صحيفة المثقف

الحادي

عقيل العبودجلس وحيداً عند مكتبه يقلب دفتر مذكراته القديمة، الرزنامة التي أمامه، كأنها تعلن عن ارقام من قبيل هذا التوالي العددي الذي يصطف متسارعاً وفقا لحركة محسوبة.

بصرهُ بعيدا راح يحلق عند تداعيات ازمنة فائتة، الأحداث مثل شاشة تلفازية تجذبه إليها، تتلو مركباتها الصورية بطريقة متقنة. الوجود البشري مقولات متزاحمة يصعب الغوص في بحرها المتلاطم. 

المشهد ليس على شاكلة مسافر ينتظر رحلة طائرة، تقلهُ نحو بقعة اخرى من هذا العالم، انما هو من قبيل جولة تبحث عن إحداثيات حاضر يفرض هيبته، وماض يبحث عن نفسه. 

تأملاته وأفكاره دون إرادة، اتجهت صوب أسوار امبراطورية، أصحابها تَرَكُوا خلفهم هذه الأكداس الورقية والمشاهد المتراكمة من التجارب.

الأصدقاء، قوائمهم، مثل باقات ورد غادر عطرها في بساتين هذا النوع من التداعي، البعض بقيت سيقان أشجارهم شاهقة حتى بعد رحيلهم، ذلك العلو المتسع، مثلما ارواح تحكي مآثرهم؛ تسلسلات لا حصر لها من التفاصيل، اولئك كانت تجمعه وإياهم أحكام مائدة واحدة.

العبارات، الأحاديث، الأحكام، والمناقشات، (خير الزاد التقوى) هذه الجزئية من الآية القرانية كان يرددها دائما احدهم، إذ المعنى بالنسبة اليه مختلف في تفسيراته، فهو القوة التي عليه ان يعدّها، يتسلح بها ليستكشف معادلات جديدة.

هو هكذا صاحبه الذي سخر كل حياته ليكون مدرس فيزياء ناجح، كان يقول دائما: (التضحية هو هذا الألم الذي صنعه العباقرة والعلماء والفلاسفة، وهو مهمة اخلاقية شائقة، مثلما هو التزام شرعي).

لذلك مقارنة، الحاضر بالنسبة اليه تجدد مستمر، انشطار، او تكملة لما اختطه اولئك الذين احبهم.

من معه الان لم يبق منهم الا أنفار أتعبتها قوانين هذا التراجع الذي بسببه وجد نفسه محاطا بشرنقة عالمه بعيدا عن تطلعاتهم وافكارهم التي تعرَّضَ أكثرها الى أكسدة البحث عن الثروة، والسلطان.

عمره بات يناهز الستين، السنوات بناء على متواليات ترتبها الزماني، وانسيابها المكاني، سيناريوهات تمضي بأشكال متعددة، التاريخ بأبجدياته المتصارعة يفرض احداثه دُونَ ممانعة، أوإعتراض، التكنولوجيا تتسارع في حيثيات نموها بطريقة غريبة،

المحطة التي هو فيها الان تحتاج الى خطة تواكب هذا المتلاحق الذي يجري بسرعة مذهلة.

ذلك يفرض عليه ان يفك الغاز هذا الاخطبوط الذي بات يهدد عقول هذه الأجيال بالتعفن.

 

عقيل العبود   

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم