صحيفة المثقف

أين موقع الجريمة في مخبر السوسيولوجية؟

علجية عيش (في البحث عن خطاب سوسيولوجي موحد)

إن الحديث عن الأنساق الثقافية يقود إلى تجديد النقاش عن "المثقف" ومحنته في عالَمٍ اتسم بالجريمة، ليس في علاقته مع السلطة فقط، لأن الأمر من منظور العولمة تجاوز حدود هذه العلاقة، وقد ساهمت الصراعت السياسية والنزاعات الداخلية في تفشي العنف والجريمة المنظمة، حتى سلوكات الأحزاب سواء كانت يمينية أو يسارية اتسمت بالعنف، عن طريق دفع الرشاوي أو تجنيد مرتزقة لإحباط كل ما هو بنّاء، مثلما نشاهده الآن في الساحة السياسية، والنتيجة أن جل البحوث الإجتماعية عن الجريمة باءت بالفشل

الإجرام والجريمة قضية العصر، وإن كانت متجذرة عبر التاريخ ونشأت مع بداية البشرية، وبالتحديد مع أبناء الأنبياء، ودون ذكر تفاصيل الأحداث وتوسعها، بداية من قصة قابيل وهابيل، ثم قتل النبي موسى لليهودي، ومحاولة قتل النبي يوسف على يد إخوته، ثم قتل علي بن أبي طالب والحسين حفيد الرسول (ص)، تبين بشاعة الموقف وبداية ضياع الإنسانية،و قد حدثنا التاريخ عن تطور الجريمة، خارج الحروب، ليس في القتل فقط، بل توسعت وتطورت إلى زنا المحارم وهي واحدة من الجرائم التي شهدها المجتمع المسلم، وبغض النظر عن الجانب الديني في هذه المسائل ورأي الإسلام والديانات الأخرى في مسألة القصاص، فالجانب الإجتماعي له دور كبير في فك خيوط الجريمة وأسبابها وطرق علاجها ومحاربتها، بل كيفية اقتلاع جذورها، ولا يسع هنا الحديث عن مختلف النظريات التي تأسست في هذا الشأن والتي عالجت الجريمة بمختلف أشكالها: (الإرهاب، القتل، الإختطاف، الإغتصاب، الإعتقالات والإغتيالات السياسية، تقييد حرية الفكر والتعبير وحبس الصحافيين، المتاجرة بالمخدرات، الإنتحار، تهريب الفتيات واستغلالهن في الدعارة، والمتاجرة بالأعضاء البشرية، دون أن ننسى الحروب وتطور الأسلحة النووية المدمرة وغيرها من الأمثلة).

 فالإستعمار وحده يُعَدُّ أخطر جريمة تهدد الشعوب، حتى الفقر والمجاعة تعد جريمة ضد الإنسانية، ولم تستطع القمم العربية والمؤتمرات العالمية التي دعت إلى محاربة العنف والتطرف، من تحقيق أي نتيجة، في ظل استمرار الصراع في فلسطين والعراق وسوريا، في السودان، وفي الصومال وفي مالي وليبيا، والنزاعات التي مزقت الشعوب، وما فعلته الحروب الأهلية بين الفصائل المتنازعة على السلطة، كل هذه الجرائم لابد أن تخضع للتحليل في مخبر السوسيولوجيا، وإعطائها دفعا علميا، والغوص في الزمان التاريخي للجريمة وكيف تطورت، و تحديد المسؤوليات، ورسم لوحة تعبر عمّا يعيشه المجتمع من قضايا وإشكاليات، ونشير هنا أن الحلول القانونية ساهمت في تطور الجريمة، فالحكومات ترى في بناء السجون الحل الأمثل، لكن في الواقع حشر المجرمين في سجن واحد زاد من ارتفاع الجريمة، حتى أن تسليط العقوبات على المجرم لم ينفع في محاربة الجريمة، بدليل أن المنظمات الدولية فصلت في مسألة "الإعدام" مثلا في إطار حقوق الإنسان، وصادقت عليها كثير من الدول ومنها الجزائر، وأصبحنا نسمع عن سجون هي عبارة عن فنادق بخمس نجوم، ولم تؤت الفتاوى واجتهادات العلماء في مسألة حكم الإعدام (القصاص) ثمارها ولم تجد لها حلا بعد، بسبب الإيديولوجيات المتضاربة.

 كما أن العولمة عملت على إعادة تشكيل البنية الطبقية للمجتمع، مجتمع حقق نوعا من الحداثة، لكنه ما زال يبحث عن نفسه في ما يخص معاييره وقيمه ورموزه، وأصبح يعيش الفراغ الديني، الفكري، الثقافي، السياسي، بل يعيش أزمة المعنى وأزمة الوجود، مجتمع متسم بتراخي الروابط الإجتماعية، هي مأساة يعيشها إنسان اليوم، هذه المأساة أطلق عليها اسم "الآخرية"، أي كيف نرسم صورة الأنا والأخر في مجتمع مُعَوْلَمٍ؟ كلما تغيرت السياقات التاريخية الثقافية والسياسية والدينية، نعم الدينية أيضا، فظاهرة "الإلحاد" وتعدد الفتاوى وبالخصوص فتاوى الجهاد" في المجتمع المسلم تجاوزت حدود المنطق واخترقت كل الحواجز والخطوط الحمراء، وظل الصراع بين الأنا والآخر في تواصل مكثف بحكم التطور الثقافي، والتكنولوجي وظهور مجتمع الإنترنت، أو بالأحرى مجتمع الفايسبوك والتويتر، حيث صرنا نبحث عن مجالات حضور الآخر عندنا وكيف نرى صورتنا عبر الآخر، وماهي الفكرة التي أخذها عنّا، بل ماذا يقول عنّا ؟.

إن الحديث عن الأنساق الثقافية يقود إلى تجديد النقاش عن "المثقف" ومحنته في عالَمٍ اتسم بالجريمة، ليس في علاقته مع السلطة فقط، لأن الأمر من منظور العولمة تجاوز حدود هذه العلاقة، وقد ساهمت الصراعت السياسية في تفشي الجريمة، وأصبحت سلوكات الأحزاب سواء كانت يمينية أو يسارية تتسم بالعنف، عن طريق دفع الرشاوي أو تجنيد مرتزقة لإحباط كل ما هو بنّاء، مثلما نشاهده الآن في الساحة السياسية، والنتيجة أن جل البحوث الإجتماعية عن الجريمة باءت بالفشل، وقد ذهب أحد المحللين الإجتماعيين إلى أبعد من ذلك، عندما تناول سياسة الإستشفاء عند بعض الحكومات، وغياب الحكم الراشد في تسيير الشأن العام، حيث نقرأ أن إحدى المقاربات الإنتروبولوجية تناولت ثقافة الدّواء في بلد عربي، وكشفت أن بعض صناع الأدوية يعمدون إلى تسميم البشرية من خلال وضع مواد سامة في الدواء الموجه لعلاج الأمراض وتسويقه للدول المسلمة، كذلك بالنسبة لمواد التجميل (العطور) وهي جريمة ضد الإنسانية بل تهدد وجودها وبقائها .

 الأمثلة كثيرة ومن الصعب حصرها هنا، والسؤال الذي وجب أن يطرح هنا هو : هل الأمر متعلق بتغيير الأنساق الثقافية وقدرتها على تغيير سلوك البشر، بل تغيير الذهنيات ووضع حد للأفكار السلبية، الأفكار القاتلة؟، وكل ما يتعلق بالمعتقدات والقيم والمفاهيم السائدة حول طقوسية العيش في محيط سليم؟، إن تحقيق "السّلام" في مجتمع ما، يتطلب محاربة الجريمة والجريمة المنظمة، والقضاء على العنف والفساد، وتحقيق المواطنة الحقيقية la citoyente لبناء مجتمع سليم، خالٍ من الأمراض الإجتماعية، هي تساؤلات تخص مستقبل علم الإجتماع وتحديد المفاهيم، والبحث عن خطاب سوسيولوجي موحد، لأن أغلب القضايا يطرحها من هم خارج الإختصاص، مما أدى إلى فشل سياسة حسن الجوار ومعالجة المشاكل بالوسائل السلمية والتعاون الإيجابي لإنهاء أشكال العنف والعداء كافة.

 

علجية عيش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم