صحيفة المثقف

الميتافكشن في رواية امرأة على قيد سراب للروائي والقاص مصطفى بوغازي

خلود البدريما وراء الرواية أو ما أُطلق عليه مصطلح الميتافكشن. ما هو، ما مميزات روايته، ومن كتب عنه؟ هذه المحاور وغيرها سنجيب عنها تباعا ونحن نتابع قراءة رواية القاص والروائي مصطفى بوغازي "امرأة على قيد سراب" فالرواية بمثابة أوراق مخطوطة بيد امرأة أسمها "حنان" يتكفل الكاتب بطباعتها وإخراجها إلى النور.

في الفترة الأخيرة قرأت عدة روايات عراقية اتخذت هذا المنحى في الكتابة . طبعا لكل كاتب ولكل رواية ما يميزها عن غيرها من حيث أسلوب الكتابة، الحبكة، تصاعد الإحداث، وغيرها . تعتبر ليندا هتشيون أول ناقدة رسخت هذا المصطلح عن تقنية الكتابة هذه، وتبين أنها رواية عن رواية تتضمن تعليقها على سردها وهويتها . وبعد نقاد كثر، أصدرت الناقدة باتريشيا واو كتابا عرفت به هذه التقنية : " رواية تلفت انتباه القارئ بوعي كامل إلى تكوينها المصطنع وتخفت وتيرة واقعية السرد وذلك لتثير الأسئلة حول العلاقة بين الرواية والحقيقة " . ونرى في قراءة النصوص، لا بد من اكتشافنا لطريقة الكتابة وتقنيتها، وكما وضح ذلك ج. ستاروبنسكي " أن يكون النّقد بين تعرية صارمة وتغطية مبدعة _ منهجا وأسلوبا _ وأن يكون بين قراءة مطلعة واكتشاف تلقائيّ، تلك هي الطّريقة الوسطى التّي انتهجها " ج . ستاروبنسكي " قال : " إذا كان من اللاّزم أن أقدّم تعريفا للنّقد المثاليّ فإنّني سأجعله مركّبا من صرامة منهجيّة (مرتبطة بالتّقنيّات وطرقها القابلة للتّدليل) ومن حريّة فكريّة ( متحرّرة من كلّ الضّغوط التّنظيميّة " وإذا كان النّاقد سيراهن ب" قوّته الإلهاميّة " الشّخصيّة وإذا" كان كلّ نقد جيد يملك نصيبه من النّفس الإبداعيّ ومن الغريزة والارتجال ومن ضربات الحظّ ومن النّجاح) فإنّه لا بدّ، مع ذلك، من اعتماد "مبادئ منظّمة أكثر صلابة".

وكما قلنا لا بد لنا من معرفة خصائص هذه الطريقة في الكتابة، والتي يمكننا أن نطلق عليها روايات ما بعد الحداثة، ولأوضح الآن بعض الخصائص التي تميزها، أولها : وجود الوثيقة أو المخطوطة، تعتبر التقنية الأولى وهذا ما أكده من أقر هذا المنهج، وتخطي الأفق الزمني . لنقرأ ما كتبه الروائي في صفحة (70 )" طرقت " حنان " باب مكتبه هذه المرة ولم تكن لوحدها، بل كانت ترافقها فتاة سمراء رشيقة القوام، انسدل على كتفيها شعر أسود، وتمردت عن تسريحتها خصلات تغطي الناصية، لتظلل عينين واسعتين، فيهما من الجمال ودواعي الألفة، كما يتبدى فيهما انكسار يحاول أن ينال من بريقهما لصالح فتور باهت، كما يرتخي جفناها لتتجنب أي نظرة تستفز أسئلة تقرأها في العيون بحدس لا يخطئ وما إن استراحتا على الأريكة المقابلة لمكتبه بادرت بالحديث لتوفر عليه عناء التخمين قائلة :

- يشرفني أستاذ أن تتعرف عليك ابنتي "دعاء" عمرها أربعة عشر سنة.

- ابنتي موهوبة أيضا ولها محاولات في كتابة قصص الأطفال .

تلفت إليها مضيفة:

الأستاذ "طارق" مدير النشر، وصديق السيد "مراد" مالك المطبعة الذي اتصلنا به هاتفيا ."

لا بد لنا أن نتفاعل مع الأثر الأدبي حتى نتميز بنقد الرواية ايجابا . ولنأخذ مقطعا آخر لنستدل به على خصائص هذه التقنية في كتابة الرواية . " خفت كتلة الأوراق المتبقية بين يدي " طارق " فأدرك أنه اقترب من النهاية، وجد أن النص يتجه نحو انفراج التأزم، وأن حدة المعاناة خفت بشكل مقنع، بعد ما استسلمت " حنان " لواقعها ولا مناص من السير قدما في اتجاه التيار . مما يعني له أن فكرة الموضوع تتجه نحو نهاية بات يتوقعها، وكعادته لا يفارقه قلم يخط به ملاحظات على دفتر صغير، تعود أن يسجل ملخصات لنصوص قرأها، كي تناقش مع فريق العمل بدار النشر للبت في قرار نهائي بشأنها . استبعد نشرها في القريب العاجل، واصل تسجيل ما يجب تسجيله .." (ص 122).

فشخصية البطلة هنا، تُثير فينا التفكير، نتعاطف معها ونمقتها، بشكل مزدوج، تظهر مرة طيبتها وسذاجتها وتهورها في اتخاذ قراراتها، وثقتها المفرطة ببعض الرجال . وفي نفس الوقت علينا أن لا نحملها وزر نفسها وأفكارها فقط، بل وزر المجتمع والظروف والتربية الأسرية، دور الأب _ المربي _ والذي ينغمر بفعل المادة في الدجل والشعوذة، يتنكّر لعائلته ويهجر زوجته، الضياع في العلاقات المتعددة، يقود حتما إلى اضطراب الأسرة والأبناء . يكتب بلسان السارد، عن البيئة التي عاشت فيها أمها والجد المتعصب، التربية القاسية، رفض تزويج الأم لأبن العم العاشق، التحكم بمصيرها ومستقبل العائلة، الرجل المتجبر على مِن يعمل ويعيش في كنفه، لا يهمه مشاعرهم وأحاسيسهم رغم كل ما بذلوه من جهد وعناء في أنجاز العمل المناط بهم . كأنما على كل من يتواجد في تلك البقعة من الأرض، تنفيذ متطلباته وأوامره .لا نلبث أن نعلم عند متابعتنا قراءة الرواية أن السارد بدأ الإبحار بنا في خضم روايته في أعماق النفس البشرية، ليكشف لنا ما يمور في داخل كيان بطلة روايته من آلام أنثى مستلبة، تروي مجريات أيامها، وخطل ما حصل معها من أحداث، مأساة المرأة في مجتمع يحاول فيه البعض استغلال ظروفها، والدخول إلى حياتها، لكن بشكل لا ترتضيه الأعراف والتقاليد . تُسلم رزمة الأوراق المكتوب عليها كل ما مر معها في حياتها، كيف آمنت لبعض الرجال وانجرفت معهم بعلاقات وصلت حد الحمل غير الشرعي . كانت تمني نفسها بالزواج، تُصدم وعائلتها بالوعود الزائفة . فيتساوق لديها الخطأ والصواب . ترزق ببنت تتحمل وتتكفل تربيتها. تمنت أن تكون كاتبة هذه الرواية. لكن المرض الخبيث منعها من أكمال ما بدأت. عند الوصية واقتراب الموت بعد أصابتها بالمرض العضال، توصي أن يكون أسم الرواية أن طبعت "امرأة على قيد سراب". بهذه الرواية الشيقة يضع الروائي مصطفى بوغازي يدنا ويشير علينا تأمل التركات الثقيلة، نظرة المجتمع للمرأة، التربية الأسرية وتأثيرها على تكوين الأبناء، كيف تستنزلهم إلى الهاوية، أو تحلق بهم إلى سماوات الحلم، يرفع النقاب عن العلاقات الأسرية المريضة، لتكون الحصيلة الأخيرة مجتمعا يشكو عقدا ومشاكل تتفاقم بدلا من أن تُحل، طبعا يعرج بنا الكاتب على الوضع الأمني والسياسي، يكشف عن بعض الحركات المتشددة والممارسات الخارجة عن السيطرة . كل ذلك وأكثر في رواية أجاد الكاتب في سبك أحداثها وعرض الأفكار العديدة من خلال تلك السطور وهو يقولب ويصهر في أتون هذه الأحداث حبكتها . كتب الروائي في المقطع الأخير من الرواية في صفحة ( 132) على لسان ابنة بطلة روايته " إذا حظي بالقبول ما كتبت أمي وتقرر نشره أريد أن يكون بعنوان " امرأة على قيد سراب ". 

 

قراءة خلود البدري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم