صحيفة المثقف

صالح دياب: "صيف يوناني".. الريح ذاتها تفضي إلى عدم آخر

567 صالح ديابأمّا وتعيش في المقلب الآخر مِنَ الأرض، فالكتاب العربي، ولاسيّما الصادر حديثاً،  فنادر، وإذا كنتَ قارئاً ستجد نفسك تقرأ غالباً ما فات، وإذا كان إصداراً حديثاً ففي الأغلب الأعمّ هو ليس مِنْ خياراتك، أقلّه هو ليس في المزاج الذي لا إستقرار له. أخيراً رجع الصديق الشاعر وديع سعادة مِنْ رحلة شعريّة إلى لوديف الفرنسيّة، ومثلما في رحلات أخرى رجع حاملاً إليّ كتباً ومنها "صيف يوناني" مجموعة شعريّة للشاعر صالح دياب. ألقيتُ نظرة على تاريخ الإصدار، وعلى لوحة الغلاف للفنّان يوسف عبدلكي، ثمّ نظرة ثالثة على صفحات مثلما غالباً تكويناً لفكرة. ورأيتُ ألاّ أتأخّر دون القراءة. وبديهي أنّ معظم ما وصلَنا مِنَ الشعر العربي عموماً إلى أوائل القرن العشرين أكثره يجمع ضوءَه على العامّ، وكثيراً ما يصهل وقليلاً ما يهدل، وكثيراً يجتاز بحاراً وقليلاً ينكسِر وكثيراً تضخّم الأنا: الذات الفرديّة، وقليلاً ما تحضر الزاوية بإنطوائها وخيباتها التي لا عدّ ولا حصر لها، وإذا حضرت فمن ذا الذي سيحفظها، ولماذا أصلاً سيحفظها؟.

والظنّ هو أنّ الشِعر إفتخار ورايات ومنبر في صراع لا رأفة فيه، إلاّ أنّ القاعدة تهاوتْ صرامتُها لاتّساع الرؤية بوجوب الإنارة على التفاصيل بمجمل أوجهها مِنْ دون حرج أو وجل، وحتى بأخفتْ صوت، وبراحة ضمير. يمكن إدراج مجموعة "صيف يوناني" _ دار ميريت _ القاهرة ضمن نسق الإتّجاه الأخير، حيث الذات مفتوحة على عوالِمها الخاصّة، مفتوحة على الذات إلى أي أرض وسماء انتمت. "صيف يوناني" _ 117 صفحة، ومن القطع الوسط، وثلاث محاور هي: "عود أبيض"، "السفينة تعبر مضيقاً" و"قمر يابس يعتني بحياتي"ـ متابعات يوميّة لحياة ورحلات وهجرات لها ألوان وشؤون  وصور تكتنزها بما هي الصوَر شديدة اللصوق بالفنّ، الشِعر أمضّه وأمرّه، مع انسياب باللغة ونداوة، فالممرّ الآن لا يُحيل إلى القواميس. إنسياب سلِس مِنْ دون إطناب، والممرّ الآن لا جيش لجباً ولا هدير ولا بروق ورعود بل بوح وشفافيّة وتأمّل يحفظ دائماً، وكما يجب، حيِّزاً للمغامرة، مثلما يجب أن يكون للعبث محلّ، وبحدود المجدي، أي لا إفراط.

"طويلاً ستحوِّم الطيور الكاسرة فوق حياتك / ولن تجد مكاناً تأوي إليه نهاراتُك ولياليك".  يقول الشاعر صالح دياب في الصفحة 51 مِنْ مجموعة "صيف يوناني" لتيهٍ ورمل لانهائي وسماوات واطئة وظمأ". و"مجذافك الكبير تحطّم / وفوق غيابك تنبتُ الأعشاب". يقول في الصفحة 43، وذلك لأنّ الآمال العظيمة لبوتقة محدّدة كلّها تسوّى بالأرض. لنُعذَر، حتى ردّ الفعل مفهوم، وإن يصعب تبريره، محظور أن يكون مفهوماً، فيما الحثّ على الإدانة يجب أن يتضخّم إلى حدود الهوس، وربّما إلى حدود إثارة الشبهة. الفاعل يجوز له أن يأتي على الأخضر واليابس، فيما لا يجوز للمقتول أن يفكِّر ولو عدماً، والشاعر ربّما لم يتقصّد، فيما الآخر له أن يرى مِنْ مكوِّنِه جهة الريح. و "على الطاولة يتبادل الصيّادون مع ذكرياتهم / الشباك الممزّقة، النسيم لا يهبّ إلاّ ليشعل خساراتهم" صفحة 53، ولنلاحظْ صيد الشاعر صالح دياب هنا، وقيل أنّ غنى الصيّاد إلى الركبة وفقره إلى العنق، وكما الشباك ممزّق كذلك هي الذاكرة ممزّقة، ثمّ لا يقبض العدم إلاّ على العدم، ثمّ الريح بالقسوة ذاتهاـ أتذكّر المأساة، فالمهزلة، ها هي تهبّ إنّما لتفضي إلى عدم آخر.

وهذه الأجنحة مِنْ فضاء "صيف يوناني": "منذُ دخلتُ هادئاً إلى السروة / مقابل البيت / تاركاً ظلّي ينشف على الأوراق". "الشِعر يتبادل مع الزرقة العناوين \ الفرج قارب يرسو بجانب قارب". "الطمأنينة / في مرورها / تخلق ندوباً". "فمي شجرة / تسبح في أوراقِها اليابسة". "أتابع بمعيّة الضباب / الذي يتكثّف في تلك الجهة / مِنْ حياتي". "رسائله الكثيرة / لا تصنع مرفأ". "أنتَ الذي تفكِّر بالغابات / النائمة في الأشجار / لن تفلح في انتزاع الشوك مِنْ صمتك. // طويلاً / ستحوِّم الطيور الكاسرة / فوق حياتك / ولن تجد مكاناً تأوي إليه / نهاراتُك ولياليك. // وفي عينيك ستنزف السماء مع زرقتها / وستمضي أيّامك تفلح الأرض عند قدميّ السواد. // جالساً  تراقب السفن تمرّ بعيداً / ثمّ تتّخذ طريقَها نحو عرض البحر". "حين مررت بهم على المرفأ القديم / كانوا يذبحون نجوماً عند النبع. // لم تخطري في صوتي بعد / وكنت أنسى رسائل كثيرة في البريد. // لا أقول شيئاً عن الجُزُر التي تساقطت مِنْ عيني / لا أقول أيضاً عن الصوَر الحامضة التي التقطوها لغيابي / ولم تأخذ مكانها في الألبوم. // عبثاً / على الرصيف / أرتق عقوداً مهجورة مِنْ يدي / ثمّ يأتي النهار كي لا يتوقّف عن السعال تحت الجلد". \\ "أنتظرُ أن يصحو الطقس / كي أرى الضغينة كاملة". \\ "يد خالتي / كلّما ربّتتْ على كتفي / تترك جزيرة".

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم