صحيفة المثقف

نظرية التواصل النقدية وأهمتها في تدبير الخلاف في الفضاء العمومي

الحسين اخدوشتكمن جدّة النظرية النقدية التواصلية في تحليل ومناقشة صنف من المشكلات المتصلة بالخلاف القائم في فضاء عمومي مشترك بين مواطني المجتمعات الديمقراطية المعاصرة. وممّا تثيره هذه النظرية إمكانية إجراء مناقشات بناءة ومسئولة قادرة على تسوية الخلافات القائمة، وذلك باعتماد مفاهيم سياسية وقانونية وأخلاقية تجعل الفرقاء السياسيين يتوصلون إلى توافقات حول قضايا مختلفة تخصّ بالأساس مسائل: الحقّ، المشاركة، الاعتراف، التفاعل، الديمقراطية، الحرية، التعاون، التفاهم، الإجماع.. الخ.

يحتل الفعل التواصلي بهذا الخصوص بؤرة هذه النظرية، خاصّة وأنّه يمثّل عماد أيّ نقاش عمومي يبتغي تحقيق تدبير عقلاني للخلاف حول مجمل القضايا الأساسية للحياة المدنية المعاصرة. ساهم هذا المفهوم في نقد التصوّرات الشمولية والمثالية للمجتمعات الغربية المعاصرة تحديدا، وذلك انطلاقا من كونها شهدت أزمات تواصلية برز فيها الخلاف الجدّي حول القضايا الراهنة للحياة المعاصرة المتأثرة بظاهرة المعولم (سوء الفهم، الإقصاء، التهميش، أزمة العدالة، آفاق الديمقراطية التشاركية، صدام القيم وتحاورها، صعود الأصوليات والقوميات..).

جعلت المستجدات المعاصرة المتّسمة بالنزاع حول القيم المفكّر الألماني يورغن هابرماس ينصرف إلى تأسيس تصوّر نقدية للتواصل، جاعلا من ذلك نظرية نقدية تضطلع بمساعدة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين لتجاوز أزمة الخلاف وتصادم الرؤى وسوء الفهم في الفضاء العام المشترك. استنادا إلى هذه النظرية الجديدة، اعتبر هذا الأخير العقلانية التواصلية ذات مشروعية عملية إجرائية تتوسّل بمنهجيات تحليلية تقوم على دعائم عقلانية، خاصّة منطق الحوار الذي يقعّد لكيفية إجراء محادثات ناجحة يسودها الاحترام.

رام هابرماس وغيره من تقعيد الحوار والمحادثة تحصيل مبادئ منطقية عقلانية عامة تمكّننا من إجراء حوارات نافعة وعملية. استند مبحث أخلاقيات المناقشة لديه هذا إلى مُتَرَتّبات المنعطف اللغوي للقرن العشرين، خاصّة فيما يتصل منه بتداوليات اللغة الطبيعية وبروز منطق الحوار الذي ساهم في تأسيس نظرية منهجية للفعل التواصلي. كان لهذا الأمر دورا حاسما في مقاربة مسائل السياسة والأخلاق في المجتمع المتعدّد وذلك لتحقيق التوافق والإجماع حول القضايا الخلافية الأساسية. جعل هذا التأسيس المنهجي للفعل التواصلي العقلانية الحوارية مطلبا سياسيا واجتماعيا يهدف إلى تجنب العنف في حسم النزاعات المحتملة داخل الفضاء العمومي.

وسعت توجّهات هذا المنظور من أخلاقيات المناقشة كما تحدث عنها كارل أوتو ابل وغيره من منظّري منطق الحوار، وكانت صياغة المفاهيم الإجرائية حول النقاش ضرورية لتحقيق سبل التفاهم في الفضاءات العمومية. فضلا عن ذلك، حاول هابرماس ترسيخ استعمال العقل في الفضاء العام بطريقة نقدية، وجعله خلفية نظرية توجّه فكرة المشاركة الديمقراطية التي نحاول الإجابة عن كيفية تحقيق الاندماج الاجتماعي في مجتمع متعدّد ومتنوّع، مثلما هو عليه الحال في المجتمعات الأوربية المعاصرة التي اصبحت موطن الجديد للعديد من المهاجرين والأجانب.

لقد كان مسعى هذا الأخير وراء هذه النظرية الجديدة توسيع فكرة الحوار من خلال نظرية للفعل التواصلي، ولقد كان ذلك عنده مدخلا حقيقيا إلى نظرية المشاركة السياسية، وذلك ما جعل فلسفة التواصل محورية جدّا في مقاربته للعقلانية الحوارية. لكن، ما هي ملامح هذه العقلانية الحوارية؟

أقام هابرماس نموذجه الحواري للعقلانية التواصلية من مداخل نظرية ومنهجية عدّة؛ كان أبرزها التوسّل بالأدوات المنطقية اللسانية المعاصرة، والتي ساعدته في إعادة بناء الفعل التواصلي من مدخل حواري لغوي. قاده بحثه النظري والمنهجي إلى الانفتاح على الفلسفة التحليلية، خاصّة فيما يتّصل بالفلسفة التحليلية، تحديدا فلسفة اللغة الطبيعية من خلال نظرية أفعال الكلام (Speech acts Theory) مع روادها البارزين من أمثال: أوستين، سورل، غرايس.

تعتبر نظرية أفعال الكلام تلك تطويرا مبتكرا لفكرة الحوار والمناقشة من خلال أفعال لغوية تتم عبر المحادثات. ورأى في ذلك ابتكارا توليفيا مثمرا، يربط الكلام بالفعل من حيث كون اللغة مؤسّسة اجتماعية تواصلية. وقد أخذ من التفريق الذي وضعه أوستين بين أفعال الكلام الخبرية التقريرية والإنشائية الإنجازية منطلقا منهجيا صالحا لتأكيد الطابع التواصلي الحواري للغة.

بيد أنّه سيقوم هابرماس بإدخال بعض التعديلات على هذه النظرية جاعلا من تداوليات اللغة كونية وشاملة، وليست محصورة فقط في سياق المحادثات الصغيرة بين المتكلّمين (J.H/ Ethique de la discussion). ثمّ انتقل، بعد ذلك، إلى صياغة تصوّرات عامة لسوسيولوجية الفعل التواصلي في اتجاه ربطه بالتصوّرات الليبرالية والنفعية للعقلانية التواصلية.

أصبح يتحدّث عن الفعل الأداتي والفعل الاستراتيجي، معتبرا الفعل الأداتي يتّجه إلى تحقيق النجاح من خلال السيطرة التقنية على العالم الموضوعي، ومن ثمّ فهو لا يعتبر فعلا اجتماعيا، مادام أنّه لا يتم عبر وسيط اللغة. بينما الفعل الاستراتيجي، في مقابل ذلك، يعدّ فعلا إجرائيا يتم عبر اللغة، ويسعى إلى تحقيق النجاح. والواقع أنّه رغم كون الفعل الاستراتيجي يتم عبر وسيط اللغة، إلاّ أنّ نموذجا العقلانية والفعل الاجتماعي، اللذين تقدمهما النظريات الليبرالية المنفعية، يظلاّن نماذج مختزلة وأحادية الجانب. فضلا عن ذلك، أقرّ هابرماس أهمّية الفعل التواصلي لكونه يسعى إلى تحقيق التفاهم، في حين يبقى الفعل الإجرائي متعلّق بتحقيق النتائج والمصالح فقط.

كان تركيز هذا الأخير على دور اللغة في المجتمعات المعاصرة حاسما في إبراز حدود ما يمكن تساهم به لخلق اتفاق عام حول القضايا الخلافية؛ بالتالي، تحقيق حالة من التوافق والتفاهم العام عبر تواصل ناجح وفعّال (J.H/ Morale et communication). ويسعى الفعل التواصلي مع هذا النموذج الحواري، إذاً، إلى حصول تفاهم منشود بين المتحاورين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين؛ وهذا ما يجعل الفعل التواصلي فعلا متمّيزا عن الأفعال الأخرى: كالفعل الاستراتيجي، والفعل الأداتي والإجرائي J.H/Théorie de l’agir communicationnel) ).

هكذا، يبرّر دور الفعل التواصلي في حصول التفاهم انصراف هابرماس إلى تعزيز مكانة اللغة في مقاربة الإشكالات المطروحة للنظرية الاجتماعية، نافيا أن يكون للوعي دور في ذلك كما كان يعتقد قبله في ذلك بعض فلاسفة الوعي. وبذلك لعبت فكرة الأفعال الكلامية دورا محوريا في إيجاد التوافق والتفاهم بين الأطراف المشاركة في الحوار والتواصل دون ضغوط أو إكراه.

يعتبر حصول التفاهم هدفا للتواصل وإجراء المناقشات العمومية، لذلك لا تهتم النظرية التواصلية بالجوانب الصورية وتترك الجوانب التفاعلية مهمّشة. لذلك، رأى هابرماس أنّ عملية التواصل التي تسعى لتحيقي التفاهم، تقتضي بداية أن يكون المتداخلون فيها (الأطراف المتحاورة) لا يمارس الواحد منهم تأثيرا سيّئا على الأخر، لأنّ ذلك قد يفضي إلى فشل ذريع لمشروع الفعل التواصلي المراد حدوثه أثناء المناقشة.

وقد نبّه هابرماس إلى أهمّية تخطّي المخاطر التي تتهدّد عملية المناقشة الهادفة، والتي يأتي على رأسها بالخصوص الخطر الأوّل الذي يتعلّق بفشل التفاهم المتبادل والانشقاق وحدوت سوء الفهم. ثمّ الخطر الثاني، بعد ذلك، والمتعلّق بفشل مشروع الفعل ولإخفاقه إخفاقا تامّا حيث يكون تفادي الخطر الأول شرطا ضروريا لتجاوز الثاني (J.H/ Logiques des sciences sociales). فالتفاهم المراد تحقيقيه من الفعل التواصلي قابل للفشل دوما متى لم يتمّ احترام أخلاقيات المناقشة وقواعد الحوار الأخلاقية. والظاهر من ذلك أنّ هذا النموذج التواصلي للحوار يركّز على المقاربة التفاهمية للفعل التواصلي.

البيّن من هذا المنظور، إذاً، أنّ مفهومه للتواصل لا يسعى إلى إقصاء الذوات المتحاورة والفاعلة أثناء إجراء المتناقشات، بل يروم إشراك جميع الذين يخصّهم الحوار، كاشفا عن فكرة عدم تبعية ذات متكلّمة لذات أخرى. ولقد ركّز نموذج هابرماس على تحقيق تفاهم مشترك، ومبني على قناعات متبادلة بين المتحاورين؛ بالمقابل، تجّنب فَرْضَ الذات لذاتها على الآخرين. ولعلّ هذه السمة هي ما جعل نظرية هذا الفيلسوف للحوار عقلانية تواصلية ونقدية في آن معا.

 

الحسين أخدوش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم