صحيفة المثقف

بستان الياسمين أو يوتوبيا المثقف المشيدةعلى أنقاض الحرائق

ليث الصندوقثمة شفراتٍ أو نظاماُ فكريّاً مشتركاً يتقاسمها النص في رواية ناطق خلوصي (بستان الياسمين) مع القاريء – العراقي تحديداً – تجعل من الأحداث قريبة وأليفة إليه، بل ربما يجد القاريء فيها نفسه طواعية قد وقع ضحية تلك الأحداث المؤسفة وتبادل مع أبطالها الأدوار ليكمل مسيرتهم من النقطة التي توقفوا عندها مستسلماً مهمة السرد الإفتراضي البراني – حسب سنن الرواية - من الراوي المفارق أو من الكاتب الذي لم يكن في حسبانه أنه سيمكّن قارئه من التمرّد عليه وتجاوزه ومن ثمّ عزله وتولي مهمته . والسرد الإفتراضي – ما وراء اللغوي – هو المتعة الحقيقية التي يتوخى كل أديب أن يوفرها لقرائه، ففيه يتحول النص إلى حياة، وتتحول الكتابة إلى مشروع قابل للتحقق والتنفيذ ضمن أفق توقعاته، وبه أيضاً يتحول القاري إلى مؤلف، أو - أن شئت - إلى مؤلف مشارك يتقاسم مع المؤلف الأول نصاً واحداً ورؤية مفتوحة للتأويل باتساع خيالين . والشفرة المشتركة التي يتقاسمها القاريء والنص معاً جاءت من سياق مرجعي واحد يمثله واقع العراق الدامي في مرحلة الإحتلال الأمريكي وما بعده، وما نجم عنه من ظواهر بعضها غريب عن طبيعة النسيج الإجتماعي، وبعضها الآخر ليس بغريب ولكنه نادر ومحتجب، ثمّ جاء الإحتلال ليرفع – تحت شعارات ملتبسة - عنه الاحتجاب فيستفحل وينتشر ويتحول من إطار الندرة إلى إطار الظاهرة .

هذه الظواهر / الشفرات يتناولها الكاتب بشكل ينأى بها عن المباشرة الفجّة من خلال مرشحة ناقدة بحساسية مفرطة يمثلها الشاعر مسعود مسعود . ومرور الأحداث من خلال هذه المرشحة أو الشخصية المثقفة ليس بجديد على ناطق خلوصي، بل هو أحد مميزاته التي ربما لا تخلو منها إحدى رواياته . ولعله بهذا النوع من الشخصيات المشعّة اجتماعياً وثقافياً يجسّد رؤيته للأدب باعتباره رسالة ذات هدف إجتماعي يتبوّأ فيه المثقف الدور الذي يستحقه في تشخيص وإدانة الظواهر السلبية وقيادة المجتمع بما يساهم في الحفاظ على الضمير والروح من التلوث والفساد .

أما بستان الياسمين فهو اليوتوبيا التي يحلم بها المثقف للتحرر من أسر الخوف تحت سلطة الإحتلال أو ما خلفه من فوضى ومن قوة غير منضبطة وفساد . ومن الواضح أن المقابلة ما بين الوطن والبستان تظل قائمة دائماً، فما مشروع الشاعر مسعود مسعود – وهو الشخصية المحورية - في إقامة بستان الياسمين سوى محاولة استعارية لتعويض الوطن المحترق بآخر مزدهر، وما دور مسعود كشاعر في بناء الوطن البديل سوى إحالة رمزية إلى حلم المثقفين بذلك الوطن، وطموحهم في بنائه . وتستقيم تلك الإحالة في كون البيت الجديد في بستان الياسمين / ألوطن البديل هو نسخة مماثلة من البيت القديم، وعبر هذا التماثل تنتقل روح الوطن الأول إلى هيكل الوطن الجديد المزدهر / اليوتوبيا لتبقى الروح هي الروح على سجيتها الأولى دون تغيير في النسختين .

هذه القراءة لن تتطرق إلى قناعات الكاتب العقائدية، ولا إلى الظواهر التي التقطها من خلال مرشحته الناقدة، ولكنها ستحاول النفاذ إلى الآلية التي استوعبت تلك القناعات وتلك الظواهر وقدمتها للقاريء على شكل لوحة فنية منزهة من أحكام القيمة ومن مفردات اللغة الأيدلوجية الصاخبة والإدانات العقائدية المباشرة لتحولها إلى نص ذي شعرية هادئة وأسلوبية سلسة . والآلية التي أعنيها تتمثل في بناء النص الواحد من مستويين، ينفصلان أحياناً، ويتداخلان أحياناً أخرى من دون أن يفقد أي منهما خصائصه النوعية جراء ذلك التداخل . وربما يكون هذان المستويان هما اللذان عناهما الأستاذ حسب الله يحيى في تقريضه الوجيز على الغلاف الأخير من الرواية دون أن يتيح له الحيز الضيق فرصة أن يتطرق إلى طبيعة ومواصفات المستويين، ورصد أبعادهما الزمنية، وتوزيع المقاطع النصية ما بينهما، والدوافع الموضوعية التي كانت وراءهما، وهذا ما تطمح إليه هذه القراءة .

الصفتان النوعيتان اللتان تميزان كل مستوى عن الآخر هما الزمان والشخصيات، فالزمن في المستوى الأول هو زمن الحدث الذي هو في الوقت ذاته زمن الخطاب، ويمكن أن نفترض أنه زمن الحاضر تمييزاً له عن زمن المستوى الثاني (الذي سنأتي عليه لاحقاً) . وتزمين هذا المستوى يبدأ مع السطر الأول من الرواية برنة الجرس ودخول طالبة الماجستير الشابة سالي إلى بيت الشاعر مسعود مسعود للحصول على معلومات تفيدها في إعداد بحثها الأكاديمي لمرحلة الماجستير عن تجربته الإبداعية . ومن الواضح مما سبق أن الشخصيتين المحوريتين الفاعلتين في بداية هذا المستوى هما الشاعر مسعود والطالبة سالي، ولكن الأمر يختلف فيما بعد إذ مع توالي المقاطع النصية تنزاح سالي إلى ما وراء شخصيات أخرى تمثل دائرة علاقات مسعود الأسرية القريبة، والبعيدة أحياناً مثل ربيعة صديقته في بيروت . وإن كان الزمن في المستوى الأول – وكما بينا أنفاً – هو الحاضر، وسيبقى كذلك دون ارتداد إلى الوراء، إلا أن سير الزمن في المستوى الثاني يبدأ من الوراء باتجاه الحاضر ولذلك تتوالى أحداث هذا المستوى على شكل مونولوجات تسترجعها الشخصية المحورية / مسعود . ومع توالي الأحداث في هذا المستوى وتسارعها وهي تتعاقب زمنياً باتجاه الحاضر، في مقابل تباطؤ وخفوت إيقاع الأحداث وبقائها أسيرة الحاضر في المستوى الأول، تتراجع ظاهرة التعاقب ما بين المستويين وتحل محلها ظاهرة التزامن، ولم يعد لاسترجاع الماضي من ضرورة، وبذلك يهيمن على الرواية مستوى زمني واحد هو مستوى الحاضر الذي يمكن اعتباره ضمن المستوى الأول بدءاً من منتصفها وحتى نهايتها مع استثناءات قليلة لا تتعدى بضع سطور كاسترجاع مسعود ذكرى زواجه وهو يستلقي على السرير في أعقاب زواج إبنه نائل كما في المقطع النصي الخامس والعشرين، حيث يعبر عن شحة المسترجع بعبارة تجمع ما بين شحة خزين الذاكرة وشحة الخطاب (لم يبق من تلكم الليالي والأيام سوى صفحات شاحبة من الذكريات . ص / 159) . أما من حيث الشخصيات فإن ما يميز المستوى الثاني أن أحداثه تدور بكاملها حول واحدة فقط من الشخصيتين المحوريتين، وأعني بها شخصية الشاعر مسعود وفي فلكها تدور كل الشخصيات الثانوية المقربة منه أسرياً، أي باستثناء سالي ودائرة علاقاتها الخاصة . ولهذا الإستثناء دلالاته ودواعيه وذلك لأن بداية زمن المستوى الأول – كما بينا آنفاً - جاءت مع قرع سالي الجرس في بيت مسعود، وتلك آلية غير مباشرة لتزمين المستويين باعتبار أن القرع محدث، بينما البيت / المكان قائم وسابق عليه لذلك من البداهة أن تكون مرحلة ما قبل القرع / المستوى الثاني خالية من القارع / سالي، ومن دائرة علاقاتها بالكامل بالرغم من أن بعض عناصر تلك الدائرة على معرفة سابقة بمسعود مثل ألمشرف على رسالة سالي الدكتور أشرف شاهين .

ولعل الضرورة التي أملت أن تتشكل بنية الرواية من مستويين هو البحث في ماضي المستوى الثاني عن الدوافع السلبية التي أطاحت بتماسك عائلة مسعود وفتتتها إلى قسمين، قسم ما زال يلتمّ حوله في بغداد، وقسم هاجر للعيش في بريطانيا (إبنه وزوجة إبنه وحفيده) . وقد جاء ذلك التفتيت كنتيجة حتمية للفوضى السياسية والأمنية التي أعقبت تشكل السلطة في مرحلة ما بعد الإحتلال . بيد أن البحث في ماضي المستوى الثاني لا يتوقف عند هذا الحد بل يخترق المستوى الأول للكشف عن القوى الإجتماعية الجديدة التي فقست عنها بيوض الإحتلال والتي استفادت من الفوضى وشكلت قوتها السياسية والإقتصادية الهائلة، لنتبين في النتيجة من تلك المقابلة ما بين الزمنين او بالأحرى ما بين المستويين أن الخسائر التي كابدتها عائلة مسعود - وهي كناية للطبقة المثقفة والواعية والمستقرة تاريخياً وأخلاقياً - ما هي إلا نتيجة من نتائج صعود الطبقة التي تنتمي إليها سالي وعائلتها، وهي على العكس من العائلة الأولى كناية للعوائل الطارئة وحديثة النعم والمنحطة ثقافياً وقيمياً التي جاء بها الإحتلال ومكنها من الصعود .

ينساب نهر الرواية عبر دفق من الأمواج / المقاطع النصية غير المرقمة أو المعلمة، والمفصولة عن بعضها بسلسلة ثلاثية من النجوم . ويبلغ عدد المقاطع النصية أربع وأربعون مقطعاً تتباين عن بعضها في الأطوال، فما بين مقطع لا يتجاوز طوله نصف الصفحة إلى آخر يتجاوز الثلاثين صفحة كما في المقطع النصي السابع والعشرين المحصور ما بين الصفحتين (134 – 162) . وتتوزع المقاطع النصية على المستويين كالتالي :

- المقاطع النصية المنتمية للمستوى الأول / 38 مقطعاً نصياً

- المقاع النصية المركبة من المستويين / 6 مقاطع نصية

ويلاحظ عدم تخصيص أي مقطع نصي بالكامل للمستوى الثاني لأن استرجاعاته جاءت أصلاً ضمن سياق أحداث المستوى الأول . وإن كان تخصيص المقاطع النصية بالكامل لمستوى واحد ليس بحاجة إلى تسويغ، إلا أن أغلب المقاطع النصية المركبة جاءت ضمن سياقات محددة وبدوافع ومسوغات سنتطرق إليها لاحقاً .

اما التبئير في الرواية، فعادة ما يتم في المستويين من خلال الراوي المفارق الذي يُبقي رؤيته من الخارج، ويبلغ السرد البراني ذروته حين يحجم الراوي المفارق حتى عن رصد الظاهر ويلجأ إلى توريط المروي له في ذلك باستخدام (لو) الشرطية كأداة امتناع لامتناع مما يعني مسبقاً أن باب الرصد والتوصيف لم يكن مغلقاً أمام الراوي فحسب بل هو كذلك أمام القاريء أيضاً (هاتف سالي وقال لها أنه مشغول هذه الأيام بمشاغل عائلية يتعذر عليه معها أن يستقبلها في مكتبته، ففوجئت بما قال، ولو كان أحد إلى جوارها تلك اللحظة لانتبه إلى أن الشحوب لوّن وجهها باصفرار فاقع . ص / 134) ومع ذلك فالشخصية الهلامية المفترضة المعبر عنها بمفردة (أحد) والتي أراد الراوي إشراكها معه في تبئير المشهد لم تنجز المهمة لأنها غائبة أصلاً، ولكن الراوي أوهمها بقدرتها على ذلك فيما لو كانت تلك اللحظة حاضرة إلى جوار سالي .

، أو قد يتم التبئير من خلال متحسسات مسعود التي تلتقط على غرار الراوي الإنطباعات المقابلة من دون ان تتجاوز الظاهر او أن تدعي العلم بأكثر مما تعرفه الشخصيات، ولذلك تظل الحيرة وعدم التقدير الدقيق والوقوف عند حدود المعلن وعدم إحراج الآخر بكشف كامل أوراقه هي سمات مسعود التبئيرية والتي عادة ما يعبر عنها بصيغة تساؤل داخلي أو يبقيها ضمن حدود الاعتقاد الذي ربما يعني الشكّ (فساوره شيء من الشكّ حول سرّ هذه الإبتسامة الماكرة المتبادلة . ص / 93) أو (فانتهزت الأمّ وإبنتها فرصة غيابه في المطبخ وصارتا تتهامسان حتى إذا عاد قطعتا ذلك الهمس فصار في اعتقاده أنهما تعدان شراكاً خفياً ربما للإيقاع به . ص / 93) بل أنه حتى حين يخمن الاحتمال المرجح يحتفظ به لنفسه ولا يكشف عنه للراوي المفارق الذي ربما سيسارع لكشفه للمروي له / القاريء، وهذا ما يرشح من حديثه المقطوع مع أم سالي وهي تشكو إليه عجز زوجها الذي من الواضح أنه عجز جنسيّ :

- أنا حزينة على زوجي العزيز

- لماذا لا سمح الله ؟

- إنه عاجز . أتعرف ماذا يعني ذلك ؟

فأدرك ما تقصد فلم يردّ على سؤالها .

ص / 96)

بيد أن هذه السمة التبئيرية المخصوصة بمسعود لا يعبر عنها بصوته، بل هي تنتقل إلى الراوي وتجيّر له، ليعبر عنها بصوته ما دام هو الصوت الوحيد (المقروء) :

- سأل نفسه، هل كان ضرورياً ان يتيح لها فرصة رؤية مشهد الإلتحام الجسدي . ص / 48

- نظر إليها حائراً . ص / 51

- تمعن بها جيداً، هل هذه نسرين التي كان قد قد التقاها قبل سنوات ؟ خانته الذاكرة في أن يسترجع صورتها الماضية التي لا يعرف عنها شيئاً، ولم يُتح لصورة الحاضر التي هي عليها الآن أن تمنحه انطباعاً جيداً عنها . ص / 77

- لا يعرف حتى الآن سبباً لإلحاح سهير في التعبير عن رغبتها في المجيء إلى بغداد . ص / 83

- لم يسألها عن السر الحقيقي وراء ذلك لأنه لم يشأ إحراجها . ص / 87

وأحياناً يُدرك مسعود ما وراء الظاهر، لكنه يصرّ على أن يبقى على السطح تاركاً للآخر الذي يشترك معه في ذات المشهد ان يكشف له ما يستبطن (لم يصعب عليه ان يفهم ما تقصد لكنه تظاهر بأنه لا يعرف ما تقصد . قال :

- ماذا تقصدين ؟

- ضحكت ساخرة :

- غشيم المسكين

ص / 81)

وفي محاولة لتفكيك بنية المقاطع النصية المركبة من المستويين نختار ألمقطع النصي العاشر كنموذج نوعي، وهو من المقاطع الطويلة ويمتد عبر المسافة ما بين الصفحتين (46 – 77) وفي هذا المقطع سنجد أنّ التمييز ما بين المستويين يتعدى عنصري الزمن والشخصيات إلى المظهر الطباعي بالحروف السود الفاتحة للمستوى الأول والبارزة للمستوى الثاني – حسب تعبير الأستاذ حسب الله يحيى - وبالحصر ما بين قوسي الابتداء والختام للمستوى الأخير . والملاحظ على هذا المستوى (الثاني) في هذا المقطع النصي أنه يتوافق زمنياً مع المستوى الأول، ولكنه يختلف عنه بتخصيصه بالكامل لمسعود وسهير زوج إبنه .

إن انسلال سالي ومرويتها من هذا المستوى بالكامل وحضور سهير الموهوبة من دون ادعاء ولا طموح هو حضور تعويضي عن الموقع الجديد الذي تحاول سالي المدعية فرضه على مسعود . ويلاحظ أن التداخل ما بين المستويين قد دفعت إليه ظروف موضوعية وليست فنية فحسب، فانقطاع التواصل السردي ما بين سالي ومسعود بعد إكمالها الفصل الأول من دراستها من جهة، ومن جهة أخرى اضطرار مسعود إلى المكوث في البيت تلافياً لمفاجآت الاضطراب الأمني وعدم الاستقرار في الشارع جعلا مستوى مسعود / الثاني قابلاً للانفتاح على شخصية تعويضية من ضمن دائرة علاقاته الأسرية يكمل معها جزءاً من مستواه السردي الخاص، وهذه الشخصية هي سهير .

يتعاقب المستويان في هذا المقطع النصي على سبع مراحل وكالتالي :

ألمرحلة الأولى : مكونة من بضع سطور من مروية المستوى الأول إمتدت على جزء من الصفحة (46) .

ألمرحلة الثانية : مع انتهاء المرحلة الأولى، ومع بداية سطر جديد، إنفتح عند منتصف الصفحة 46 - وبعد علامة تنصيص ممثلة بقوس إبتدائي – فضاء المستوى الثاني، لينتهي مع غلق القوس عند منتصف الصفحة 51 .

ألمرحلة الثالثة : تنتمي إلى المستوى الأول وتبدأ من منتصف الصفحة 51 بمكالمة هاتفية ما بين مسعود والمشرف على رسالة سالي الدكتور أشرف (والأسم هنا له دلالة معاكسة ومتوافقة في وقت واحد، فهي معاكسة لأن الرجل يفتقد سلوكياً للنزاهة الأخلاقية والشرف الأكاديمي، وهي متوافقة مهنياً مع الرجل لأنه المشرف على رسالة سالي للماجستير) . وتنتهي هذه المرحلة عند الثلث الأخير من الصفحة 55 .

ألمرحلة الرابعة : وتنتمي إلى المستوى الثاني، وتبدأ من الثلث الأخير من الصفحة 55، وتنتهي مع السطور الأخيرة من الصفحة 71 .

ألمرحلة الخامسة : وهي ضمن المستوى الأول، وتمتد بدءاً من نهاية الصفحة 71 وحتى منتصف الصفحة 73 حيث يتداخل المستويان الأول والثاني عبر رسالة استلمها مسعود من زوجة إبنه المهاجر سهير تعلن له فيها ولادة شخصية سردية جديدة هي مسعود الحفيد التي لن تكون لها فعالية سردية بينة، لكن لوجودها سيكون أثر على فعاليات الشخصيات القريبة منها (الجد / الأم / الأب) كما أن وجودها الهامشي شبه المعطل سيكون سبباً في استنبات وتفعيل شخصية أخرى هي الفتى وسام الذي يُعنى به ويدفع عربته، مما يعني أنه بإمكان الشخصيات الهامشية أيضاً أن تستبطن طاقة سردية مؤثرة على فعاليات الشخصيات المحورية .

ألمرحلة السادسة : إن استلام مسعود للرسالة ضمن أحداث المستوى الأول – كما ورد في المرحلة الخامسة آنفاً - أحدث حالة استرجاع ردته إلى زمن سابق حُصر ما بين قوسين ضمن أحداث المستوى الثاني بدءاً من منتصف الصفحة 73 وحتى نهايتها .

ألمرحلة السابعة : وهذه المرحلة تنتمي للمستوى الأول، وتبدأ بالسطر الأخير من الصفحة 73 من دون أن تكون هناك علامات تنصيص، فالمستوى يكشف عن نفسه من خلال تخصيصه لشخصيتي مسعود وسالي . وتنتهي هذه المرحلة مع انتهاء المقطع النصي في الصفحة 77 .

وفي حين تصبح المقاربة ما بين موقع سالي أمام سهير لدى مسعود أقرب إلى المقارنة غير المتكافئة التي تميل فيها الأرجحية نحو الثانية، تبرز مقاربة أخرى هي أقرب إلى المقارنة المتكافئة، ولكنها هذه المرة مقصودة بتعمد ما بين رؤيتين في موضوعة إشكالية واحدة لشخصيتين أولاهما حاضرة، بالرغم من أنها شخصية تخييلية، والثانية غائبة، بالرغم من أنها تاريخية . ألرؤية الأولى تنتمي إلى سهير، والرؤية الثانية هي رؤية الكاتب ذاته (ناطق خلوصي) الذي – بالرغم من تعمد إغفال إسمه - حضر من خلال التذكير برواية سابقة له هي (تفاحة حواء) بيد أن حضوره هذا ضمن فضاء تخييلي كان محاولة لإيهام القاريء - الذي لم يطّلع على أعمال الكاتب السابقة - بأن تلك الرواية هي أيضاً عمل تخييلي لكاتب مفترض . أما الموضوعة الإشكالية فتتمثل بتجاوز المحددات العرفية للحب . وفي هذه المقاربة تتوافق وتتكافأ الرؤيتان بالرغم من أن سهير لم تؤكد ذلك خطابياً، بل أكدته سلوكياً .

وقد يطرأ ثمة انحراف عن مواصفات المستوى الأول مع بقاء مواصفاته الأخرى دون أن يتسبب ذلك في إحالته أو ضمّه تلقائياً إلى المستوى الثاني، ولعل أبرز تلك الانحرافات خلو هذا المستوى من إية إشارة عن سالي كما في المقطع النصي الثالث عشر (ص / 83) ولكن الحالة ستتكرر فيما بعد حتى لتوشك المقاطع النصية أن تخلو تماماً من فعل لها أو ذكر، حيث تبدأ الشخصيات بالانتقال من المستوى الثاني إلى الأول، وبانتقالها يتوحد زمنا المستويين وتتلاشى آلية الإسترجاع ويهيمن المستوى الأول على كامل بنية الرواية بدءاً من ثلثها الثاني حتى نهايتها . وبغياب سالي ظلت الملامح الأخرى للمستوى الأول مستقرة وتشير إليه، فأحداثه تدور بالفعل في الحاضر ولا تُسترجع من الذاكرة كما هي حال أحداث المستوى الثاني بالرغم من الشخصيات المشاركة لمسعود في هذا المقطع جاءت معه من الماضي مثل سهير ووائل، وهاتان الشخصيتان لم تنبتا فجأة من الحاضر كما نبتت شخصية سالي في مروية مسعود . وقد ورد المقطع النصي الثالث عشر بحروف سود فاتحة تمييزاً له عن المستوى الثاني ذي الحروف السود الغامقة وتأكيداً لانتمائه إلى المستوى الأول الذي أشرنا إليه . واللافت أن ما يميز هذا المقطع النصي عن سواه أنه يتضمن قصيدة من الشعر الحر (قصيدة تفعيلة) من (مخبون المتدارك) للشاعر مسعود وما إدراج القصيدة سوى تأكيد لصفته كشاعر . وفي القصيدة إحالة إلى (بستان الياسمين) الذي تحول إلى (بستان الورد) نزولاً عند ضرورات الوزن الشعري . ولعل ملامح يوتوبيا المثقف الذي حلم بها مسعود تتجلى في هذه القصيدة من خلال عكس مواصفات الإنسان / الشاعر على البستان / اليوتوبيا، والمكان / اليوتوبيا على الشاعر فكلاهما صورة للآخر، وكلاهما يعيش داخل الآخر، بينما تقف المرأة / سيدة بستان الورد بينهما متنعمة بما يغدقه عليها كلاهما من ألفة وحب . ولأن الشاعر أحد أطراف ثلاثية (اليتوبيا / المرأة / الشاعر) أذن لا بدّ من حضور طرف رابع معه لم يفارقه منذ أن جهر أول بلبل بالغناء وهو شيطان الشعر، ولكن حضور هذا الطرف في بستان الياسمين لم يكن من أجل الإنضمام إلى الشاعر أو من أجل أن يكون – كما عُعِد عنه – أداته الطيعة المنفذة لمؤامراته اللغوية، ولكنه جاء ليخضع لإرادة المرأة ويستسلم لإغوائها (أيليق بسيدة أن تسهو وتغازل شيطان الشعر . ص / 85)

ينفتح المقطع النصي العشرون على شخصية ملتبسة هي ربيعة العراقية التي تدير بيتاً للدعارة في بيروت، والتي التقاها هي وإبنتها ميس - بعد غياب سنوات طوال - خلال سفرة له إلى لبنان لتنفيذ مشروع ثقافي . وبالرغم من ان مهنة ربيعة تتعارض مع قوانين البلد الذي لجأت إليه، إلا أن مسعود لم يجرأ – بالرغم من مبدئيته – أن يتوافق مع القانون ويصفها بما يتعارض مع عواطفه وغرائزه الإنسانية، وظل يتعامل معها بحميمية وألفة . لقد خرجت هذه الشخصية الديناميكية بالحدث من الإطار الذي رسمته علاقات مسعود، إلى إطار آخر كشف خلاله عن جانبه العاطفي الخفي الذي ظل يواريه عن القاريء، بل يتخذ منه مصدات في مواجهة اندفاعة سالي أو أمها أو نسرين . بيد أن يقظة ضمير ميس التي تعمل مومساً في ماخور أمها ما لبثت أن غطت على الجانب الذي كشفه مسعود من شخصيته، وأوقفت اندفاعه الغريزي والعاطفي وأعادته من جديد إلى مبدئيته القيمية والأخلاقية وذلك بإثارتها معه قضية لم يكن يحسب لها حساباً، أنها قضية التطهر من رجس الواقع الذي تعيشة والمهنة التي أجبرت عليها . بيد أن المباشرة التي انطوى عليها طرح ميس أخفت في طياتها المزيد من الإيحاءات الرمزية، فقد ربطت موضوعة التطهر بالعودة إلى الوطن، وبذلك، ومن حيث لا تدري صار الوطن بالنسبة إليها هو المطهر . ولعلّ الإلحاح على التطهر / العودة سيكون أكثر صدقاً عندما يكون المَطهر / الوطن هو في الحقيقة جحيم يهرب منه أبناؤه / المطهرون ومنهم إبن مسعود الكبير وائل الطبيب الجراح . أما مسعود الذي جاء من مطهره في بغداد متلبساً مسوح القديس ليلقي نفسه في أتون الخطيئة في بيروت، فقد وجد نفسه يعود إلى دوره الأول من جديد ليؤدي دور القديس وليلبس مسوحه الذي خلعه، أي صار لزاماً عليه أن يسند رغبة المخطيء / ميس بالتوبة / العودة إلى الوطن، وبذلك وجد أن توافقه مع أمها تحول إلى تضاد وصِدام أنتهيا بإصراره على تحكيم قيمه ومبادئه في حل الإشكال من خلال احترام رغبة ميس من جهة، ومن جهة أخرى من خلال موافقته على الإعتراف بأبوته للجنين الذي تحمله ميس في أحشائها إذا ما أثبتت التحاليل أنه من صلبه . وقضية ارتباط فكرة التطهر بالعودة إلى الوطن تقابلها فكرة أخرى معاكسة هي ارتباط الخطيئة بمغادرة الوطن . وإن كانت الفكرة الأولى قد أثارتها رغبة ميس بالعودة، إلا أن الفكرة الثانية المعاكسة هي ما يمكن أن يرشح عن تمحيص قضية أمها . فقد كانت في وطنها سيدة محترمة (تجمع بين الفتنة والفطنة والجرأة وحسن التدبر . ص / 106) إضافة إلى أنها (أرملة ضابط استشهد في الحرب . ص / 106) ولكنها بمغادرة فضاء المطهر / الوطن غادرتها طهارته أيضاً فتحولت إلى شخصية أخرى مغايرة .

وكما ورد آنفاً، فارواية بدأت بفعلين يرتبط أحدهما بالآخر ويكمله (قرع / الجرس) و (فتح / الباب) الفعل الأول ارتبط بسالي، والفعل الثاني بمسعود . والفعلان لهما دلالات إيجابية في الفولكلور العراقي والذاكرة الشعبية، فكلاهما يختزنان معاني البشارة، أو المفاجآت السارة، إلا أن صيرورة الأحداث لم تؤكد إيجابية تلك المعاني دائماً، وذلك لسلبية الحافز الدافع لفعل الطرق من قبل الطرف الأول، فقد تبين أن سالي لم تكن سوى الوجه الجميل والمخادع للفساد، على عكس مؤدي الفعل الثاني الذي احتفظ بإيجابية فعله الأول حتى النهاية ليشهد في الختام انتصار إيجابيته ممثلة بنجاحه في إنشاء يوتوبياه / بستان الياسمين والإصرار على المحافظة عليها، وعدم التخلي عنها للطارئين . وهذا الموقف الصلب والمتماسك ترميز لإصرار المثقفين الحقيقيين على عدم التخلي عن مواقع الريادة – لمن لا يستحقها – في اليوتوبيا التي يحلمون بها . وبينما كان مسعود يشهد انتصار إيجابيته، فهو على الضفة الأخرى سيشهد اندحار ثلاثي السلبية الممثل لكل أشكال الفساد من خلال :

- إحالة والد سالي للتحقيق بتهمة سرقة المال العام، وإصابته بالشلل قبل مثوله أمام المحققين، وهذا المآل لهذه الشخصية الإشكالية هو ترميز مركب لاندحار كل أشكال الفساد في المؤسسة الرسمية (المالي والإداري بل والسياسي أيضاً) .

- هروب المشرف على رسالة سالي للماجستير إلى جهة مجهولة، وهروبه هو رمز لاندحار الفساد في المؤسسة الأكاديمية .

- فشل سالي في مناقشة رسالة الماجستير، وهي الرمز الجامع لكل أشكال الفساد التي يمثلها أبوها والمشرف على رسالتها معاً .

وعلى عكس البداية التي شهدت حضور سالي وفرضها وجودها المزيف على الواقع الثقافي ممثلاً ببيت مسعود بتوسط من شخصية مزيفة وطارئة هي نسرين، تشهد الخاتمة انسحاب سالي التام من حياة مسعود الثقافية والإبداعية لتبقى يوتوبياه خالصة له، ولصفته الحقيقية المقرونة به / ألثقافة .

 

ليث الصندوق

.....................

(*) رواية (بستان الياسمين) ل - ناطق خلوصي – دار ميزوبوتاميا للنشر والتوزيع - 2018

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم