صحيفة المثقف

مقترحات منتدى الدولة الحضارية الحديثة (1): ورقة التربية والتعليم

علاء شدهان القرشيهذه ورقةٌ انبثقت أفكارها، برفقٍ وعمقٍ، في منتدى الدولة الحضارية الحديثة، الحديث الإنشاء، ترتبط، بشكلٍ أو بآخر، بمجال التربية والتعليم في بلادنا، إذ نشبت فيه نقاشاتٌ جادةٌ، وأسئلةٌ صادقةٌ، وإثاراتٌ مخلصةٌ، حول المفهوم، والمنهج، والعقبات، ونشأت، في فضائه، مقترحاتٌ وإجاباتٌ ملهِمةٌ، مشجعةٌ، محفزةٌ، حول الرؤية، والخطط، والتدابير.

فمن جهةٍ؛ تشير معطيات التاريخ، بوضوحٍ، إلى العلاقة الجدلية بين التغيُّر السياسي، والتغيير التربوي والتعليمي، إذ تعمد الدول النابهة وغيرها، بمؤسساتها المختصة، إلى تطوير، وتصحيح، وإعادة تصميم المناهج التعليمية في الفترات المضطربة، والحرجة التي تمر بها، لمواءمة المؤسسة التعليمية مع التحديات والظروف والشروط الجديدة. وتشير أيضًا، إلى العلاقة الجدلية بين ديناميكية العلوم، وتطورها، وبين إعادة إنتاجِ سياسةٍ تعليميةٍ وتربويةٍ أحدث وأكثر مواكبة للمرحلة الحديثة التي تفرضها طبيعة العلوم على اختلافها وتنوعها. فالمنهج هو الآلة الأساسية التي تزوِّد الفرد، بالمعرفة المعاصرة، والمحدَّثة، وتُمكِّنه من التعايش مع الوضع السياسي، والثقافي، والعلمي الجديد، والمتجدد، والمنهج هو الوسيلة الأهم في تطوير قابليات المواطن، في مجتمعه، وبيئته، وتحضيره لمستقبله، وتأهيله لفروضه القادمة المتغيرة، في عالمٍ دائم الحركة والحياة.

ومن جهةٍ أخرى؛ فإن للبرنامج التربوي والتعليمي، وخططه، وسياساته دورًا مهما في تحديد شخصية المجتمع، وفي تصوّره للمستقبل الذي يريد أن يكون عليه أبناؤه، دولةً وتحضرًا وحداثةً.

أفضت تلك النقاشات إلى ضرورة الانتقال، في المجال التعليمي، من التلقين إلى التوجيه، ومن التلقي إلى التفاعل. ففي الوضع السائد يضع الكادر التدريسي نفسه موضع الملقِّن الذي يملأ رأس المتعلمين بمعلومات كثيرة أو قليلة، ثم يقوم باختبار حفظهم وتلقيهم.

وفي الوضع المقترح، يرتفع الكادر التدريسي من حالة التلقين إلى مستوى الموجِّه، والمرشِد، والناقل لخبرته في مجال تخصصه، بمداها الأوسع، ليمنح تلاميذه قدرة على الإبداع، والخلق، والصنع، والامتياز، ويرتفع التلاميذ من حالة التلقي إلى مستوى الاشتراك والتفاعل مع المادة المدروسة كمعطًى حياتي، اجتماعي، يتعرّفون على أهميته في الخارج، وخلف جدران الصفوف، حيث تنتظرهم المصانع والمعامل والمنشآت والأسواق والمجتمع، والدولة بمعناها الأشمل، ويتصاعد الهدف من الدراسة من حضيض الحفظ والتلفظ، إلى مدارج القدرة على الاستنتاج والتحليل والبحث.

وأثارت – نقاشات المنتدى - مشكلة الازدواجية التي تسبّبها المناهج الحالية في شخصية التلاميذ، إذ ينعكس ذلك على سلوكهم المتردد بين المدرسة والبيت والشارع، وهي مشكلة يمكن تجنبها بوعي فكرة أن التربية مسؤولية المجتمع، وأن الدولة تمثيل للمجتمع، ليؤدّي هذا الوعي إلى حقيقةٍ مضمونها أن التربية ليست مسؤولية جماعةٍ محدودةٍ، كالبيت وحده، أو الشارع وحده، أو المدرسة وحدها، ومعنى ذلك أن تُعطى المعرفة العلمية مجانًا للجميع بلا استثناء، وتوزع بالتساوي من دون تمايزٍ وتصنيفٍ، وأن يتم توظيف الكفاءات التدريسية الماهرة بصورةٍ متكافئةٍ على خارطة مدارس البلاد؛ حينها سيزول هذا الشرخ بين هذه المؤسسات المجتمعية (المدرسة، البيت، الشارع)، ولن يعيش الطالب سوى شخصيةٍ واحدةٍ، هي شخصيته التي يجب أن يكون عليها في جميع أحواله، ومراحل حياته.

ومن المسائل الحساسة التي اُشير إليها، بوجلٍ وخجلٍ، هي مسألة الدين كمادة دراسية، وكيف أنه يمكن أن يشكل عقبة في طريق تطور التلاميذ ونموهم المعرفي، وقدرتهم على الإبداع، لأنه، بطريقةٍ ما، "يكمّم الأفواه" ويمنع التلميذ من البوح ببعض أسئلته، أو المعلم من الإجابة الواضحة والصريحة.

وبمجرد الاطلاع على أن جميع الأديان السماوية لم (تُكلِّف) طفلًا بأي فرض ديني، قبل بلوغه سن الرشد، ستزول هذه المشكلة من أساسها، لأننا سنجد التلاميذ في دائرة (المباح) طوال فترة التحصيل الابتدائي والمتوسط والإعدادي. فالمشكلة لا وجود لها أساسًا إلا في الأوهام.

وللكادر وهيئة التربية والتعليم وظيفة مصيرية بالغة الأهمية، وقد تناولت النقاشات بعض جوانب المشكلة وأضاءت إحدى زواياها، فهل "يمكن تغيير المناهج من دون تغيير الكادر والبيئة المادية المتوفرة؟"، أو يفترض الحل الجذري افتراضًا لا حيدة عنه؟

تشير الخبرات المنقولة إلينا من بلدان نجحت في مجال التربية والتعليم نجاحا باهرًا، إلى أن للبيئة المادية، والموارد العلمية المتمثلة بالكادر التدريسي التعليمي أهمية قصوى، ولكنها تشير أيضًا إلى برامجَ ضبطٍ وتأهيلٍ وتطويرٍ وتحديثٍ يُعرَّض لها الكادر بشكل دوريٍّ، سنويٍّ مستمرٍ ودائمٍ. فمهما بلغت درجات استقرار الدولة ورفاهيتها، تبقى عجلة العلم والتقنية والحياة متحركة نامية متفاعلة ديناميكية، تحتاج إلى مزامنةٍ ومعاصرةٍ ومواكبةٍ وتحديثٍ ومواءمةٍ.

وبتعبيرٍ مختلفٍ، لا يغني استبدال الكادر القديم، بآخر جديدٍ، عن الحاجة إلى الدورات التدريبية والتطويرية والتحديثية الدائمة، وعليه لا حاجة، في وضع كوضع العراق، إلى تغيير الكادر – على افتراض تغيير المناهج -بقدر حاجته إلى ضبطه وتطويره وتأهيله ومزامنته للمناهج الجديدة التي لن تكون جديدة كليًّا، بصورةِ طفرةٍ مَنَاهجية وتربوية، إنما بشكلٍ تدريجي لا يخرج الوضع التعليمي عن السيطرة.

ومن الإجراءات التي دفعت حركة التعليم – في بلدان اخرى- إلى مدياتها القصوى، تشكيل هيئة علمية متخصصة لفحص قدرات المعلمين الذهنية، واكتشاف صدق رغبتهم في مزاولة التعليم والتربية، وتقييم مستواهم النفسي، واختبار إمكاناتهم الذاتية في منح تلاميذهم القدرة على الإبداع والتفكير والبحث والتحليل، كل ذلك من خلال تشكيل مجلس أعلى للتربية والتعليم، يتكون من أعضاء يتمتعون بالكفاءة العالية في مجال التقويم والتقييم ومتابعة المعلمين قبل ممارسة التدريس، وأثنائه.

ومن النقاط الجديرة بالملاحظة في هذا المجال، جعل الهدف من التدريس هو العلم، والاكتشاف، وتنمية الذهن، بدلًا من التوظّف في إدارات الدولة ومؤسساتها، أو الحصول على التقدير الاجتماعي والوجاهة القَبَلية، أو غير ذلك من الأهداف الساذجة. ومن شأن هذا التحويل أن يقطع الطريق أمام التزوير، والغش، والمحسوبية، وما شاكلها، ويغلق بابها إلى الأبد، لأنه لن يكون بمقدور أيٍّ كان أن يحصل على الاعتراف الرسمي بتأهله واستحصاله على شهاداته، إلا من خلال كفاءته، ونجاحه، وشهادة الهيئة العلمية والتدريسية له بالجدارة والاستحقاق.

ولا يفوتنا أن نؤكد أن جميع الملاحظات أعلاه، وسواها مما يرتبط بالمنهج، ومفهوم التعليم والتربية، والخطط، والتدابير، المطروحة والممارسة في بلدان نجحت في هذا المجال، متوفرة، بشكل أو بآخر، في بلداننا، ولكنها لا تفتأ تسجل فشلًا ذريعًا في كل عام، مما يجعلها تتذيل قائمة الدول الأكثر نجاحًا في مجالي التربية والتعليم. وهو ما يؤكد عقم منهج استيراد المفاهيم من أرض إلى أرض مختلفة، متفاوتة، في مناخها الثقافي، وبيئتها التي تتميز بخصوصيتها واختلافها.

وبتعبير آخر، لا يصح اقتلاع مفاهيم التربية والتعليم من بيئة مختلفة عن بيئتنا، ثم محاولة غرسها في تربتنا، لأنها بالتأكيد، لن تخلف سوى المزيد من ضياع الوقت والمال والجهود. ولا يشمل هذا سوى العلوم الإنسانية دون العلوم الطبيعية، لخصوصية كل منهما. ولذلك توضيح لا تسعه هذه الورقة، ولا هو من أغراضها. والحل يكمن في التجريب، ثم تقويم التجربة، ثم إصلاح الخلل الذي تبديه التجارب وممارستها، ثم تعميم نتائج التجربة، ولا يتم التجريب إلّا في نطاق ضيق، ومجال محدودٍ، لحين التأكد من نجاعة المنهج الجديد بعد اختباره واصلاحه.

كل ذلك يتم بعد الانتقال من مرحلة اقتراح البرامج المؤقتة، والمنقطعة، إلى مرحلة الاستراتيجية التعليمية، بمعنى مغادرة أسلوب المنظومة التعليمية، والرحلة إلى أسلوب السياسة التعليمية، ذات الخطط الطويلة النفس، التي يكمل جيل المعلمين اللاحق، ما بدأه الجيل السابق.

وفي النهاية، نقترح كتابة ميثاق وطني للتعليم والتربية، يؤكّد فكرة وضع سياسة طويلة الأمد، تتكفل تعليم وتربية أبناء الحاضر والمستقبل، بالشكل الذي يؤهلهم، بجدارة، إلى فعاليات مصيرية، كالمشاركة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، بالمستوى الحضاري الحديث الذي يضمن الرفاهية والسعادة والأمن والاستقرار. فلكل بلدٍ، إن أراد أن يملك زمام نفسه، كوادره وكفاءاته التي تدير جميع مفاصله، من قمة هرم الدولة إلى قاعها وقاعدتها، وما لم تكن مناهج التعليم، قادرة على صناعة هذه الكوادر، فسيبقى البلد بلا سيادة تامة، ولا استقلال حقيقي.

وختامًا، يرجى من الأعضاء تطوير هذه الورقة، وما فيها من اقتراحات كانوا هم من أثار غبارها، وأهاج نقعها، لتنكشف عن همم صلبة، وإرادات قوية، ونفوس مثابرة، تعيش عراقها، وترفد نهريه بالحب والصدق والإخلاص.

 

بقلم: علاء شدهان القرشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم