار أن تتنازل مليكة أمام شعبها لعازف ناي في حين رفضت كثيراً من الملوك والقادة العظام .

 واستدرجت عازف الناي على وفق ما ارتأه الغراب، وعند وصوله الجزيرة كادت له .

عرضت عليه الزواج، وأرته الجميل فيها والعز ورغد العيش، وأطمعته في المنزلة التي سيتبوأ بصفته زوج المليكة .

وافق العازف فرحاً، وظن أنه حصل على أكبر جائزة في حياته فقد أغرته بجمالها وغنجها وتم الزواج وأقيمت الأفراح والولائم ورقص الراقصون وغنى المغنون بصوتهم الشجي، ونهرت المليكة الغراب عن فتح فمه لئلا يصدر عنه صوت يخدش الأذن،

بعد أشهر قليلةمن الزواج بدأت طلبات المليكة التي رأت في زواجها ما يزيد ثرائها وغناها فأول مطالبها العزف لغيمة كانت تلتاث فوق قصرها لكي تمطر عليها لؤلؤاً، فعزف، وإذا بالسحابة تُمطرلؤلؤاً رطباً يققاً .

 بدأت تخلع ثيابها وترقص فرحة وتدور فاتحة ذراعيها ولما توقف زخ الحبات البيضاء راحت تجمعه بشراهة وتقبله وخبأته في صندوق خشبي أعد لذلك .

شكرت زوجها على ثقته العمياءبها وأثلجت شفاهه وقلبه مساء مكافأة على حسن صنيعه .

في يوم آخرطلبت منه أن يعزف للشجرة القريبة من غرفة نومها فقد قال لها المنجمون أنها تزهر بضع زهرات في كل تويجة منهن تكمن ماسة زرقاء لا تقدر بثمن، ورضخ لطلبها فعزف .

بدأت الشجرة تورق وتفتحت أكمام ورد، وكانت المليكة تتحرق شوقاً بنموها، وحين تفتحت أول وردة وعلى وقع الناي تأهبت للرقص، ففتحت ذراعيها .

بدأت تهتز قليلاً ثم تصاعد الهزّ وتوالى خلع الملابس لتغري زوجها بمواصلة العزف .

قبّلت كل وردة تفتحت . جمعت الماسات الزرقاء وقدمت له شفتيها وقبلته وضمته إلى صدرها وأطفأت شعلة المصباح ليلا .

زادت طلباتها ففي مرة ثالثة طلبت العزف لدجاجاتها فقد علمت من النفاثات في العقد أن من بينها دجاجة إذا طربت فستبيض ذهباً، ولكن عزفه هذه المرّة لم يأت بنتيجة فغضبت وطلبت اعادة العزف وعزف لعدة أيام متتالية دون نتيجة تذكر،

طلبت طلبات أخرى وفي كل مرة يخيب مبتغاها .

بدأت تصرخ بوجه عازف الناي،

وتغضب لآقل فعلة يفعلها،

تضخم الكره،

هددته بكسر الناي فخبأه تحت ثيابه الداخلية .

قررت طرده من مملكتها فاستدعت رجال شداد، ربطوه ووضعوه في كيس وحُمل على ظهربغل وألقوه بعيداً على وفق أوامرالمليكة،

فتح عينيه بعد أن استفاق من الإغماء، وجد نفسه على ضفة نهر لم يره من قبل، تحسس جسده فتلمس الناي تحت أبطه، سحبه فتفاجأ بأنه انفطر فبكى ونحب، حاول العزف فكان الهواء يتسرب من شقوقه فزاد نحيبه، وفي أثناء ذلك لمح خيال غانية تقف على رأسه،

قالت: لِمَ البكاء يارجل؟

قال وهو يمسح دموعه بكمّيه : حكاية طويلة مؤلمة وانفطار الناي أشد ايلاماً

قالت: كل شيء يمكن تصليحه وكل مسار خاطىء يمكن تصحيحه، كن صلباً وتعال اتبعني .

قال : إلى أين؟

خشي من أن يتبعها فالمرء لا يلدغ من جحر مرتين .

قالت: لا تخش شيئاً بضعة أمتار عند تلك الشجرة .

بلغا الشجرة فأومات له بالجلوس، أدارت ظهرها وأدخلت يدها تحت ثيابها، فأخرجت خنجراً ذرباً،

 فزع أول الأمر لكنه اطمأن عندما قالت :

هذا خنجر أهداه لي أبي الشهيد وأوصاني: لا تستعميله إلا للخير أوالدفاع عن النفس، وزادة هدأة فكّ رباط شعرها الأحمر واقتطعت شريطاً منه، وأردفت لفّ هذا الشريط على سبابتك، وفجأة غرزت الخنجر في جذع الشجرة، فاندلق منه سائل كثيف القوام .

قالت هذا صمغ يسمى الصمغ العربي خذ منه بضع قطرات بسبابتك ومررها على فطورالناي قبل جفاف الصمغ على أن تتجنب مواضع الثقوب، ففعل، وبعد دقائق

قالت: جرّب العزف الآن .

 فنفخ فيه وإذا به يصدح، ضحكت وقالت :استرسل في العزف، لاتتوقف، فشوهدت الفراشات تأتي زرافات ووحدانا وخفقت أجنحة طيور خضر حوله .

قالت له: تعال معي، أزح عنك غبار الماضي واغتسل بماء هذا النهر، إنه "العاصي" .

أدارت ظهرها مبتعدة فصاح : أين أجدك ثانية؟

التفتت وقالت :

إبحث عنّي في الغابة القريبة فإذا عثرت عند الساقية على شجرة نخل تطرح في موسم رطباً وفي موسم مشمشاً وفي موسم تيناً وفي موسم زيتوناً فقف عندها واصبر وانتظر،

كل واشرب وتأمل ورنّم حتى تنسى الماضي وكف عن البكاء، سآتيك مقتنعة.

 

سردار محمد سعيد

نقيب العشاق بين الفرات والعاصي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم