صحيفة المثقف

ملاحظات بشأن سوء استعمال وسائل التواصل الإجتماعي

محمد العباسيبنوايا صافية وصادقة، لا شك في ذلك.. لكن المصيبة أن الكل يبعث بكل شيئ دون مراجعة ولا تفكير.. فتاوى غريبة.. نصائح إجتماعية.. مواضيع دينية.. سخريات مذهبية.. خلطات شعبية وأدوية لكل داء.. معلومات طبية.. تشكيك في أغلب الأطعمة المتداولة بين الناس.. أخبار عن المذابح.. أفلام عن مشاكل الخدم.. وطبعا كم كبير من الفيديوات السخيفة للمقالب والحركات الصبيانية.. حتى بات الصغير والكبير يعيد إرسال كل شيئ دون إستثناء ولا مراعاة لمشاعر المُرسل إليهم.. هل يتقبلون تلك الأمور، وبدون أي تمحيص في مصادر تلك المعلومات.

أعود وأكرر أن النوايا صادقة بشكل عام.. لكن المراسلات تتعدى في كثير من الأحيان حدود الذوق الرفيع والمنفعة المرجوة.. فصور الورود والطيور والشواطئ الخلابة مع جمل مثل "صباح الخير" و"مساء الورد" لا بد أنها تلميحات جميلة بأننا لا نزال على البال.. غير أن إرسالها كل يوم عبر "برودكاست" يشمل العشرات من الرفاق يفقدها خصوصيتها.. لأنها تفقد روح المبادرة الموجهة للشخص المعني بالذات.. فتكون على شاكلة المراسلات العامة وتصبح غير مُستساغة.. بل تكاد تصبح ثقيلة على القلب لأنها لا تعكس صفة الخصوصية من صديق إلى آخر بعينه.. جميل أن يشعر المتلقي جميل الكلام من أصدقائه كل صباح ومساء، لكن لا بد لهذه المبادرات أن تكون بصفة شخصية وخاصة.. من القلب إلى القلب !

والبعض يعيد إرسال كل المعلومات الطبية بدون مراجعة.. ظناً منهم أنهم ينشرون الفائدة.. ويبثون بين الناس النصائح والخير.  أيضاً نعود لمسألة التأكد والتبصر قبل النشر.. ففي أحيان كثيرة يعيد نفس الأشخاص بعد يوم أو يومين معلومات تتناقض مع معلوماتهم السابقة بعد أن يقوم البعض بتصحيحها لهم.. وقد يكون آخرون قد جربوا تلك النصائح أو الأدوية أو العلاجات بالفعل وكانت عليهم وبالاً لأنها معلومات غير مجدية، بل قد تكون تسببت بالضرر بأوضاعهم الصحية.. وأغلب المواضيع الصحية تتعلق بعلاجات لأمراض كالسرطان والسكر والضغط والكلى وإنسداد الشرايين.. أي أمراض العصر التي يعاني منها نسبة كبيرة من الناس في عصرنا هذا.. والشغف عالي النسبة بينهم لإيجاد الحلول السريعة والغير مكلفة.. وأصارحكم القول بأنني شخصياً جربت الكثير من الخلطات التي "يحلف" أصحابها بأنها ناجعة للسكر والشرايين والكلى مثلاً.. جربت غلي أوراق الزيتون.. جربت تنقيع التين في زيت الزيتون.. جربت غلي البقدونس.. جربت أكل نبتة الـ"كيل" (kale) .. جربت طحن قشر الرمان وغليه وشُرب ماءه.. جربت تناول كميات من القرفة (دارسين) المطحون مع القهوة والشاي كل صباح.. جربت أكل الخيار الهندي المر (كيرلا).. جربت عصير الليمون العماني بقشره مع الثوم.. وبصراحة، كانت الحقيقة الوحيدة التي صدقت معي أنها خلطات قد لا تضر إن لم تنفع.. وفي الحقيقة أنها لم تنفع.

ثم هنالك من يعيد إرسال سخافات وتفاهات وحركات على شاكلة "الكاميرا الخفية".. حيث يسخر ويضايق البعض عامة الناس في الطرقات بحركات صبيانية "وقحة".. وأعتقد أن نشر هكذا فيديوات إنما يشجع على التمادي في مثل هذه الحركات الغير مسئولة وفيها الكثير من الإهانة والمهانة وقلة الذوق.. وقلة الذوق هذه تنعكس بالتالي على مُرسلها وكل من يجد فيها مادة للضحك ولا يرى فيها ضيراً ولا أذى.  ومن ذات المنطلق، نجد تسجيلات فيها تعذيب للحيوانات وسوء معاملة للأطفال وسخرية من كبار السن أو ممن تسميهم المعاقين ذهنياً.. وكلها مواضيع تتنافى مع الأخلاق السليمة والذوق الرفيع.. وتكثر بيننا فيديوات "الشماتة" في الآخرين عبر تصوير ونشر لقطات لحوادث السيارات وخناقات بين رواد المجمعات وتعثر البعض وسقوطهم المؤلم وإصطدام الأطفال بالأبواب الزجاجية.. أي كل ما يتعلق بالضحك على مصائب الغير ومواقفهم المحرجة.

والبعض الآخر يستمتع بمناظر الدماء والجثث وعمليات الإنتحار والتعذيب والقتل.. وأنا شخصياً كثيراً ما طلبت من أصدقائي على الواتساب عدم إرسال صور ومناظر الدماء والجثث والتعذيب.. وبالذات تلك التي تتعلق بالأطفال.. وإن كانت المواضيع تتعلق بسوء معاملة الخدم للأطفال الصغار.. ولا أستسيغ كل ما يتعلق بسوء معاملة البشر ولا الحيوانات البريئة.. فأي فائدة نجنيها من صور الجثث والأوصال البشرية.. ما هي الرسائل النبيلة والمفيدة في تلك المشاهد المروعة؟  بل يجب أن نتذكر أن كل تقنية حديثة لها إيجابياتها وسلبياتها تبعاً لطريقة إستخدامها، وأنه مهما بلغت التقنية درجة من الأمان ووسيلة سريعة للتواصل، يجب الحذر منها وعدم الإعتماد عليها، وإستخدام الحد الإيجابي من ذلك التطور.. وعلينا أن نتكاتف لنشر كل ما هو مفيد بحق والكف عن نشر الغث والمعلومات الغير مؤكدة وتلك النصائح التي قد تكون سلبياتها أكثر من إيجابياتها.. فلا نعيد إرسال كل ما يصلنا دونما تأكد من المعلومات ودون مسئولية أدبية من جهتنا.

والبعض ومن باب نشر الفائدة يرسل مواضيع تتعلق بالأطعمة والمأكولات بقصد التوعية بمضارها على الصحة ومخالفتها لتطبيق الشريعة دون مراعاة لمدى صدق تلك المعلوات.. فكثير من مثل هذه القضايا هي في الأساس من باب الدعاية والدعاية المضادة من الشركات المصنعة للبدائل التجارية..  فعبر الكثير من الرسائل المُحذرة بتنا اليوم في ريب شديد وشك (وسوسة) من كل منتجات المشروبات الغازية وأغلب أنواع العصائر المعلبة والأجبان ومنتجات اللحوم والدواجن.. بل ونكاد نشك في كافة أنواع المياه المعدنية والصحية على أنها مجرد مياه عادية تفتقر لمحتوياتها من الأملاح والمعادن المفيدة كما تتدعيها الشركات المُصنعة.. بل يمكن القول بأن بعض المواضيع تتعلق بالإشارة لمخططات صهيونية وغربية لنشر الأمراض الخبيثة والعقم بين المسلمين عبر الأطعمة المعلبة والمدسوسة في عالمنا الإسلامي.. وحتى تلك القصص التي تتعلق بالرز المُصنّع من أكياس النايلون والزيوت النباتية المهدرجة والنقانق و"البرغرات" المصنوعة من لحوم الحيوانات الميتة بعد هرس لحومها مع جلودها وعظامها وحوافرها.. بل تتدعي بعض المواضيع بأنها لحوم من خليط من البقر والخيول والخنازير.. والكل يفتي والكل يصدق!!

وليس فقط ما يأتينا من الغرب، فاليوم بتنا نشك في كل الأطعمة التي تصلنا من الصين وأخواتها.. ونشك حتى في البطيخ الإيراني والفاكهة التي تأتينا من الجنوب اللبناني..فحسب موقع (النهار) الإلكتروني أن الشرطة الصينية صادرت 20 ألف طن من اللحوم الفاسدة .. وخبر آخر يتعلق بضبط شبكة إجرامية قامت بتوريد شحنات من لحوم الجرذان والثدييات الصغيرة على أنها لحوم ضأن.. وتتوالى القصص المتعلقة بالأطعمة ويخلط فيها أصحاب "المسجات" عبر مواقع التواصل حيثياتها والمبالغة في أضرارها لمجرد الإثارة.. وبعض تلك المواضيع هي مجرد إنعكاسات للخلافات السياسية أو حتى المذهبية، وتنتشر بين الناس كالنار في الهشيم.. ويكون الواتساب أحد أكثر المواقع وأسهلها لبث الرعب والمخاوف.. وأعود وأكرر.. لربما بحسن نية.. لكن تكون النتيجة وخيمة على المجتمع بشكل عام. 

أما المواضيع الدينية فكثيرة.. وبات كل ذو علم بسيط يفتي وينشر له مريديه ما يحلو لهم من أقوال ومعلومات.. ولو من باب الفكاهة والسخرية.. ومع تكرار النشر العشوائي لكل ما يقال قد نخلق بيننا وبين المختلفين معنا مزيداً من نقاط الخلاف والطعن في النوايا.. فبدلاً من إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي لبث الحب والتواصل باتت بعض المواقع مصدراً لنشر الفتنة والتفرقة والإرهاب.. لا يكفينا حُسن النية إن أمعنا في المشاركة بعلم منا أو جهل في المساهمة في نشر كل ما هو سيئ ومعيب دون وعي سليم.. فالفرق كبير بين نشر الثقافة والفائدة ونشر الأكاذيب والإشاعات.. فكم هو خطير حين يتم تداول كل المواضيع وإعادة نشرها دون وعي سليم.. فكم هي خطيرة أجهزتنا الذكية بين أيدي الأغبياء والإنتهازيين !!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم