صحيفة المثقف

الاحتفالية: فلسفة التجاذب بين الحاضر والماضي

أولى عبد الكريم برشيد أهمية كبيرة للتراث، سواء على مستوى التنظير أم على مستوى الكتابة الإبداعية، حيث وظفه بأنواعه المختلفة، الإنسانيّ والأدبيّ والشعبيّ والأسطوريّ، لإضفاء نوع من الخصوصية على المسرح العربي والمغربي، إنه صورة أخرى للتأصيل في إطار ثنائية الأنا والآخر، وهو على أي حال، لا ينكر أخذه عن التجربة المسرحية الغربية، وتأثره ببعض تياراتها، الاحتفالية بهذا المعنى، تحقق للأصالة والمعاصرة بشكل من الأشكال، بحث آخر عن هوية المسرح العربي شكلا ومضمونا بالعودة إلى التراث والانفتاح على المسرح الغربي.

تقوم الاحتفالية على استلهام التراث باختلافه وتنوعه، وما يميزها أنها ترى التراث "ذاكرة حية، وفي هذه الذاكرة الجماعية نخبئ إرثنا الثقافي والفكري والفني فيها"[1]. وإضفاء صفة الحياة على التراث، يقابلها ما كان عليه المسرح في مرحلة التأسيس أو الاستعمار (الموت/ الجماد/ السكون)، وبهذا تميز تعامل عبد الكريم برشيد مع التراث، إنه بحث عن نص غائب من خلال التفاعل بين الحاضر والماضي، نص يعكس رؤية فنية وجمالية تراثية تراعي مفهوم الهوية، تستجلي هموم الإنسان البسيط، ففي مسرحيته "ابن الرومي في مدن الصفيح"، فشل النموذج الأول في التعامل مع التراث من خلال شخصية ابن دانيال، الذي اعتلى خشبة المسرح يسرد الحكايات القديمة دون مراعاة المشاهدين وواقعهم، فانشغلوا عنه باللعب، قبل أن تتدخل ابنته دانيازاد، لتنبهه بأن ما يحتاجون إليه هو التطرق لقضايا عصرهم، وسرد هموم الناس، وهو انتقاد صريح للتعامل السلبي مع التراث، أو الرؤية السلفية للتراث التي تغلف الحاضر بالماضي.

إن برشيد في طرحه النظري والإبداعي[2]، يحاول تأسيس وعي بأهمية التراث في حفظ الهوية الثقافية لشعوب دول العالم الثالث، وهو الفعل الذي بوأ هذه النظرية مكانة كبيرة في العالمين، العربي والإسلامي، خصوصا بعد استشعار خطر العولمة والتثاقف والأسلبة، ومنه، تكون شعرية برشيد مبنية بشكل كبير على التراث، إذ يتضاعف توظيفه فوق خشبة المسرح من منظور سيميائي ليخلق نوعا من الجمالية الأصيلة، المرتبطة بالهوية والخصوصية الثقافية، سواء كان مضمونا أم رقصا أم أغاني شعبية أم أشكالا فرجوية كالحلقة وغيرها، غير أن نظرته للتراث مختلفة بشكل كبير عما كان سائدا في عصر النهضة، فلا معنى لكل هذا التراث إن لم يكن من أجل التغيير، من أجل تحقيق الممكن.

وبهذا المعنى، أصبحت علاقة الاحتفالية بالتراث علاقة انصهار وتجاذب، حيث يصير المسرحيّ والتراثيّ في قالب احتفالي يرمي الوصول إلى النص الغائب، تجاوز الكائن إلى ما يجب أن يكون، نص فرجوي يحمي خصوصية الشعوب وهويتها من الحداثة المقلدة حسب تعبير طه عبد الرحمان، بل "أكدت العديد من الدراسات الجامعية والنقدية التي أنجزت حول مسرح برشيد، خلال العقود الثلاثة الماضية، أن هذا المسرح قد وجد هويته، ترك للتراث الشعبي، وللتراث العربي المدون، حرية السيطرة على الشكل المسرحي وعلى مضمونه، وذلك خارج شروط اللعبة المسرحية وخارج قوانينها الغربية "الأرسطية" و"البرشتية" فجاءت كتاباته، تراثية الشكل، وتراثية المضمون، احتفالية الاتجاه والرؤى"[3]، إنها رؤية حداثية تتضمن رؤيته للعالم، تنبني أساسا على علاقة الاحتفالية بالتراث، دافعُها المحافظة على الخصوصية الثقافية، ولكن في ظل الانفتاح على قضايا العصر، إنها رؤية وسط بين التأصيل والمثاقفة، غير أن الركن الأول في تصور برشيد كان محط انتقاد حاد في الدراسات النقدية المسرحية، لكون "المسرح الأوربي الذي اعتمد على ثقافات الشرق مسرحا متوهجا، ولم يتهم بأنه مستلب أو غير طبيعي لأن أوربا تجاوزت الرؤية المرضية للخصوصية، وهي الرؤية التي تسوق لها الاحتفالية بشكل مرضي وهستيري"[4]. وبالرغم من أننا نرى عكس ما ذهب إليه سعيد الناجي، لأن التراث في الاحتفالية متجدد، خرج من دائرة التحنيط، وأصبح معطى للقراءة والتأويل مستفيدا كما قلنا سابقا من الغرب نفسه، لأن "المسرح الاحتفالي في بحثه عن الخصوصية لم يقطع كل خيوطه مع الغرب، فهو يؤمن بأن الآخر جزء أساسي من مكونات الذات، من هنا كان التمييز بين التبعية وبين التثاقف الفكري والفني"[5].

ولعل في رأي سعيد الناجي جانبا من الصواب فيما يتعلق بالتنظير؛ لأن الارتكان إلى التراث والتاريخ والتغني به، بغية الحفاظ على الخصوصية المغربية أو العربية، قد يجعل جيلا أو جيلن يسكنون إلى الماضي، معرضين عن الحاضر والمستقبل، أو يعيشون الحاضر في الماضي، وهنا تكمن خطورة التعامل مع التراث، مما يؤدي إلى تقوقع سلبي على الذات الجماعية، فيجعلها ذلك خارج حركة التاريخ، ولكن، يجب الإشارة إلى اختلاف علاقة الاحتفالية بالتراث على مستوى الإبداع، ذلك أن الدعوات التنظيرية باستلهام التراث جعلت الأمر يبدو وكأنه انغلاق على الذات، في حين كان التراث في الأعمال الإبداعية منفتحا على الواقع وقضايا الإنسان المعاصر، وإلا فماذا يفعل امرؤ القيس في باريس في مسرحية "امرؤ القيس في باريس"؟  ولماذا جاء عبد الكريم برشيد بابن الرومي ليعيش في مدن الصفيح في مسرحيته "ابن الرومي في مدن الصفيح"؟

ومنه نؤكد مرة أخرى أن الاحتفالية في تعاملها مع التراث، قد استطاعت أن تقطع مع التعامل الذي أرسى أسسه المسرحيون في مرحلة الاستعمار، إنها تجعل التراث فعلا حيا على خشبة المسرح، تراث يحتويه الحاضر ولا يحتويه الماضي، لذلك لا يمكن تشكيل صورة عامة حول هذا التجاذب إلا من خلال استحضار التنظير والفعل الإبداعي. وعلى الأقل هذا جانب إلى ما كان يدعو إليه المفكرون العرب في التعامل مع التراث، ومنه يمكن القول إن المسرح العربي بعد النكسة شهد تعاملا مختلفا مع التراث، رؤية ثورية، لكنها اصطدمت بجملة من العراقيل التي قلصت من امتدادها، من بينها مسرحيون ذوي توجهات يسارية، عارضوا التراث في المسرح، وجعلوه غربي الشكل والمضمون.

فهل تستطيع الاحتفالية الصمود أمام دعاة عولمة المسرح؟

 

عبيد لبروزيين

.........................

[]1- عبد الكريم برشيد، الاحتفإلىة مواقف ومواقف مضادة، دار نشر المعرفة، 2001، ص: 61.[1]

[2] - إننا نميز بين طروحات عبد الكريم برشيد النظرية والإبداعية، إذ نجد اختلافا ملحوظا بينهما، لأن طروحاته النظرية تكون غالبا ردة فعل لانتقاد الاحتفالية، وهو ما يجعله يعرف المسرح تعريفا غامضا "المسرح حفل واحتفال"، كما أن كتاباته في هذا الجانب تطغى عليها شخصيته الإبداعية، لذلك لا يمكن الإلمام بما جاء به نظريا إلا بالعودة إلى منجزه الإبداعي. وهو المنجز الذي بوأ الاحتفالية انتشارا واسعا على المستوى العربي، بغض النظر عن كونه يشرح المنجز النظري.

[3]- محمد أديب السلاوي، المسرح المغربي، جدلية التأسيس، منشورات مرسم،  ص: 197.[3]

[4]- سعيد الناجي، مهنة المسرح المغربي، مسارات وتقاطعات، ضمن كتاب جماعي، المسرح المغربي بين التنظير والمهنية، منشورات المسرح والدراما التابعة لكلية الآداب والعلوم الانسانية، جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، ص: 42.

[5]- عقا أمهاوش، الفعل المسرحي المغربي والنظريات الغربية الحديثة، م س، ص: 133.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم