صحيفة المثقف

ندى أعشاب البحر

قصي الشيخ عسكروندى أعشاب البحر لاتسمع لأي منهم صرخة أو آهة وكان كل منهم من قبل في معسكر الترويض يتجاهل الآخر .. دمى .. دمى يقلبها موج البحر على رؤوسها فكيف ياترى زعق أحدنا ذات يوم بوجه الحراس فقيل إنه حدثهم بالروسية ثم اتفق معهم على أن ندفع رشاوى لهم عبر مهربين صيادين زاروا المعسكر ثم هو الوحيد الذي صرخ بوجه الحراس والزورق كاد ينقلب وسط حقل مغناطيسي فهمّ الحرس أن يطلقوا علينا النار. هل كان ذلك حقيقة عشتها أم مجرد أحلام بغيضة وخيالات عابرة .من الطبيعي أن أعيش في معسكر قاس أشرفت عليه إدارة " تالين" معي عوائل تغتصب .. فتيات .. أضواء ساطعة ساخنة في الليل. عوائل .. عزاب .. أنا واحد منهم .. نتبادل التحيات الصباحية يزور أحدنا الآخر. نقف صفا طويلا أمام دورات المياه. نقيم علاقات مع مهربين يتصلون في المعسكر بعلم الحراس. طفل يبكي يطلب من أمه قطعة شيكولاته .. الحارس يمنعها من الذهاب إلى مركز المدينة. فتاة عذراء ذات لون اسمر داكن ترشي الحارس لكي يبتاع لها من المدينة ملابس داخلية ذات خصوصية . الصومالية التي يقال إنها اغتصبت سمعتها تهمس للإيرانية أن الحارس سمح لها بالذهاب إلى المدينة فبحثت عبثا في كل المحلات عن محارم للدورة الشهريّة ولعلي سمعت صوتا شجيا حنونا يغني صاحبه أغنية من الجنوب بنكهة أقرب ماتكون إلى الكردية أو الآثورية:

ياصاح عودي ذبل وبكل دوا مايصح

والدمع سال وجره من ناظري مايصح

لاتنهضم على السبع لو صار علفه تبن

من حيث حتى التبن أكل السبع مايصح

ثم أدركت بعد شهر من بقائنا في المعسكر أننا تبلدنا .لم يعد أحدنا يعرف الآخر. هل يعقل إننا دخلنا المعسكر بحدود سبعين لاجئنا فلم يجرؤ أي منا على فتح أي حوار مع صاحبه .. خرس .. بلهاء .. وجس .. ريبة.في الحرب يتلاشى من روحك الخوف .. هي العشرة التي تطرد الريبة والكره والرعب .. هنا انعدمت الثقة تماما .. نفر أحدنا من الآخر .. وتشبثنا بأسماء وكنى لم تكن خلقت معنا بل رغبنا فيها منذ اللحظة التي عبرنا فيها الحدود .. صرنا لانشعر بالعطش والجوع سوى الوله إلى الرحيل إليك أيتها الدول الاسكندنافية، والحنين إلى ترابك .. لاأدري كم لبثت غائبا عن الوعي ولم يصدر عن الآخرين أي صوت فاقتنعت أنهم كانوا مثلي في غيبوبة كان الكهل وحده هو الصاحي الخائف الوحيد فينا يتمتم بكلمات مبهمة بين العربية والروسية لاأحس لها طعما .. وكان البحار العملاق الشرس يفتح الكوة كل نصف ساعة فنستقبل هواء لاندري ماطعمه سرعان ما تلتهمه قبلنا رائحة شبكة الصيد وبقايا أشنات البحر العالقة تحتنا .. منذ تلك اللحظة ياصديقي سميتك وسميت كل من ألقاهم فيما بعد وفق أهواء البحر وحالاته ومزاجه. هكذا فرض علي البحر شروطه .. نحن بعض من مزاجه، سكره والصحو .. كل الذين قابلتهم في السويد بعد أن تحررت بالرشوة أحيانا والتذلل والتملق من قبضة الحرس اللتواني الحديدية أطلقت عليهم أسماء مركبة. لاتعجبني الأسماء المفردة.عمي الوحيد هو من أغير اسمه كل ساعة بل كل دقيقة ولم أستقر له على اسم لحد الآن. ظاهرة محيرة في هذا الزمان المليء بالفوضى والمتناقضات .. وسوف أطلق علي اسما مركبا استقر عليه مدى الحياة فهذه هي الليلة الأولى التي أستطيع النوم فيها هادئا وكانت حبة منوم وصفها لي الطبيب كافية لتجعلني أستسلم لليل وأنقاد له مع ذلك سمعت طرقات عنيفة يكاد لها الباب ينخلع وشخصا يزعق:

- الصلاة خير من النوم! الصلاة!

- الصلاة خير من النوم. استفيقوا ياعباد الله!

الصلاة؟ كيف عرف ذلك الشخص ذو اللحية الكثة والجلباب القصير الذي يقرع الأبواب ويزعق الصلاة أني مسلم. ربما أكون مسيحيا أوصابئيا .. أبي رأيته يصليّ .. أمي تستيقظ مبكرة لئلا تفوتها صلاة الفجر .. لم يجبراني قط على الصلاة. .. كنت بنظرهما طائشا مراهقا سوف يأتي اليوم الذي أصلي فيه. قلت للمحققة الجميلة هناك في المعسكر السابق منعوني خلال الليل من النوم بإنارة ساطعة بعثت الحمى في رأسي ثم اكتشفت أن هؤلاء الذين استجاب الصليب الأحمر لرغبتهم فترك لهم غرفة خشبية في طرف المعسكر يمارسون فيها طقوسهم كانوا يقرعون عليّنا الأبواب عند الفجر وينادون الصلاة يا أهل المخيم الصلاة .. الصلاة خير من النوم وأقسم أني لم أر أحدا في معسكر الإعتقال الأول يصلي .. .لكني لابد أن اسخر منهم.حتى"لاحق السراب" صديقي أخفيت عنه الخبر.موجة الإيدز الجديدة ساعدتني على تنفيذ مخططي الجهنّمي.التقطت حفنة من القضب المطاطية مانعات الحملcondom .. وضعت في كلّ واحدة بعضا من الحليب ثمّ تسللت إلى المكان الذي جعلوه مسجدا لهم .. هناك رميت حفنة الموانع في ساعة متأخرة من فجر ذلك اليوم راقبتهم من بعيد .. رأيتهم يكنسون ويشطفون ويمسحون.كانوا يظنون بعضا من السويديين العبثيين دخلوا المسجد سرا ومارسوا فيه.لست مجنونا لأواجههم مثلما فعل المجنون مع خاله.إذا كان ولابد من أن أعيش في وقت واحد في بلدين فلأفعل كثيرا من الأمور خفية أو أراجع القضايا بالمقلوب كما أنا الآن ثم إني لما اختر لي اسما.من دون اسم يمكن أن أرتكب أغلاطا وجرائم متعددة لا تُنسَب لأحد أو تُتهمُ بها البشرية جمعاء:

- لكنك دخلت المنطقة الحرام وواجهت الموت.

- هل تصدق ذلك؟

- ولم لا أصدقك.

كنت غبيا عندما ارتكبت تلك المغامرة علنا ليقال عني شجاع فأحصل على مكاسب .. ذلك حدث قبل أن يمتحنني البحر .. كثيرون يعدون مقابلة الدكتاتور أشبه بالمحال كذبة اختلقتها محاولا التطاول ومعاشرة الوهم أما صديقي لاحق السراب فيقول إن الحرب الشرسة التي دامت ثماني سنوات واستخدمت فيها أسلحة فتاكة تبدو أسلحة الحرب العالمية الثانية مقارنة بها بدائية .. أربعون سنة من التطور، تلك الحرب غيرت بعض الحسابات .. انفلات في التقاليد المتزمتة .. العبثية .. عدم المبالاة .. لم يكن من عادتنا أن يموت أحد في بيته فلا يوقض الجيران إلا رائحته العفنة التي أبت إلا أن تهيج بعد أيام والأهم أنها زرعت في عقول العراقيين أوهاما كثيرة تصوروها حقائق لاتقبل الجدل ربما يلمح إلى مغامرتي والحق كنت مراهقا .. ولو دار الزمن وأنا متأكد من أنه سيدور مرة أخرى فإنّي الآن لاأفعلها:

لكني أجبر نفسي على الذهاب إلى "لاحق السراب"، فأقرأ وأنا في القطار عن جريمة الصباح.هؤلاء الإسكندنافيون يعدونها مهزلة.نوعا من الجنون.الخيانة عندهم تنتهي بالطلاق أو الاعتذار .. أحب شخصا آخر .. وقعت في غرام امرأة أخرى غيرك. ننفصل ونبقى أصدقاء .. لاغل ولاحقد. أي منا يحترم الآخر .. ربما يقال الحياة لاطعم فيها لأني بدأت من النهاية. عامل الإثارة يزول .. يتلاشى يصبح محالا من دون إثارة وغموض.الحياة مملة إذا عرفنا ماذا يحمل قادم الأيام لنا سلفا غير أني لاأجد مللا بل ازددت نشاطا وانا اتجه للمستقبل المألوف الذي لاأستطيع أن أغيره. لو ولدت هنا أو على أقل تقدير جئت وأنا طفل .. لأدع الإسكندنافيين يضحكون منّا حين نتحدث عن العار وغسله، وغشاء البكارة والدم .. يتهموننا بالجريمة والتطرف ويضعون بين أيدينا غرفا للصلاة.لو عشت معهم سنين وتداخلت فيهم لما عرفت كلّ خفاياهم.بين حين وآخر يتحدثون عن جرائم العديد منها يخص الشرقيين.يدّعون أنّ السويد تشهد كلّ خمسة عشر عاما جريمة قتل عالَم ٌمثال انهالت عليه حوادث العنف بقدومنا نحن الآسيويين.المفروض حسب مقياس الزمن الاعتيادي أن حادث موتي ومن قبل تهجمي على خطيبتي في الشارع وبعدها مداهمة عشيقها المزعوم في كافتيريا حورية البحر هي آخر انباء الفضائح والموت.ليس غريبا بعدئذ أن أقصد منزل صديقي "لاحق السراب" لاستشيره عن قلق كاد يفتك بي ولأعترف أيضا أن صديقي عانى ذات يوم بداية مجيئه إلى السويد من أزمة كادت تعصف به.كان يدرك أن الرجال الشقر بعد بلوغ الاربعين يصبحون تجارة بائرة ولا منفذ أمامهم سوى أن يغادروا إلى شرق آسيا تايلند .. الفلبين .. الهند .. .فيعودون بصحبة زوجات من هناك يبقين مخلصات لهم كل ذلك تجاهله وحين وعى- قبل أن يخط الشيب فوديه - طلب من والده تدبير أمر عروس له، فأحضر الرجل ابنة أخيه.كانت أخت "لاحق السراب" زوجة أخي العروس كما يفعل الشرقيون بالضبط.كان يعيش في بلدين بوقت واحد ولايفكر باختراع آلة تقفز به من عمر الثلاثين فجأة إلى الثمانين وتعود به في جولة من الموت ليصبح ماضية مستقبلا بالضبط كما التف ذلك المجرم من خلف جسد خاله محاولا خنقه:

- والله أنت عجول .. منذ البداية قلت لك إنك ستقابل رجلا يهمه جدا أن يزوج ابنته من شخص يجسد طبيعته هو يرى فيه شخصه .. شخص له القدرة على أن يكيف نفسه .. يربيه وفق هواه كما ربى ابنته وقد قبلتَ بهذه الشروط وفق هذا المبدأ رفض والدها خطبة عربي تقدم لها قبل سنة ثم طرد شابا عراقيا يقال إنها أعجبت به مجرد إعجاب أو لنفرض أنها أحبته، لنفرض قبلها تلك ليست جريمة لكن سيد البحر عمك كما تسميه ارتآى أن تذهب هي وأمها إلى القاهرة حيث بقيتا شهرين ومن هناك لفتا العالم ثم عادتا إلى السويدوكأن أمرا لم يكن!

- لكن لِمَ تظن والدها طرده؟

- يا أخي شاب ضائع يصادق الفتاة اليوم ويتركها غدا ثم لاتنس أن عمك ذكي حساس يقرأ الافكار والهواجس ولا شك أنه شعر بطمع من الطرف الآخر ولا أخفي عليك شيئا يبدو أن الشاب استمال الفتاة ولاتنس أنها مراهقة دلوعة صغيرة السن.

- هل تعرفه؟

- نعم أعرفه جيدا عمك نفسه سألني عنه بحكم وظيفتي التي تجعلني اطلع على سلوك الكثيرين فأجبته جوابا مبهما وهو ماشاء الله يفهم الكلمة فتأكدت شكوكه حول ذلك الشاب!

- ولم رفض العربي؟

- هو شاب من أب مصري وأم مغربية ذو طموح آخر كان يرغب أن يحصل على شهادة الدكتوراه في علم الجيولوجيا وينصرف إلى البحث والتدريس الجامعي وأظنه الآن في جامعة استوكهولم أما عمك فيريد لابنته وصهره أن يبقيا معه في عمله ليستلماه حين يعجز عنه!

- مع ذلك فاتخاذ قرار هنا بهذه الصورة مغامرة غير مضمونة إذ بإمكان الفتاة أن تذهب هي والآخر إلى دائرة البلدية فتتزوج غصبا عن الأب.

فقال وهو يهز كتفيه:

- لاأنكر أن هناك عراقية فعلتها يقال إنها حفيدة أحد كبار رجال الدين والأدهى إنها متزوجة ذهبت إلى البلدية مع عشيقها فوفروا لها الحماية هذا حدث قبل أن تأتي بثلاث سنوات " وأضاف وهو يزدرد ريقه بمرارة"تستطيع الاطلاع على الحادث إذا مارجعت إلى أرشيف الصحف بخاصة صحف الفضائح!

- وماالذي يمنعها من أن تذهب إلى البلدية وتفعل ماتفعله الأخريات!

- محال حتى لو أعجبت بأي شاب فإن المليونير الكبير الديمقراطي في الظاهر الديكتاتور حقا صاغ سلوكها وشخصيتها وفق طباعه يدعها تترك لعواطفها العنان فلا يتدخل إلا في آخر لحظة .. اللحظة المناسبة، ثم أنه لم يبخل عليها بالمال كل مافعله أنه عبّأ جيب ابنته بالنقود وقال لأمها خذيها إلى القاهرة لفِّي بها العالم ثم عودي بعد ثلاثة أو أربعة اشهر خمسة .. وأظن أن البنت نفسها قد تندفع أحيانا لكنها سرعان ماتتراجع وترضخ لأي توجيه من والدها!

 إنها حقا مغامرة حلوة أستطيع أن أخوضها .. هكذا ظننت .. غير أن المشهد الأخير فاجأني .. قلب جميع الاحتمالات رأسا على عقب .. ويبدو أني لم أكن مستعدا بما يكفي .. الشيء الذي غاب عن ذهني أن عمي " حوت البحر " يقول إنها تعمل في شؤون الرعاية والشاب الذي كان يتأبط ذراعها معاق ذهنيا، وصديقي الكردي الفيلي لايترك مجالا للشك:

- محتمل محتمل جدا

- لم تخبرني من قبل أنها متطوعة في دائرة الرعاية.

- قد تكون نسيت وربما رأت الأمر غير ذي ضرر هنا ينظر السويديون إلى التطوع في الخدمة الاجتماعية عملا يستحق التقدير والاهتمام.

- لم إذن لم تخبرني؟

- ولاعمك؟

- أبدا. كان الأمر مفاجئا لي.

- ماذا تقصد؟

رغبة تتلجلج في صدري . كان على عمي أن يعالج الحادثة بأسلوب هاديء يبعد عنه الفضائح.لم يكن ليقبل قط أي شخص يتمرد عليه سواء ابنته أم من ترتبط به في المستقبل.ولعله أدرك ذلك في الشاب الذي تقدم قبلي فرفضه وإن كانت ابنته زيزفون البحر ترغب فيه.وقد يكون شعر بعلاقة ما تربطها بسويدي فغض النظر إلى حين .. كان يراقب كل شيء ويعي مايدور حوله، ومن خلال عملي عنده في المحل عرفت مدى روح الانتقام فيه تلك التي تبدو للآخرين طيبة ممزوجة بالحنان .. هناك سويديون اشتغلوا قبلي فطردهم . أي طين صناعي لايشكله وفق هواه يقذف به بعيدا عنه. أما الذين اتهموه فقد أغدق عليهم المال .. كان يبذخ ويسرف بشكل مفرط .. ويقف مع أعدائه فيشتغلون عنده في محلاته الواسعة بأجور لايحلمون بها عمالا وخدما أو حمالين وهو ينظر إليهم ويسخر منهم .. أو يدعي أن زوجته مريضة فتسارع إحدى زوجات أعدائه السابقين لتساعد أم خطيبتي في الطبخ وتنظيف البيت. هكذا خيل إلي ولعلني لاأكون مبالغا حين أشك بأنه وجد فيّ أنا بالذات وفي ابنته قبلي ذلك الطين الصناعي الذي يشكله أي وقت يشاء وفق هواه:

- بدأت أشك في أن كون الشاب الذي رأيته مصادفة مع خطيبتي معوقا ذهنيا وهي قصة من اختراع عمي نفسه ليهديء الأمور.

- ياصديقي العزيز هنا الامور مكشوفة واضحة لالبس فيها.

قلت مفتعلا اعتراضا أشبه بالامتعاض:

- حتى في العراق بدت بعض الأمور تنكشف تخيل أن النساء زادت نسبتهن عن الرجال إلى درجة أنك كنت حين تعود من الجبهة تفاجأ مثلما حدث لمقاتل معي في الوحدة أن خطيبتك اختارت شخصا آخر غيرك يقدر أن يوفر لها حياة مستقرة بعيدة عن المشاكل!

فهز رأسه قائلا:

 - ممكن لِمَ لا الحروب والكوارث تغير المجتمعات

وتأمل لحظة حتى إني رأيت ملامح انزعاج تنطبع على وجهه:

- ياعزيزي أنت لم تخطب فتاة ولدت في كوخ معزول عن الناس طافٍ على الماء وسط أهوار البصرة أو داخل خيمة في صحراء الرمادي ولا على جبل زوزك .. لاتعجب إذا دعيت معها إلى مأدبة سويدية فتذوقت نتفا من لحم الخنزير أو احتست كأس بيرة .. .. وقد تسمع غمزا من بعض الشرقين مفاده أن علاقة ما جمعتها بشاب سويدي ذات يوم .. ماذا يعني ذلك؟ هل ترغب أن ترتدي جلابية تصل إلى الركبتين مثلما يفعل هؤلاء المرعبون الذين كانوا يوقظونكم للصلاة في المعسكر؟ خطيبتك مولودة في اسبانيا درست في بولندا ثم السويد .. تتحدث أربع لغات قد تكون أعجبت في يوم ما بشاب ما وربما التقت مصادفة شابا من أيام المدرسة فوضعت يدها بيده كثير هنا من المسلمات يعرفن طعم القبلة مثل الأوروبيات وربما امتدت يد لتلامس صدر إحداهن أو اندفعت مراهقة ما لمداعبات خفيفة لكنهن يقفن عند حدود لايتخطينها .. عصرة نهد لاتهم وأقصى حد المسح بطريقة الفرشاة الأمر لايزيد عند هذا الحد أنت تعيش في السويد وهذه أمور طبيعية لسنا في السعودية ولا حتى في السودان هل فهمت؟

ياعزيزي أنت لم تعرف بعد خطيبتي .. انتظرتني سنة واربعة اشهر .. ثم تزوجت ورحلت .. من أجلها هي فقط غامرت واختلطت الأمور برأسي .. واحدة بواحدة .. خطيبتي التي لن أدعك تسمع عنها أبدا جاء من اقتلعها مني وأنا جئت لآخرى تركت من ترغب فيه. كان يمكن أن أتزوج في إحدى الإجازات من " ملح البحر" فأظل طول عمري في العراق فقد تأكدت تماما أني لن أموت بعد ما حدث لي وإلا لم هربت والحرب في منتصفها؟ قد افقد كثيرا من الأشياء وأظل متأكدا أن لاخطر على حياتي الأمر الذي لم أخبرك به .. وسوف يظل طي الكتمان ولن يكتشفه الطبيب ولا تلك الآلة المتطورة البيضوية التي تشبه عقدة خيمت على راسي ذات يوم.

- لماذا أنت ساكت؟ هل فهمت؟

- فهمت والله العظيم فهمت لكني أقول مادمت تفكر بهذه الصورة فلم لم تتزوج من هنا أو تختر سويدية بل أتعبت نفسك بالذهاب إلى كردستان .. .

- إسمع جيدا أنا أكبر منك وأريد لك الخير قدمت إلى هنا عام 1974 قبل وصول عمك بأربع سنوات. هذا الكلام أقوله لك للمرة الأولى لأننا أصدقاء علاقتنا لم تعد علاقة مترجم بلاجيء فأنت طيب القلب لم تشك في أني عميل مزدوج للسويدين والعراق مثلما يسيء اللاجؤون بنا الظن انس فارق السن بيننا وأنك من الجنوب وأنا كردي فيلي ضع قبل كل شيء مصلحتك الخاصة مستقبلك مع عمك صحيح أنه طوّع ابنته وفق مايرغب واختارك لأنه توسم فيك القدرة على تطويعك أنا أوافقك في كل تصوراتك هذه لكن مستقبلك هو الذي يملي عليك أن تتصرف الآن بهذا الشكل وإلا أراك تضيّع كل شيء.

توقف يلتقط أنفاسه في حين لزمت الصمت ثم واصل:

- تذكر ماقلته لك منذ البداية: لقد لقنني زواجي من ابنة عمي درسا قاسيا ولو عاد الزمن إلى الوراء لما أقدمت قط على هذه التجربة لهذا أول ماتبادر إلى ذهني أن من الأفضل أن تختار فتاة من المجتمع الذي تعيش فيه إذا كنت ترغب في الزواج فهنا في السويد عشرات العوائل العربية وهذا الشخص الذي اخترته لك يفضل أن تتزوج ابنته من عراقي شرط أن يكون بقدر مسؤولية الزواج تبقى هناك أمور تافهة هل فلانة أحبت قبلي هل قبلها أحد ايام المتوسطة أم لا من مد يده إلى صدرها أمور لعلك لاتقتنع بها بعد مرور عشر سنوات!

- يا أخي موافق إذا كانت معجبة بأحد ما وهي مراهقة فسأجعلها تتعلق بي تحبني أكثر من نفسها!

أنت شاب وسيم لاينقصك شيء

أعرف " لاحق الضباب" جيدا. شخص حساس يحب الخير .. يحمل طيبة الفلاح الكردي ونقاء النبع ذنبه الوحيد أنه قَبِلَ أن يعمل مترجما ولو أخذنا كلنا كما يقول إلى الدكتاتور فعرضنا للبيع بالجملة لا أظنّ أنّه يقبض أكثر من دولارين.منْ نحنُ كي نساوي ملايين الدولارات؟ معارضة مضاريط وفق رأي " أعماق البحر" .. على النقيض من تصور اللاجئين ومبالغاتهم في تصوير الأحداث للجان التحقيق السويدية رأيته لطيف المعشر ينصحني ألاّ أسهب وأزج نفسي بتفصيلات غير ضرورية قد تؤخر حقّي في الإقامة .. وجدتني أخرج عن نصائح الشرقيين بل أصبحت واحدا من أصدقائه القليلين. عدت من منزله غير شاك في تعرضي لتهم.كنت أرى مسؤولة البلدية تنظر إليّ نظرات غريبة. في حين بدا حريصا على مصلحتي وفسر ريبة المشرفة بي نوعا من تعب السفر الذي تحملته في المعسكر وثمة في الزورق وماعانيته من حقل التيارات البحرية، وانقلاب ساعة رأسي البيولوجية عن صحو فرضه علينا ضوء ساطع في الليل ونوم أثناء النهار .. كان يتعاطف معي إلى أبعد الحدود .. حريص على مصلحتي ونفي شبهة المرض النفسي عني التي لايعرفها إلا هو بحكم عمله وطبيبي الخاص ثم خرجت علاقتنا عن إطار العمل فرحنا نتزاور ونلتقي عندي والأغلب في شقته فنتحدث عن بعض الخصوصيات .. .. كثيرا ما ذكر لي أن الكرد الفيلية مظلومون مثل العرب الشيعة في كل مكان . الأكراد السنة يعدونهم غير أصلاء يرونهم أقرب للعرب، والعرب يعدونهم أكرادا .. في إيران يراهم الفرس غرباء عنهم نحن العرب الشيعة نتعاطف معهم وربما دفعه شعوره هذا إلى أن ينفتح معي كوني من نفس طائفته.كان يقول الفيلية أكثر عروبة من العرب وأشد تعصبا لللقومية الكردية من الأكراد أنفسهم. عائلته هو لاتمانع من أن تزوج بناتها للعرب الشيعة وترفض العرب السنة وتقبل بزواجهن من الأكراد السنة. المهم أن تكون عربيا شيعيا أو كرديا . معادلة صعبة .. تدرب لتصبح بهلوانا ذا قدرة على المشي فوق حبل رفيع. بهذه الصورة يرى الأمور .. وهو يريد لي الخير وينفتح معي في مواضيع شتى جاء في مقدمتها عمي السيد " عباب البحر". يمكنني أن أسلك طريقة صديقي نفسه وعندما أصبح في الخامسة والثلاثين من عمري ولا سويدية تقبل بي أجد عندئذ باب الفرج في فتيات بولندا الرائعات .. إنهن كما يقول فاتنات ساحرات أول مايتعلم المغتربون المكبوتون على أيديهن المص واللعق .. بولندا مدرسة بحق .. أما إذا خفت من العدوى والإيدز ورغبت عن استخدام المانع فلا بأس من نكاح الفم .. العطل كثيرة وبولندا قريبة وسوف يسهل الأمر إذا انضمت إلى الاتحاد الأوروبي .. ساعات بالباخرة .. .إنهن يأتين إلى هنا لكن كل ما مر يمكن أن يعد عبثا كل أموال لاحق السراب تذهب إلى أهله في العراق .. يبدو أنه غير نادم لكن لو عاد به الزمان إلى الوراء كما أنا عليه الآن لاختار منذ البدء شرقية ولدت هنا في اسكندنافيا بغض النظر عن كثير من التفاصيل التي يهتم بها أهلنا هناك في بلداننا .. لعل صديقي لاحق السراب يعبر لي عما يجول بخاطره وخاطر السيد "أسد البحر" الذي يأمل بلا شك أن يرى حفيدا من صلبه .. لاأنكر أني اندفعت أيضا نحو الاقتراح فخطيبتي ابنة مليونير كانت عليه شبهة نفتها المحكمة فأذل بعد ذلك أعداءه أي إذلال من دون أن يشعروا.ألغى تماما فكرة عقابهم العلني أما أنا أنا فقد بدأت حياتي بالغاء اسمي المفرد وتعيين أسماء للآخرين أغيرها متى أشاء أمامي مشاوير كثيرة بدأتها باستعادة نومي الذي انقلب علي في المعسكر الأول من الليل إلى النهار ثم قبل ايام انقلب بالحبوب تارة وبالتمرين أحيانا إلى سيرته الأولى.

كنت لاأرغب في المواجهة قطعا فقد استطعت أخيرا أن أنام ليلا وأصحو نهارا .

درس جربت أن أستفيد منه في السويد .. بعد أن كذبني الناس ونفوا أني واجهت الدكتاتور في مجلس عزاء، .عرفت حالما وصلت السويد أني يجب ألاّ أواجه علنا .. وألا أكشف جميع أوراقي .. نجحت في تجربتي الاولى بزرع مسجد المتطرفين بموانع الحمل المطاطية المدهونة بالحليب. فماعادوا يوقظوننا من النوم .والمسؤولون السويديون بعد شكواي وشكاوى آخرين حذروهم بلهجة حادة من إيقاظ النائمين واقتحام الغرف يوم الجمع قبل الصلاة.المفروض أن أستمر في رؤياي الجديدة غير أني عدت للعيش في أكثر من مكان في زمان واحد فنسيت وغابت عني صورة المحل الذي اشتغلت فيه .. رأيت سويديين وعربا يندفعون إلى التبضع وكان عمي نفسه كما جرت العادة في المحلات الشرقية يبيع بأسعار أكثر رخصا من المحلات السويدية ويعلن في معظم الفصول عن أسابيع للتصفية فهناك " لاحق السراب" والمحاسب يرتبان له وضعية الضرائب وما من أحد من هؤلاء الشرقيين إلذين اتهموه بالعمالة لحكومة العراق إلا ويأتي للتبضع من محله. دفعني الفضول أو الاستهزاء وربما السخرية ذات يوم فرد علي انهم يأتون إلى محل العميل المشبوه تجذبهم الأسعار الرخيصة كما تجتذب الحلوى الذباب فؤلاء دنيؤو النفوس يمكن أن يبيعوا الوطن بقشرة موز!

كنت أسخر منهم حقا وأغفر للسيد " كوسج البحر" انتقامه الخفي حتى استيقظت على مشهد أنتشلني من أفكاري ومحا صورة صديقي الطيب من ذاكرتي ولو إلى حين .. كم هو مغفل الشاب التركي ابنة عمه خطيبته تنام في حضن أحد السويديين تفرط في كل شيء ماعدا بكارتها .. سمعت عن طعنة وجهت إليه من الشاب التركي خطيب الفاة .. فضيحة .. أقوال صحف .. ثم اختفى الإثنان .. فجأة هو نفسه يبدو من الخلف رفيعا كقلم الرصاص كثّ الشعر قذر السروال .. عيناي لاتخطآن.ظهرها طولها أما وجهها فلمّا تقع عليه عيناي بعد، وفي اللحظة التي واجهتها وهي تتأبّط ذراعه فرّ صديقها مهرولا نحو شارع فرعيّ وتلاشى عن بصري!

وجهت إليها صفعة وتضاعف غضبي إزاء دهشتها فركلتها برجلي.العيون الزرق تجمّعت حولي.نظرات غاضبة.صرخات.نساء .. .رجال:

- وحش!وحش!

- غبي!

- تصفع البنات؟

- شيطان!

- خنزير!

- قذر!

- خنزير. قذر .. . متوحش .. شيطان .. مجرم .. .

إذا كنت خنزيرا قذرا، فِلمَ تأكلونه أولِمَ تأكلونني بنظراتكم.أظنهم وأنا في موقفي الحرج بجهلون كثيرا من الخصوصيات بل ضيقوا حولي الخناق حتى حضرت سيارة الشرطة، وفُتِحَ معي تحقيق طويل عريض:

- لم ضربتها؟

- رأيتها مع شخص آخر.

- افسخ الخطبة.طلقها من دون تستخدم يدك!

 ياإلهي من أين جاء هؤلاء .. كأن الحيطان انشقت عن شرطة ومخبرين وجواسيس سدوا علي الطرق والمنافذ أسأل صديقي "لاحق السراب" عن عيني اللتتين لاتخطئان فيقول لي أنت غبي .. أترى من المنطقي أن تضع فتاة مخطوبة يدها بيد شاب غريب وسط شارع يعج بالمارة، وأنا لاأعرف عوقا سوى عوق البدن. تفقد يدا خلال الحرب، رجلا بحادث سيارة، تولد أعور، كيف فاتني أن يبدو الإنسان طبيعيا وهو غير ذلك؟

 وفي التوقيف زارني عمي وأسف لقرار اعتقالي المؤقت كان داهية حقا. يروم إقناعي وأظنه أقنعها ولا أراه يسعى للتفريط بي على الرغم من تهوري. أما أنا فمازلت على السرير تغطيني المريلة البيضاء. صديقي مثقب السراب يقول لاعليك سوف أمهد لك الطريق . العروس موجودة .. أنت انوِ فقط .. صحيح أن عمك بدأ ينفر من الأكراد بعد أن اتهموه بقضية التجسس لكنه يثق بي ثقة مطلقة لأنني كنت مترجمه الخاص في مكتب اللاجئين والمحكمة ثم رددت عنه ألسنة السوء من وراء ظهره واختلفت حول مسألة اتهامه بالتجسس مع كثير من جماعتنا الكرد وأصدقائنا اليساريين والإسلاميين ولاأخفيك أن الرجل شكرني على وقفتي معه وكافأني بأكثر مما أستحق فما دمتَ وحيدا ليست هناك من أم تمهد لك الطريق ولاأب أو قريب فأنا أعدك أحد اقاربي سأجس نبضه حول قضية الخطبة وإن شاء الله آتي إليك بما يسرك من أخبار.

 ذكرته في اللقاء ذاتة في بيته بقضية الساعة البيولوجية وحقل التيارات فامتعض قليلا وأكد أنه بحر واسع استوعب جميع الأسرار وأقسم عليها مثلما يقسم الأطباء.عمي نفسه لديه أسرار تقيّأها أمام الشرطة والمحققين وفي دائرة الضرائب وكان لاحق السراب معه يترجم ويشير عليه بعض الأحيان فيخرج عن مبدأ حياد يلزم المترجمون به أنفسهم أمام السلطات، وعقبت لكي اعتذر من شك لامسوغ له:

- المشكلة إن ماهو غير طبيعي عندنا طبيعي عندهم نحن نسميه جنونا وهو يدعو للعار.

فقال ومازالت نغمة امتعاض تغلف صوته:

- قل لمن يتجرأ على اتهامك إنه هو المجنون فثلاثة أرباع اللاجئين يمثلون دور المجانين من أجل أن يحصلوا على مكاسب مادية وامتيازات كثيرة أقرتها الدول الاسكندنافية لذوي الاحتياجات الخاصة.

- فرق كبير بين تمثيل دور المريض وكون المرض فيك حقيقة.

- هذا الأمر يقرره الطبيب لاأنت!

- لكني أنا صاحب القضية وأعرف أني شعرت بشيء غير طبيعي حين اهتز الزورق في البحر عند حقل التيارات وانقلبت على رأسي.

- لم تكن وحدك في المعسكر أو السفينة. كان هناك معك الكثيرون أصبحت أنا المترجم الشخصي لبعضهم ولم ْيبن عليهم أية علامات قط.

- تذكر أن قدرة الأجسام وتحملها مختلفة بين شخص وآخر أضف إلى ذلك إصابتي في الرأس خلال الحرب.

- لاتقل لي ذلك لقد حضرت جلسات بعضهم مع الشرطة فعرفت منهم حكايات عن المعسكر وقضية الشاب الذي خاطب بالروسية الحرس اللتواني هو نفسه حضرت مقابلة له مع شرطة الهجرة والجوازات وحكى قصة الحقل المغناطيسي وقبلها معسكر اللاجئين من حق كل واحد أن يعيش العزلة التي يفرضها على نفسه فيتحفظ ويشك ويخشى من أن في المعسكر من يحاول سرقته أو يتجسس عليه وهذه أمور طبيعية عايشها اللاجؤون قبل وصولهم إلى بر الأمان.

- وأنا لم أكذب أو أبالغ

- اسمع أقول لك شيئا واحدا إن لنا لقاء مع طبيبك وقد علمت من آخر التقارير التي طلبوا مني ترجمتها لك ومن تقرير الطبيب يعقوب الذي تحول من نبي لاحق إلى نبي آخر سابق أن الدلائل تبشر بخير هذا كلام سابق لأوانه ممنوع مني قوله إلا وقت اللقاء معك بحضور الطبيب وتكليف من دائرة الهجرة بترجمة ما مكتوب لكنك تعرف حكم الصداقة .. غدا وفق توقعي سينهي الطبيب الإخصائي ملفك أو ستجعلني أشك فيك فأتصور أنك تغالي في خيالاتك غرض الحصول على مكاسب مادية مثلما يفعل بعض اللاجئين أو أنك مثل شخص أعرفه لايرتاح إلا إذا قال له الطبيب انت مريض بل يكاد يطير فرحا للمرض ويغتم من لاشيء!.

إنه يضعني أمام الأمر الواقع .. كردي صريح لايجامل ولاينافق .. يتحدث بوجه واحد .. عيبه أنه مترجم فهل أشك فيه كما يشك هو في الآخرين أيضا:

- أنا شخصيا لاأعرف التمثيل ولعلها الموهبة الوحيدة التي أفتقر إليها!

قال بشيء من السخرية:

- إذا كنت غير مقتنع فيمكنك الذهاب إلى شرق آسيا للعلاج مثل شخص لن أذكر اسمه لم يرض بعلاج الدكتور السويدي فركب الطائرة إلى تايلند ظنا منه أنه يجد علاجا أفضل هناك !

- أنت تمزح؟!

- لا بل أقول الحق!

- عجيب أيوجد مثل هذا الشخص في السويد؟

 استغرق قليلا في قهقة:

- أسأل لو كان هذا الشخص كرديا فكم ياترى من النكات صغتم أنتم العرب عنه لكنه والحمد لله .. .

فقلت بشيء من الضيق المغلف ببسمة باهتة:

- فيما يخصني أنا ليس إلى هذا الحد!

- ياعزيزي فحصك كلف الدولة السويدية غاليا .. 25000 كرونة جهاز الفحص سعره ملايين الكرونات أم ترغب أن تثبت هوسك .. .أنا أريد مصلحتك كوننا اصبحنا صديقين فإذا ماظهر أنك طبيعي فإني سأسعى بعد غد في جس النبض حول زواجك!

 أنا طبيعي. عاقل .. المقاتل السابق الذي يقفز من خندق لآخر .. يطلق النار .. يقتحم حقل موت يصطدم رأسه بشيء صلب .. يحس بعدئذ بحرارة الصدمة في رأسه ويظل لايبالي بشيء سوى صداع حاد يهيج بين حين وآخر وهي لما تزل ترحل مع زوجها إلى إحدى دول البترول دوباي دوباي كما يقول الأوروبيون وهم يلوكون الاسم ولم أكن أسعى للآتي بل اكتشف الطبيب أن المستقبل نفسه سعى إليّ فاندفعت هاتفا:

- في صحتك يا لاحق السراب

قال بعد تأمل وقد زال امتعاضه:

- الشيء الذي لم أفهمه أنك اخترت لي هذا الاسم بالذات.

فهززت كتفي قائلا:

- السراب يا أخي يشبه الماء والسراب وهم فلا تزعل إذا قلت لك إنك كردي صحيح أنت طيب القلب فيلي مخلص لاتخون والدليل على طيبة قلوبكم وإخلاصكم أن الدكتاتور نفسه الذي جبنت أنا نفسي عن أن أمد يدي لمصافحته اختار واحدا منكم على رأس حمايته لكنكم تركضون وراء حلم يقبض عليه الاتراك والفرس والعرب سراب فهل التسمية لاتناسبك إذا كنت لاترغب فيها فلا مانع لدي من اختيار آخر شرط أن يكون متعلقا بالماء وحسب!

فقهقه ضاحكا وقدا بدا مقتنعا شيئا ما:

- وأنت ماذا سميت نفسك؟

كل ذلك مؤجل حتى حين لكني سميتها هي " حبار البحر":

- لم أعثر على اسم أوكنية مناسبة بعد؟

- مارأيك في سندباد البحر؟

- اسم تقليدي سبقت إليه منذ قرون إضافة إلى مغالطة تاريخية سوف تحدث فيما لوقبلت بالأسم وهي إن من على السفينة يغرقون كلهم وينجو السندباد وحده مصادفة أما الآن فكل ركاب السفن ينجون وعنصر المفاجاة غير موجود!

- ذو النون يونس الحوت .. يونس البحر .. نوح .. الفلك المشحون ..

- اسم تقليدي ديني ثم ماذنب يونس او نوح كي ألصق نفسي بأحدهما أو إني أقول لك دعني من إيجاد اسم لي الآن فلو اقترفت خطيئة الآن لحامت الشبهات حول الخليقة كلها ماعداي أنا .

- لا تزعل إذا قلت لك ما الفرق بينك وبين آخرين أطلقوا على انفسهم أسماء وكنى تخفوا وراءها.

ربما يقصد استفزازي يظل أبدا طيب القلب، هؤلاء اللاجؤون لايجرؤون على التصريح بأسمائهم.تبنوا أسماء مزيفة وكنى وألقابا من دون أن يعرفوا مدلولاتها، جبناء .. معارضة آخر زمان .. أنا وضعت هدفا للاسماء وحصرتها بالبحر وحده لكنني مازلت أتشبث بطيبة قلب " لاحق السراب"، فرغبت عن التمادي بإساءة الظنّ فيه:

- هؤلاء تخفوا بأسماء مستعارة خوفا من وهم أو من أجل أن يثبتوا أنهم معارضة أما أنا فقد ألغيت اسمي السابق ولو رجع بي الزمن إلى الوراء أو تقدم بي إلى ابعد مدى في الآتي المجهول كما لو أستلقي في تلك الآلة التي فحصت دماغي لما غيرت رأيي!

- المهم أريدك أن تنسى كل شيء .. انس الكلام الفارغ .. حقل ألغام .. جثة غامرت إليها .. السيد الرئيس .. إيجاد اسم جديد له علاقة بالبحر أو تؤجل ذلك على الأقل حاول أن تعمل في المحل كأنه محلك ولست مجرد عامل فيه حتى تثبت أنك أهل لمسؤولية عجز عنها غيرك فإذا ماتم ذلك وتيقن الطرف الآخر فإنه يقوم بتعيينك مشرفا على محلاته فتكون أنت صاحب السر الذي يعرف كل ما يدخل ويخرج!

- ومن يقوم بهذه المهمة الآن؟

- هو نفسه إنه لايثق بأي أحد مع أنه يحسب ألف حساب لعامل الزمن غدا قد لايتمكن من أداء هذا الدور والأحرى به أن يدرب ابنته لتكون مسؤولة الضرائب والحسابات وزوجها لمراقبة الصادرات والواردات فلاتضيع الفرصة من يدك.

- لن أقول لا.

- يعني نتوكل على الله!

- الرأي الذي تراه.

- إسمع جيدا إنك الآن عرفت كل التفصيلات لاتقل لي هذه فتاة متحررة كانت معجبة بعراقي أو مصري يوما وربما تعثر لها على صورة بالشورت وهي تلعب التنس مادمت نويت إنس كل شيء!

- قلت توكل على الله !

لكن من يقف فوق رأسي هادئا ينظر إلي بإشفاق وأنا مغطى بالمريلة البيضاء ليس "لاحق السراب" الذي أطلق عليه أيضا اسما آخر ولا عمي السيد " عباب البحر" لعلني ما عدت ثروته التي يخاف عليها من الضياع. لمن تذهب الملايين اي شاب يستحق أن يرث هذا العرش الضخم الذي يمتد من طهران إلى القاهرة وشمال إفريقيا.البامياء الصعيدية والملوخية المعلبة .. صناديق المنكا القادمة من القاهرة .الحمص .. الطحينية السورية .. الفستق الإيراني أطيب فستق رائع درجة أولى .. من قرية الرئيس رفسنجاني .. الحبوب والخضار والمكسرات تجعلك أكبر مليونير بأقل كلفة .. صدر إلى ليبيا كل ماتحتاجه من حبوب وتحاش أن تستورد منها النفط .. لاتحارب على أكثر من جبهة .. ماهذا ؟ باذنجان أبيض ؟ معقول؟ لم أر بيذنجان أبيض في العراق قط؟ وهل هناك من شيء في العراق؟هذا الباذنجان مثل مايكل جاكسون غيّرَ لونه بعملية تجميل .. افعل ماتشاء تستطيع أن تغير لونك من أسود وأسمر إلى أبيض لكنك لاتقدر أن تحول إلى أشقر مثل السويديين! المحل لايحتاج إلا لعامل أو عاملين فلم تذهب إلى النفط ورائحته الكريهة وكلفته الباهضة التي يمكن أن تضعك يوما ما في فم وحش مرعب .. هنا يمكن أن تختلط الفاصولياء بالملوخية بالنفط والسياسة بالحمص والفول من دونما خطر .. تعامل مع الشيطان مع بوش أو لينين إجلب عدسا من هناك وبطاطا إذهب إلى مزرعة رفسنجاني اقطف فستقا ولوزا تبعثه إلى مانديلا. المهم لاتتحرش بالبترول افرض أن النفط جف من ليبيا فماذا تفعل ستعود تستورد الحمص من سورية والفول من مصر وربما يكون قد فاتك قطارهما وقطار الفستق الإيراني .. عمي الذي يحاول أن يخلط كل هذه الأشياء يقبض على يدي ويقول بابتسامة لم يخفق في إخفاء ملامح من مرارتها التي ارتسمت على شفتيه:

- ياعزيزي أظنك كنت متعجلا في اندفاعك!

تعقيب الشرطي نفسه لكني اصر على صحة عملي:

- ماذا تريد أن افعل وقد رأيت يدها بيده.

فهز رأسه ضجرا وعقب:

- كان عليك أن تتاكد .. تسألها " ثم بنغمة أكثر حدة" ياأخي خطيبتك متدربة في في مجموعة تعنى بالمعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة mental retedant متطوعة في منظمة ترعى هؤلاء بعضهم ذوو عاهات جسدية والآخرون من ذوي العاهات العقلية من أسبارجر ومتوحدين لاتميزهم من منظرهم الخارجي عن الناس الطبيعيين الأسوياء كان عليك أن تفهم الواقع قبل أن تتصرف ذلك التصرف الأهوج!

- أنا معك كان ذلك خطأ حقا.

أشبه بمن يحاول أن يخفف من وقع الأمر:

- لاألومك هل تعرف أن بعض السويديين يتصرفون مثلنا نحن الشرقيين لكنهم قلة!

 فضيحة جديدة تلتقطها الصحف فتطل علينا بها صباح الغد، وهناك بعض السويديين لم تسقط منهم قطرة الغيرة .. المحقق يتركنا وحدنا ويغادر غرفة التحقيق. ليتني أصدقه. ما أغباني حين تركت السويدي يفلت مني فأعرف إن كان من ذوي الاحتياجات الخاصة أم .. ليت الذي مر كابوس ثقيل تحررت منه.اقرؤ في عينيه توسلا لم يستطع إخفاءه. ماذا تقول وسائل الإعلام عن فضيحة جديدة تخص عمي السيد" كابتن البحر " هذه المرة الأكراد واليساريون والإسلاميون بعيدون لاعلاقة لهم بما يجري أنا وحدي استطيع أن أنزع الفتيل بصمتي :

- إسمع ستخرج الآن من التوقيف. اتصلت خطيبتك بالشرطة وأسقطت حقها يا أخي سامحتك من كل قلبها" ثم بابتسامة واسعة" يمكنك الرجوع إلى المحل وممارسة عملك وكأن شيئا لم يكن.

- هل حدث لها مكروه؟

- اطمئن من حسن الحظ أن كفك لم تسقط على أذنها " وابتسم مداعبا" لاعليك أنا فعلت ذلك مرات مع أمها لكن بعد الزواج هل فهمت أم يا .. . اصبر قليلا .. .

وقبل أن أغادر غرفة التحقيق استوقفني المحقق وعقب بلهجة حادة:

- الآن مادامت خطيبتك تنازلت عن القضية تستطيع المغادرة وسوف ارسل إليك رسالة بالبريد اوضح لك فيها يمكنك العمل في كل المجالات باستثناء قطاعي التعليم ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة " وأكد وهو يتلاعب بأنامله" مدة التحفظ في هذين الحقلين تستمر ثلاث سنوات.

 وفي السيارة قال لي عمي "ملاك البحر " الذي مازال يتحدث بأعصاب باردة:

- لاتفكر بالعمل ستظل معي في المحل وإذا تطلب الأمر فسوف اتحدث مع شريكي في كوبنهاغن أو مع فرع معمل سمن كلارا في شمال ألمانيا!

 بقيت صامتا في حين استرسل:

- أما خطيبتك فيجب أن تبتعد عنك بعض الوقت. سوف أرسلها بضعة أشهر هي وأمها إلى طهران والقاهرة تتدرب على بعض الأعمال التجارية في مكتب تصدير المكسرات الذي لي حصة لاباس بها فيه!

- كم تظل هناك ؟

حسب استيعابها للشغل أنا أريدها أن تتقن العمل هناك ومن بعد تلم بقضايا المحاسبة هنا فتاخذ هي الراتب الذي يأخذه المحاسب أتعرف أنه يستلم حفنة من النقود "وقهقه كأنه نفض عن صدره عبئا ثقيلا"دعهما هناك يشبعان زيارة و شمسا.

لاأدري لم خطرت صورتها لعيني وهي مغطاة من رأسها إلى كعبيها .. وصورتي بلحية كثة .. قد أسخر من نفسي حين أسخر منها .. لعلها تشاكس من أجل المشاكسة فقط .. قد تخرج مع شاب غيري وتمارس مراهقتها من باب الهواية .. بالأمس جلست معها في "حورية البحر" واختلست نظرة إلى ساقيها.ترددت أن أدعوها إلى منزلي .. الحق شعرت أن أباها معي في كل لحظة كالكون ينساب مع شمس هابطة من الشرق إلى الغرب.يحلم بالعودة إلى بغداد فيتذكرني ويستثني بعد أن تتلاشى ابنته وزوجته في الماضي الذي نستقبله كما كنا نستقبل الآتي من السنوات يعود شابا أعزب ليجد نفسه يتزوّج في العراق وتولد ابنته في أسبانيا.لاشكّ أني اكتشفت حقيقة أخرى: حين نسير إلى المجهول نكون مشغولين بالناس وأنفسنا أما حين نقلب المعادلة كما هي عليه الآن يكون الناس مشغولين عنا بأنفسهم فقط.

هجرة السيد "هدوء الساحل" حدثت في ستينيات من القرن العشرين.سيصبح خليطا من السياسة والتجارة.سوف يهاجر وتولد له في اسبانيا طفلة جميلة مثل حوريات البحر لعلها ترى الاشياء لعبة .. من المحتمل أن تصبح أستاذة جامعية .. ربان سفينة .. مديرة مدرسة. محاسبة وفق مخطط مدروس غير أنها تظل تنظر إلى الآخرين على أنهم لعب لاتفصلها عنهم حدود .. وكان السيد " سنارة البحر" منهمكا في البحث حتى يعثر علي ويظل يرافقني إلى أي مكان وربما اغتنمت غفلة منه فهويت على شفتيها بشفتي:

- زيزفون البحر هل هو جميل؟

- ما معنى زيزفزن؟

 

د. قصي الشيخ عسكر

.....................

الحلقة الثانية من رواية زيزفرن البحر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم