صحيفة المثقف

احتكارُ النجاةِ

عبد الجبار الرفاعيوردَ حديثُ الفرقةِ الناجية في الإسلامِ في السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ؛ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنِّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَلَفْظُهُ: "افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً"[1]. واستلهمه أكثر المتكلمين في تشييد أسسِ انحصارِ الحقّانيةِ والنجاةِ بمعتقداتهم، وكلٌ يسعى لاحتكار ذلك للفرقةِ الناطق باسمها.

وفي فضاءِ انحصار الحقّانية والنجاة تم رسمُ صورةِ الإله القومي والمذهبي والطائفي. الإلهُ القومي هو إلهٌ لجماعةٍ بشرية تنتمي لإثنيةٍ معيّنة، والإلهُ المذهبي والطائفي هو إلهٌ لجماعةٍ بشرية أو مذهبٍ أو طائفةٍ خاصة، فهو ينشغلُ بها من دون غيرها من الناس، ويهبها كلَّ شيء، ويحرم غيرَها من كلِّ شيء، ويتساهل معها فيقبل منها كلَّ شيء مهما كان يسيرًا، ولا يقبل من غيرها كلَّ شيء حتى لو كان كبيرًا، وذا أثرٍ عظيمٍ في إسعادِ البشرية. إنه إلهٌ متحيّزٌ لهذه الجماعة دائمًا، لا يعنيه غيرُها من البشر مهما كانت إبداعاتُهم وآثارُهم في تطوير وسائل العيش وتأمينها، ومهما كانت منجزاتُهم وأعمالُهم في صناعة ِعالَمٍ أجمل لحياة الإنسان.

إن هاجسَ المتكلّم هو إثباتُ حقّانيةِ مقولاتِه الاعتقادية، وانحصارِ الحق فيها، والمحاججةُ لدحضِ الحقِ والحقّانيةِ عمَّا سواها. وتشكِّل هذه المقولات بمجموعها منظومةً اعتقاديةً واضحةَ الحدود، على نحوٍ يمكن الاستنادُ فيه إليها بوصفها معيارًا للتعرّف على كلِّ ما يقعُ داخلها، ونفي كلِّ ما يقعُ خارجها.

ولما كانت المنظومةُ الاعتقاديةُ تتألفُ من رؤيةٍ للعالم، وتصوّرٍ مصوغ بعناية لصورةِ الله، ونمطِ علاقة الإنسان به، وكيفيةِ الارتباط معه، فإنها تصيرُ مرجعيةً تنتظمُ في سياقها مدونةٌ فقهيةٌ ترتسم فيها أشكال العبادات والمعاملات والمواقف الحياتية للفرد والجماعة، على نحو تتطابق فيه وجهةُ المدوّنة الفقهية مع ما تؤشّر إليه المنظومةُ الاعتقادية. وترى بعضُ المذاهب، خاصّة السلفية، أن كلَّ ما هو خارج عنها من آراء وفتاوى اجتهادية في العبادات هو مروقٌ وابتداع.

وعادة ما يُحكَم بالمروق على كلِّ من يتبنى معتقدًا خارج الصور النمطية الراسخة لله عند الفرق الكلامية، في حين تكون النجاةُ في الآخرة هي المآلُ الطبيعي لأتباعِ هذه المنظومة الاعتقادية.

ولما كان منطقُ التفكير في علم الكلام يبتني على المنطق الأرسطي، فهذا يعني أن نظريةَ المعرفة في علم الكلام لا تقول بنسبية المعرفة، لذلك لا يرى المتكلمُ إلّا وجهًا واحدًا للحقيقة الدينية، ينحصر الوصولُ إليه بطريق خاص، وهذا الطريق هو ما يرسم إطارَه الفهم المغلق للنصوص الدينية، وما ينتجه من مقولات للمتكلم تبني هيكل معتقدات فرقته، التي هي "الفرقة الناجية" دون سواها.

إن تأويل النصوص الدينية يبتني على نسبية المعرفة، ومن دون تأويل النصوص لا يمكن أن يتنوع فهمها، تبعًا لتنوع فهم المتكلمين وأزمنتهم. وكثيرًا ما يقود الفهمُ المغلق إلى تكفير المختلف في المعتقد، عندما يفضي تأويلُه لآيات القرآن إلى فهمها بنحوٍ لا يطابق هذا الفهم المغلق على معنى واحد نهائي.

وأحيانًا يقود تنوعُ العبارات وتعدّدُ فهمها ليس للتكفير فقط، بل والحكم بالقتل أيضًا، وهو ما حذّر منه واستهجنه بعضُ الأعلام بشدّة، حتى اصطلح على من تنتهي مصائرهم إلى أن يكونوا ضحيةً لذلك بـ "قتلى العبارات"، إذ يقول: "لا يلعبّن بك اختلاف العبارات، فإنه إذا بُعثر ما في القبور، وأُحضر البشر في عرض الله تعالى يوم القيامة، لعلّ من كل ألفٍ تسعمائة وتسع وتسعون يبعثون من أجداثهم، وهم: قتلى العبارات، ذبائح سيوف الإشارات، وعليهم دماؤها وجروحها، غفلوا المعاني فضيّعوا المباني"[2].

لقد أسرفَ متكلمو الفرقِ في الإسلام بتكفيرِ من لا يعتقدُ معتقدَهم، ولم تتخلصْ أيةُ فرقةٍ من تورّط بعضِ متكلميها في تكفير المختلف، وإن كان ينتمي للفرقةِ ذاتها، إن اجتهدَ فتخطى الحدودَ المرسومةَ للاعتقاد، حتى المعتزلة، الذين اشتهروا بأنهم ممثلو العقلانية في الإسلام، تورّطَ بعضُ متكلميهم بالتكفير. يقول أبوحيان التوحيدي: "إن الجبائيين المعتزليين، أبا علي[3] – أستاذ الأشعري – وابنه أبا هاشم[4]، لم يكن أحدُهما يتورع عن قذف الآخر بالكفر. كما أن أختَ أبي هاشم، لم تكن، هي الأخرى، تتورّعُ عن إلصاق نفس التهمة بأخيها وأبيها معًا"[5].

وحاول المتكلّمون التوكؤَ على المدونة الحديثية في خلع المشروعية النصّية على مقولاتهم لتبرير موقفهم الاعتقادي، إذ تداولوا مروياتٍ نبويةً تتحدّث عن الفرقة الناجية والفرق الهالكة، وشاع في آثارهم حديثُ الفرقة الناجية الذي أوردناه في ما سبق[6]. واعتاد مؤلفو الفرق أن يبدأوا كتبَهم بحديث افتراق الأمة، بهدف تبريرِ حقَّانية الفرقة التي ينتمون إليها، وبطلان ما سواها من الفرق الأخرى. وهو حديثٌ موضوع يؤكّد أن الفرقةَ الناجيةَ دائمًا واحدةٌ، أي إن هناك فرقةً معينة هي من تحتكر النجاةَ لنفسها، والهلاك لما سواها. الخلاصُ دائمًا نصيبُ فرقةٍ واحدةٍ لا تتعدّد. والعذابُ نصيبُ عشراتِ الفرق الأخرى غيرها، مهما كانت اعتقاداتُها واجتهاداتُها.

وبمرور الزمن تفشّى لاهوتٌ صراطي في التفكيرِ الكلامي، لا يقبل في دائرةِ الإيمانِ والنجاةِ إلّا الفرقةَ الناجية، في حين يُخرج كلَّ فرقةٍ أخرى غيرها من دائرةِ الإيمان، ولا يمنحها حقَّ النجاةِ مهما كانت اعتقاداتُها واجتهاداتُها. وبذلك سقط حقُّ كلِّ إنسان في أن يعتقدَ بما يراه حقًا، وتم تعطيلُ دلالةِ آية: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"[7]، وغيرها من آيات قرآنية [8]،  لصالحِ انحصارِ الحقّانيةِ والنجاةِ بفرقة واحدة. ولم يعبأ المتكلّمون بحقِّ الناس وحريتِهم في الاعتقاد. بالرغم من أن الاعتقادَ لا يمكن التحكّمُ به من الخارج؛ لأنه أمرٌ باطني خارج وسائل المنع والردع والإكراه[9]. ما يمكنُ التحكّمُ به هو التعبيرُ عن المعتقد.

وفي لاهوتِ يحتفي بكرامة الإنسان ويحمي حرياتِه وحقوقه، فإن حمايةَ السلم المجتمعي تفرض منعَ التعبير العنيف عن المعتقد، بوصف هذا الضرب من التعبير اعتداءً على حياةِ الفردِ والمجتمعِ، سواء كان ذلك التعبيرُ جسديًا أو لفظيًا أو رمزيًا.

لكن بموازاة تخندق التفكير الكلامي في قوالب المنطق الأرسطي، تحرّر تفكيرُ التصوف الفلسفي من تلك القوالب الصارمة، فتغلّب عليها وصار يفكّر خارجها بحرية لا تسمح بها قواعدُ هذا المنطق ومقولاتُه ومحاججاتُه وأدواتُه. وانفردت كتاباتُ محيي الدين بن عربي وأمثاله في أنها فتحت آفاقًا للتأويل تتخطى الفهمَ الحرفي المغلق للنصوص الدينية. وذلك يحيل إلى أن نظريةَ المعرفة في التصوّف الفلسفي تبتني على نسبية المعرفة، وهو ما يسمح لها أن تقدّم فهمًا مختلفًا للتنوع والتعددية في الأديان، بوصفها تجلياتٍ مختلفةً للحقيقة الدينية، وصورًا متنوعةً لوجوهها، وأساليبَ متعددة للتعبير عنها. وعلى أساس مفهوم المعرفة الدينية هذا خلص المتصوفةُ للقول بتنوع طرق الوصول إلى الله، وهذا هو معنى الاعتراف بحقّ الاختلاف في المعتقد، الذي هو أساس قبول التعددية الدينية والعيش المشترك.

لم يحتكر التصوّفُ الفلسفي النجاةَ ولم يختصّ الخلاصُ في رأي أعلامه بديانة أو فرقة أو مذهب أو طائفة أو جماعة، وهذا ما نراه في آثارهم، إذ لا نقرأ في مدونةِ التصوّف الفلسفي مواقفَ وكلماتٍ تنصّ على تكفير المختلف في العقيدة أو فتاوى تسوّغ قتله. حتى ان ابنَ عربي يستهجن عمليةَ التكفير ويصنّفها بأنها ردٌّ على كتاب الله، وضربٌ من التحجير على رحمته، فيقول: "إن ذلك ردّ على كتاب الله وتحجير على رحمة الله أن تنال بعض عباد الله"[10].

إن الاختلافَ في تصورات الإنسان عن الله ينتهي لا محالة إلى تعدّد الأديان وتنوّع الطرق إليه. إن صورةَ الله هي أولُ ممارسةٍ تأويليةٍ اجترحها البشر، إذ نحتَ أولُ البشر على صورتهم صورةً لله، ثم استمر بنو آدم يصوّرون اللهَ على وفق صورهِم المتنوّعة، المنتزَعةِ من عوالمهم المختلفة. بنو آدم لا صورةَ نهائية يصلون إليها، لذا فإن اللهَ لا صورةَ نهائية له. وعلى الرغم من أن الإنسانَ كائنٌ متناهٍ غير أن تأويلَه لا يتوقّف ولا ينتهي. ويظل الإنسانُ في مسعى أبدى للعثور على صورة أخيرة لله، وهو لا يدري أن كنهَ الله وحقيقته لا يعرفها إلّا الله، يقول ابنُ عربي: "لا يعرف الله إلّا الله"[11].

 

عبدالجبار الرفاعي

.............................

 [1] يقول ابن تيمية في الفتاوى: "الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ؛ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنِّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ".

[2] شمس الدين السهروردي، تواريخ الحكماء والفلاسفة، تحقيق وتعليق: أحمد عبدالرحيم السايح، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1991، ج2: ص209.[2]

[3] أبو علي الجُبّائي، محمد بن عبد الوهاب، والجُبّائي نسبة إلى جُبّى التي ولد فيها، وهي من مدن خوزستان "235 – 303 هـ". [3]

[4] أبو هاشم الجُبّائي، عبد السلام بن أبي عليٍّ محمَّد بن عبد الوهاب الجُبّائي "275 – 321 هـ". [4]

[5] أبو حيان التوحيدي. البصائر والذخائر، تحقيق: وداد القاضي، بيروت، دار صادر، ج7: ص 249. [5]

[6] يرى بعضُ الباحثين أن حديثَ افتراقِ الأمة من الأحاديثِ الموضوعةِ في فترة متأخرة عن عصر النبي. أنظر: عمر بن حمادي. "حول حديث افتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة".  الكراسات التونسية، ع 115 - 116، 1981

[7] البقرة، 256.

[8] مثل: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، الكهف، 29 ، و"كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ"، المدثر، 38. و"لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً"، و"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"، المائدة، 48، 105، و"وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيؤُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ"، يونس 41، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، يونس 99. [8]

[9] تكررت 267 مرة في آثار ابن تيمية فتوى: "فإن تاب وإلّا قُتِل". وقد وردت في موارد متنوعة، فمثلًا يقول: "الرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يُستتاب فإن تاب وإلّا قُتل". ابن تيمية، مجموع الفتاوى، الجزء 3، ص 429 . وورد الكثير في آثاره من أمثال هذه الفتوى.

وقد نبّهنا أكثر من مرة الى أن بعض هذه الفتاوى لا ينفرد فيها ابنُ تيمية، بل يفتي بها فقهاءُ من مختلف المذاهب الإسلامية. لكن جهلَ أكثر من يتحدثون عن الاسلام بالمدونة الكلامية والفقهية، أو تجاهلَ من يعلم منهم بذلك، يجعلهم يصرون على تبرئة تراث فرقتهم ومذهبهم خاصة.

وننوه إلى أن تكرار إشارتنا إلى ابن تيمية وفتاواه وآرائه، ليس بمعنى تفرّده بهذه الفتاوى والآراء، بل لأنه يمثل المرجعية الأكثف حضورًا اليوم في أدبيات الجماعات التكفيرية، واعتمادهم فتاواه وآرائه في سلوكهم الذي يرفض العيش المشترك مع المختلف في الاعتقاد، وشرعنة الفعل العنيف في التعامل معه.

10-  ابن عربي، الفتوحات المكية، باب 50، ج2، ص100.[10]

11- ابن عربي، الفتوحات المكية، باب 50، ج2، ص96.[11]

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم