صحيفة المثقف

القيمة السردية والروائية لدى الكاتبة المغربية زهرة رميج

الوارث الحسنالأفكار والتصورات منطلقات الكتابة عن الذات، رواية (أخاديد الأسوار) أنموذجا

سنتناول في هذه الورقة المتواضعة بالدرس والتحليل، موضوعا له ما يبرره من خلال مقاربة القيمة السردية والروائية لدى الكاتبة زهرة رميج، من حيث ما تنقله من أفكار وما تطرحه من تصورات ذاتية في بعض كتاباتها الروائية .

إن الكاتبة زهرة رميج في روايتها أخاديد الأسوار، تطرح الكثير من الأسئلة، تحاول أن تجيب عنها في نفس الآن بطريقة سردية متينة تعكس عمق المعاناة والصراع حول الأفكار واختلاف الرأي التي في مجملها سياسية، إبان فترة سياسية عصيبة عرفت في التاريخ الحديث بالحرب الباردة القائمة بين قطبي العالم آنذاك، المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي.

تلك الفترة كان العالم منقسما إلى إثنين، فريق مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، وآخر مع الاتحاد السوفياتي وحلفائها اليساريين والاشتراكيين، وبناء على هذا الانقسام السياسي والانتماء والميولات الإيديولوجية ترسم كل دولة سياستها وثقافتها وتجاربها الفكرية مع فريق ثالث سمي بدول عدم الانحياز.

أخاديد الأسوار، تلك الرواية التي اشتغلت على التداعيات التي تعكس كتابة اليوميات والخواطر الشعرية المسرودة . ففي الرواية شخصية واحدة محورية هي شخصية الزوج السجين ثم الميت فيما بعد، متأثرا بالآلام والأحزان التي خلفتها له الحياة . والزوج المناضل هو صاحب المشكلة ومشاعر الكاتبة هي تداعيات لمشكل السجن والموت.

إن الكاتبة تحكي قصتها مع هذا الرجل وأحيانا تسلم له خيط السرد ليتقمص دور الحكي، الرواية تتضمن في عمقها السردي حوارا ديموقراطيا إذا صح التعبير، مفقودا في الحياة بين الكاتبة وزوجها . فيه جلب لذكريات جميلة عاشاها معا، في كل سطر تبدأ الكاتبة سردها فتحكي عن نفسها برهة، ثم يدخل هذا الزوج ليحكي معها ويحاورها، يتفقان حينا ويختلفان أحيانا قليلة، وينتقلان في الآن نفسه، بين فضاءات وأمكنة مختلفة، ثم تحكي في مواضع أخرى وبلغة شعرية روائية بديعة ومتميزة، عن أحوالها وأحوال الحب بعد وقبل الفراق عند الاعتقال والسجن . هذه الأحوال تتصارع داخل عدة أحداث مفعمة بمشاعر عاطفية جياشة، تبث روح الانفعال لدى القارئ بنكهة التلقي، وقد استطاعت من خلالها أن تنتقل وبانفعال من حالة سردية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر في عالم الواقع والمتخيل.

إن الرواية ولاشك، مكتوبة بطريقة حوارية وسردية من الممكن جدا، وبسهولة أن تتحول إلى مسرحية درامية ممتعة، ففيها كثير من الحزن وكثير من الفرح، وكل كلمة وعبارة وحدث تتشابك  فيما بينها وتعطي للقارئ، خاصية وانطباعا يشعر به كل من خاض مثل هذه التجربة المريرة في حياته، تجربة السجن وقهره وظلمته وآثاره في صفوف ذويه. فهناك تعذيب وهناك معاناة ودماء وشراء ذمم وغيرها.

إن رواية أخاديد الأسوار، بمجهودها الفني والإبداعي وخلفياتها الفكرية، تطرح قضية مهمة جدا، وهي قضية تعويض السجناء السياسيين والذين تمت تصفيتهم جسديا لسبب أو لآخر، وذلك ينطبق ليس على المغرب وحده وإنما في كل دول العالم، لهذا فالمشكلة التي تطرحها الرواية موجودة في كل دول العالم وقارؤها يشعر أن أحداثها تنطبق ليس على المغرب فحسب وإنما في بلده هو أيضا .

و نستطيع القول، إن هذه الرواية الإبداعية خير تعويض لهذا السجين، الذي ضحى بآلامه على الرغم من حاجته الشديدة للمال وحبه للحياة والتمتع بها .

ثم يتواصل الحوار والسرد في تناغم شديد لتفكك لنا الكاتبة قضية الألم إلى محاور صغيرة وجزئيات دقيقة تعيشها الذاكرة الحية، فسجن زوجها هو سجن لها هي الأخرى وموته فيما بعد هو موت لها أيضا، وعلى الرغم من وجودها الخيالي على الورق إلا أن وجودها في الواقع أعنف وأكثر ألما. فالحياة بالنسبة إليها، بعد غياب شريك الحياة، تبدو صعبة للغاية، وحينها ينتفض قلمها في مشاهد شعرية جميلة، تصور كيف أنها لم ترغب في تنظيف وسادة هذا الحبيب والزوج المفقود كي تظل رائحة عرقه تفوح من قطنها، وتلك وبحق قمة الاعتزاز والوفاء وعمق الأثر والحرقة على مصابها في فقده .

و بين هذه الأحداث وتلك العواطف، وهذا الفراق المؤلم، يرتسم غضب شديد وشوق أبدي تمردت به الكاتبة حزنا على غياب حبيبها وموته بأن أعادت إلى الحياة  رسم  حياته السابقة بعد أن مزجتها بكائنها حينا وبخيالها الأنثوي حينا آخر  ولم تعرضها بوجهة نظر أحادية لكن سمحت بأفق رؤيا للجميع لينسج على منوالها أفكاره وآرءه . فالظلم والقهر إسفنجة تمتص دموع الجميع، فالجميع رأى عبر الرواية الألم الذي دسته لنا أثناء القراءة كيف تنزهت معه في الغابة ودخلت معه السينما وشاهدت معه الفيلم وتناقشت معه في مضمونه حيث رأت معها ومع كل العالم أمريكا على حقيقتها وبمشاهد من أهلها .

في الرواية أيضا كثير من المشاهد البديعة، ذات دلالات عميقة تحكي في واحدة منها عن السجون والمقابر وعن السلاطين الذين يبنون السجون وبمحاذاته المقبرة، والمزارع كرمز مكشوف للنهاية، بل إن جثث السجناء أحيانا تتحول إلى سماد بشري مفيد جدا للزراعة فينتج ثمارا طازجة لا يعلم مذاقها على رأي الكاتبة إلا السجناء .

كما تتناول الرواية أيضا، وبطريقة سردية ناقدة، المشهد الحزبي في المغرب تبدأ بالانخراط في الحزب وتنتهي  بالانسحاب منه، وتحكي عن البرلمانيين والمتاجرة في ذمم المصوتين، وتحكي عن الهموم التي يعاني منها المواطن العربي البسيط  . ومن خلال ذلك تصور حالة الصدمة من هذا المشد السياسي البئيس عندما تكشف أن الفكرة شيء وتطبيقها شيء آخر، وأنه ليس هناك تصور وأفكار تطبق بصورة صحيحة في المجتمع، فدائما هناك ظروف أخرى وممانعة تجهز على الأفكار وتحطم الأحلام، وتعطي لذلك أسبابا تلخصها في الأنانية والذاتية النازحة دائما نحو الخيانة وحب التملك.  تقول الكاتبة ولسان حالها يردد : إن كل شيء مزيف في الحياة وحبها  لهذا الرجل ليس كذلك ... الذي عندما  عرفته اضطرتهم الظروف أن يعيشا في بيت واحد بل في غرفة واحدة ولم يكن الجنس هو الهاجس ... بل كان الوطن هو الهاجس، فقلبا معا مقولة : ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثها بمقولة ما اجتمع رجل وامرأة إلا والوطن ثالثهما ... وانخراطهما في رؤية سياسية واحدة .

إن كل من يقرأ الرواية سيعتبرها عبارة عن يوميات تكتبها الكاتبة عن حياة سابقة عاشتها ومازالت تلازمها إلى الآن وكذلك من الممكن جدا أن نعتبر هذه الرواية من أدب السجون، فالرواية صورت نفس السجين، صورت الإنسان السجين وأبرزت ألمه ومعاناته من السجن، وربطت هذا الألم بشريكته خارج السجن، حيث أن السجن جعلها أيضا سجينة الحب، فالحب لا يسجن لوحده أبدا ولا يوجد حب فردي أبدا .

و رواية زهرة رميج : أخاديد الأسوار، تصور لنا أحلام جيل بكامله، جيل السبعينات، الذي تغذى بالأديولوجيات السالفة الذكر، ففي كل سطر تقريبا تجد رؤية سياسية أو هدفا فكريا، نضجت على العديد من المآسي التي عاشها العالم العربي بعد النكسة والنكبة، فكل مرتكزاته مستمدة من الحراك السياسي والاقتصادي الذي جاء بعدهما، حيث تجد الماركسية والوجودية والقومية والإخوانية الإسلامية والثورات وحرب الأفكار بينها، حيث كان لليسار نصيب الأسد منها .

إلى ذلك فقد نجحت الكاتبة زهرة رميج في الخروج من هذا المأزق السياسي المتصارع عبر كتابة روايتها هذه بطريقة وسطية وبسيطة بها روح الإبداع والأحاسيس الإنسانية أكثر مما بها من إيديولوجية تريد الانقضاض على الإنسانية، فقد عرضت مرادها دون متاجرة أو انحياز حكت ذكرياتها واستعرضت على الورق قيمة الحياة والحب والحرمان والآلام كما عاشتها في الواقع، لقد عرضت في روايتها الحياة وهمشت السياسة التي زجت بأحلامها في السجن ثم خلفت لها المآسي .

و في الأخير يصح التعبير أن نقول : إن الرواية عرضت تداعيات السجون بطريقة ذكية وبسيطة ومؤلمة في نفس الوقت، تجعل الأخاديد تتسع والأسوار تتعالى، وتحول هذه الأخاديد والأسوار من أخاديد طينية وحجرية إلى أخاديد وأسوار من الدم والموت والأحزان الخالدة، والرواية في عمقها  الأدبي والفني جرح وألم وحرب على الفساد والظلم والقهر، والروايات  التي تحيد عن الجروح ولا تحارب الظلم لا تؤتي أكلها ولا تؤدي دورها في الحياة، وحسبنا أن رواية أخاديد الأسوار لم تحد عن هذا وذاك فكانت بحق مشعلا روائيا أضاء طريق الكتابة الروائية بشكل عام والتجربة النسائية بشكل خاص.

 

بقلم: د. الحسن الوارث

أستاذ باحث في الدراسات الأدبية والتربوية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم