صحيفة المثقف

شفافية الصورة عند فاتن عبد السلام بلان

قصي الشيخ عسكرلعل سائلا ما يقول ماذا يقصد الكاتب بكلمة شفافية التي وضعها الكاتب عنوانا لمقالته هذه وأرى أن الشفافية هنا تعني النص الذي لا يضعنا في مأزق بل هو متصالح ومتواز مع فهمنا فلا يحملنا ما نذيقه فهو مثل الماء الصافي الذي حالما ننظر اليه نرى مباشرة ما في داخله من ألوان شتى ثابتة ومتحركة ولكي أعزز رأيي فاني اخترت نصا من نصوص الشاعرة فاتن بلان التي أظن أن لشعرها او لنقل قصيدة النثر التي تكتبها نكهة خاصة تشبه في رائحتها ومنظرها الماء الصافي الذي يشف للناظر عن أشياء كثيرة. ولنا مثال على ذلك قصيدتها التي جعلت لها عنوانا "لماذا حلم مستحيل" ففي هذه القصيدة نجدها تكرر كلمة ثلاث مرات بمضمون جديد كل مرة، والكلمة هي "خباتك"

ايها الغريب

خباتك حلما مستحيلا

لو رجعنا الى التراث العربي القديم لأدركنا ان للتكرار مهمة متشعبة الأدوار في فنون الشعر العربي وأُقدِّم ما وصل إلينا هو تكرار الحارث بن عُبَّاد لكلمة "قربا" :

 قربا مربط النعامـــــــة مني**** لقحت حرب وائل عن حيال

قربا مربط النعامة مني **** ليس قولي يراد لكن فعالي

او تكرار المهلهل ورفضه الصلح:

ذهبَ الصلح أوْ تردوا كليباً

أَوْ تَحُلُّوا عَلَى الْحُكُومَة ِ حَلاَّ

 

ذهبَ الصلحُ أوْ تردوا كليباً

أَوْ أُذِيقَ الْغَدَاة َ شَيْبَانَ ثُكْلاَ

وسنكتشف ان التكرار عند الشاعرة السيدة فاتن احتوى على جانب حماسي فالاقدمون الذين نستشهد بهم بخاصة المهلهل هدف من التكرار الى اثارة الحماسة والانتماء وعدم الرضوخ وسوف نجد ان هذا جانب من جوانب تكرار الكلمة الأساس في هذه القصيدة.

لدينا مدلول عريق في النص التراثي الفكري العربي. وهو كلمة غريب التي احتوتها الكلمة المتكررة خباتك. ان الغريب من حيث اللغة يعني الذي يعيش في بلد غير موطنه الأصلي يقول امرؤ القيس:

أيا جارتا انا غريبان هاهنا  وكل غريب للغريب نسيب

حيث نجد المكان هو الأساس في رسم الصيغة السلبية لمعنى الكلمة،وهناك بعد اخر في مواضع كثيرة تدل فيها كلمة غريب على المعنى الإيجابي فهو الأنقى والأفضل كما في الفكر المسيحي:

ايها الحبيب انت تفعل بالامانة كل ما تصنعه الى الإخوة والغرباء رومية٢ /١٣، عبرانيين١٣/٢

الا تنسوا اضافة الغرباء لان بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون عبرانيين ١٣/ ٢

ان الغريب هو النقي الذي يتجول في المدن والقرى وفق التفسير المسيحي لهذه الكلمة.

فالغرباءً هم ضيوف الرحمن هم الملائكة الذين زاروا النبي لوط وهم المبشرون بوحدانية الله والداعون الى السلام، وفي الدين الاسلامي نجد الحديث الشريف:

بدا الدين غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء. صحيح مسلم

ويسمي الناس الامام الحسين غريب كربلاء لا بالمفهوم المكاني فحسب بل بمفهوم الثورة والتضحية والفداء.

فالغريب الذي خبأته الشاعرة ليس شخصا عاديا انه يتمثل في حلم مستحيل وهنا لدي وقفة مع كلمة مستحيل فهي وفق المدلول اللغوي تعني المتحول لكن وفق المعنى المعاصر لها تدل على المحال الذي لا يتحقق وقد اشرت الى تحول تلك الكلمة في القاموس الذي عنونته "المنقلب والمتحول من الكلمات" وانا أميل الى ان نجمع في هذه القصيدة بين المعنين فاذا ما قصدت الشاعرة ان الحلم متحول فهذا يعني الغريب انتقل من صفة الى صفة اخرى ارقى وإذا ما أدركنا المستحيل هو المحال فإننا سوف نصبح بموازاة الغريب او بدرجته لانا سنتحول الى مشهدين بدرجتين ارقى كما يُبين ذلك تكرار خباتك تقول:

خبأتُكَ وطنا ثائرا

خبأتُكَ طفلا شقيا  

ان خبأ الفعل يحمل دلالات زمنية واسعة تمتد افقيا وعموديا وتتوزع على المرحلتين التاليتين فالفعل لا يعني الاخفاء

حين يعنى بالوطن بل يدل دلالة قاطعة على تبني الفكر والفناء في حب الارض والتزام القضايا المصيرية للأمة التي لا تتحقق الا عن طريق العنف بدلالة كلمة ثائرا وبندقية وقذيفة مثلما نقول الحسين غريب كربلاء وليلاحظ الفارىء الكريم كيف بدأت الشاعرة خباتك الاولى ببيان الحب والسلم والدعوة للسلام بالتوجه الى الغريب وكيف انتقلت في المرحلة التالية الى العنف المنطلق من الثورة اما المعنى الثالث في كلمة خبآ التي اسندتها الشاعرة الى نفسها اي ضمير المتكلم فقد اتخذت منحى جديدا هو التربية ان جملة خبأتك طفلا تعادل بالموازنة رعيتك وربيتك من الرعاية والتربية التي تحتاج الى جهد وصبر وتمكن من النواحي المادية والاجتماعية والاقتصادية.

واظن في الختام ان الشاعرة فاتن عبد السلام بلان من شواعر قصيدة النثر المتمكنات المبدعات فهي تكتب باخلاص ووعي وعن ثقافة واسعة بخاصة الفكر الصوفي النقي المعاصر الذي توسل بقصيدة النثر المعاصرة نحو آفاق ابداعية جديدة.

 

قُصي عسكر

..................

للاطلاع

لماذا..؟.. حلم مستحيل / فاتن عبد السلام بلان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم