صحيفة المثقف

الكوكب الخفي (3 و4)

قصي الشيخ عسكرلكن الآنسة ضحى عبد الله لم تكن هلوسة قط!

ولانذير انتقام.. أبدا..

ذكرى جميلة مثل الخيال دامت ثلاث سنوات ثم تلاشت!

في هذا الفضاء البارد اللانهائي ظهر فجأة الدفء القديم تحت طيات السنين الخاملة.. كيف عثر عليها في هذا الكون المترامي الأطراف بعد أن سطع الماضي قويا في ذاكرته بل ليقل الحقيقة إنها هي التي عثرت عليه، فتراءت له من آيونات الماضي.. مجرد ظهورها أمامه بشكل مفاجيء وهو عائد إلى الأرض يدل على مدى قوة المخابرات السوفيتية تلك الدولة التي بدأت تتهاوى الآن وتتفكك.دولة عظيمة انهارت على الأرض وبقيت قوية في السماء التي أنكرتها !!هل تحزن السماء أم تفرح لانهيار دولة كانت هي العظمى الأولى التي فتحتها؟ ضحى العبد الله نفسها كانت ذات يوم تنكر الغيبيات والسماء فهل غيرت قناعاتها الآن؟ أيها السيد كورباتشوف المشاغب المتفائل الغرب يعجب بصلعتك حقا. " بهاءالخالد " أيضا يراك ويرى الوحمة على هامتك فيخيل إليه أن رأسك يشبه كوكبا ما والوحمة أرض .. رقعة تراب تطفو على كم هائل من الماء ومن هذه الرقعة يأتي التغيير.. أجدادنا العرب كان أحدهم إذا بلغ الثلاثين من عمره ولم يصلع حفوه ولم يكونوا ليعرفوا بعد علاقة الصلع بالسياسة.. ياترى كم من السياسين من يتمنى أن تكون له صلعة ووحمة ربما هي أمنية تشبه رغبة رائد فضاء في رؤية نبات له ينتعش مقابل النافذه التي يتسلل منها ضوء خافت من النجوم وسط ذلك الظلام الهائل الحالك.تحدث عن هذا في مجاملة مقتضبة مع رائدة الفضاء السوفيتية "كاتريشا" مديرة محطة مير.. كانت أحاديث العلماء موجزة عامة حتى لا يسيء السياسيون فهمها. قالت له لئن أشد مايضايقها حقا تلك الصفرة التي تلوح على أوراق النبات أمامها من شحة الضوء.. الكلام نفسه ينطبق على شجيرة الصبار الصغيرة التي صحبها معه من الأرض ووضعها مقابل كوة في مركبته يراقب منها فلول الظلام المنفلتة من سديم الكون.

وهاهو في الظلام كان يرى كل شيء!

عيناه تتوغلان في الكواكب والنجوم التي تبدو مثل حبات اللؤلؤ المتناثرة وسط الكون المترامي الأطراف. إنه في عمق الفراغ : تساءل وهو في مكانه داخل مركبته وعيناه تحومان بين النافذة حيث الظلام وشفق يلمع من أقصىنقطة: هل يعقل أن أقبض على الكون بيدي ومازلت أخضع لتأثير كوكب صغير لايعادل حجمه في هذه السعة الواسعة ذرة لؤلؤ.. سلط عينيه على عدسة ترصد الأرض فكاد ينسى الكون .كان مثل الساحر الذي يجلس قبالة بيضة بلورية الشكل.لم يكن كل شيء مثلما يتوقعه.في محطة الأبحاث شكّل مع السيدين "بيرازي " و"ميلر" ثلاثيا متكاملا.مختلفا ومنسجما.. وعلى الأرض تعايشت إلى الآن قبل لحظات ثلاث كتل كبيرة: العالم الاشتراكي .. الرأسمالي .. العالم الثالث.قبل دقائق أو أيام وفق الآيونات المهاجرة من الأرض إلى الفراغ تحررت الأرض من إحدى الكتل!. بدت نهاية العالم قريبة والحرب الباردة مقدمة لكارثة لاتبقي ولاتذر . نحن الآن في الفضاء ثلاثة . يقول أحدنا إنني إذا رحلت إلى الماضي حيث طرف المجرة قد أفجِّر الكون.. أصبح مثل قنبلة موقوته.. متفجرات بمائة كيلوغرام تهد بارجة عظيمة في البحر.. نكتة أقرب إلى المحال.وأول الظواهر الدالة انهيار الكتلة الشرقية.. مازال بعضنا نحن العلماء عاجزا عن التحرر من مقاييس الأرض التي يطبقها - دون أن يعلم- على الفضاء.. خرافة.. ثم وفق أسوأ الاحتمالات يستطيع الماضي الذي يحمل عقلا قاتما مثل العالم السفلي الذي عاشه جلجامش أن ينقلب عليه وحده بدلا من أن يضحي بالعالم كله من أجل فرد واحد هو أنا.إذا كان الماضي له عقل فبإمكانه أن يروضني أو ينتقم مني وحدي لكوني أستفزه أنا ابن الأرض في الفضاء.. لاينكر أن أي واحد من العلماء ذو أثرة يفضل أن يمضي في تجربته من دون مراعاة لهواجس زملائه.. "بيرازي " يجرب خلق استنساخ الكون تحت نفق في الأرض ثم يرحل إلى الفضاء ليرى فقط أبعاد التجربة وهو داخل مركز البحث.. لايغامر في الخارج.. يأمن الأرض على الرغم من مأساته ولايثق بالفضاء الذي لو تأملاه لوجدناه أكثر حنوا على " كاكارين" من الأرض!. و"هايفن ميلر"يرى أن المستقبل الذي نسعى إلى فك إشاراته يحمل بريقا ساطعا لايعشي أعيننا بل يمنحنا ومضة من هلوسة. جرعة من الضوء تزداد حدتها بمقدار توغلنا فيه.ليكن هذا لكن ظهور"ضحى العبدالله " الزميلة القديمة في أثناء عودته إلى الأرض بعد خلل مجهول طرأ على المركبة الفضائية فجأة غيّر كل حسابته عن الماضي.

لقد تيقن تماما من أن العالم بدأ يتحلل من أحد أقطابه المهمين!

والزمن أيضا يمكن أن يتحلل إلى جزيئات يمكن إعادة ترتيبها من جديد!

العالم الشيوعي .. المعسكر الاشتراكي.. في هذه اللحظة يفنى .. الأساس في هذا المعسكر الاتحاد السوفيتي وحده بكل قوته العظمى الهائلة وترسانته النووية. من يناطح الغرب سواه.كوبا أم فيتنام؟ بولندا . الجيك دول ضعيفة تجري في فلك السوفيت غير أنه كان يرى أبعد من وحمة ظاهرة على هامة كورباتشوف. بلا شك سوف يتغير كل شيء، فأين تذهب "ضحى"؟ أية دولة تقصد وهي الشيوعية العتيدة التي لم تتخل عن مبادئها قط؟ أهو حب كاد يكون مخفيا طالعه به اعتكاف في الفضاءوسعى به إليه ماض حذره منه السيد"بيرازي " قبل البدء بتجربته تلك؟لايظن أنه أحبها يوما غير أن هناك إحساسا بالراحة بات يراوده اي وقت يجتمعان فيه فمن المحال أن يكتشف باحث في الخمسين من عمره أنه أحب قبل أكثر من ربع قرن ولم يدر عن أحاسيسه من قبل.هذا هو الماضي ثعلب مخادع.. لايبدو وحشا كاسرا .. إذا كان يحب ولم يدر بنفسه لانشغاله في الدرس والبحث فللا ينكر على نفسه أنه أحب فتاة تنتمي- من حيث المعتقد- إلى ثلث الكرة الأرضية .حين التقاها بعد عودته إلى الأرض في الفضاء أدرك تماما مدى قدرة المخابرات السوفيتية السابقة ومدى تقدمهم العلمي.لقد التقط إشارة من رائد مركبة مير القريبة من الأرض يسخر فيها من السياسيين في بلده: أيها الرفاق أنتم تتشاجرون الآن أما انا فلدي مايكفيني من مؤنة وطعام مدة ستة اشهر اطمإنوا سوف أهبط حين تنتهي المدة حتى وإن لم تتفقوا على حل مشاكلكم.الحق إنه كان قلقا من أحداث الأرض التي تابعها في عزلته من خلال شاشة أمامه وعبر تأمله بذرات جاذبية شرق المجرة المتكاثفة عن الماضي وفق الترتيب التجاذبي الكهرومغنطيسي حيث بدأ يتذكر الايام الماضية يوما يوما وكان هدفه أن يصل إلى السنوات الأربع التي عاشها في قسم الفيزياء بجامعة البصرة فيكتشف أن أقوى العلائق التي عايشها هي إحساسه الخفي تجاه "ضحى العبد الله" التي لم يجتمع بها في أي مكان سوى قاعة المحاضرات ومختبرات البحث ومقصف الطلبة.

لامفر من ماض عاش فيّ ولم أدركه.. هذا هو أول اكتشاف غير متوقع سلفا في تجربته..

كانت هواجسه وأحاسيسه تنصرف باتجاهين ذرات شرق المجرة الخفية حيث يجرع منها مايجعله يعايش الماضي لحظة بلحظة ومايجري على الأرض في الساعة الراهنة ثم يسأل نفسه هل مايحدث هناك على الأرض يؤثر في الكون؟ نظام يحكم ثلث العالم بدأ ينهاركانت الكتلة الاشتراكية تتهم الماضي وتقع في حبه في الوقت نفسه.. إقطاع .. رأسمالية.. فكرة الله.. بدعة.. التجرد عن مخلفات قديمة مع ذلك تفخر بإنجازات ذلك الماضي.. الكاتدرائيات . المتاحف.. الموسيقى الكلاسيكية.. بحيرة البجع.. الروايات والشعر الموروث إنها ماض لم يتحرر منه رافضوه وهو لم يهرب مثلهم منه بل سعى إليه لذلك رفض نظرية وحشية الماضي وانتقامه التي جاء بها السيد الإيطالي مديره في المحطة . إنه لايريد أن يحمل الماضي مالاطاقة له به لكنه مقتنع بأن مايجري على الأرض لابد أن يؤثر في الكون سواء كان التغيير من الطبيعة أم المجتمع. هذه الأرض كانت تدور ذات يوم أسرع مما هي عليه يومُها حينذاك ساوى اثنتي عشرة ساعة وبفعل زلازل قوية تأثر محورها فكان يومنا بأربع وعشرين ساعة ولو حدث زلزال مرعب لجعل يوم الأرض أطول سيتغير طول الكون فكيف نقبل التغيير الطبيعي ولا نرى أثرا لانهيار كتلة اشتراكية كبيرة حكمت لسنوات ثلث الأرض؟

راح يراقب باهتمام وقلق من موقعه في المركبة مايحدث على الأرض وكأنها أحداث تمر في الحلم . من يصدق أنه وهو على مسافة أبعد من طريق التبانة يستطيع أن يعرف مايجري على الأرض في غضون ساعات.. ثورة في بولندا. انهيار كامل داخل رومانيا. وانفلات في جيكوسلوفاكيا سبقه بركان في بوخارست!

هل دخل العالم في فوضى أم نظام جديد وقد قالت له " ضحى " ذات يوم: العالم يسير نحو الكمال فمحال أن ترجع الساعة إلى الوراء.سوف تنقلب شعوب على أنفسها لتكون الأرض غير الأرض " وأكدت قولها بثقة مطلقة" إنه المنهج العلمي الذي كان له السبق في غزو الفضاء!

 لكنه أعرض عن كل ذلك.. لف البللورة البيضوية بإصبعه وتوقف عند مكان دراسته.. البصرة .. الجامعة.. قسم الفيزياء يوم كانت الجامعة في التنومة.. ذاك زمان انفلت وها هو يرسمه في لوحة الفضاء.. سلط مكبرة ألكترونية على المكان فتحسس أطلاله كما يتحسس شاعر قديم آثار قوم رحلوا منذ عقود.. أما آثار التجربة فكانت واضحة .. شاخصة مثل مغسلة ثقبتها قطرة من سائل حارق؟.. ياترى لو تمكنا من العثور على مادة تحرق الزمن ألا يمكننا أن نحرق السنوات السيئة التي مرت بنا.. بالضبط مثلما تحرق أشعة الليزر الأورام الخبيثة؟ كانت الجامعة هنا. لايريد أن يراها في الكرمة موقعها الجديد بعد اندلاع حرب الخليج الأولى.. ماتزال في التنومة وبدا الناس متعبين مثقلين بهموم شتى أولها مخلفات الحرب.. هناك دول أخرى تتغير أنظمة تنهار والناس هنا متعبون مثقلون بهمومهم وأحزانهم:

نحن نراهن على النائب شاب يساري سوف يتغير عنئدذء تصبحح دول الخليج الرجعية محصورة بين نظامين تقدميين اليمن الشيوعي والعراق!

الثوري اليساري!

هل يعقل ذلك؟ سياسي قدير يندفع بعاطفته.. يلغي كل مراكز تفكيره هؤلاء يرونكم عملاء تابعين لروسيا ببغاوات تردد ماتقوله موسكو ويرون ذوي اللحى جواسيس للغرب والقوميين صبايا القاهرة المهزومة هؤلاء يضمرون الشر بالآخرين دائما وما كل شيء يمكن أن يقال علنا فلعلك تصبحين يوما عن طريق الإكراه منهم فتنقلين جل كلامي إليهم:

لا أشك في كلامك غير أني لاأستوعبه.

ياصديقي العزيز المنظومة الاشتراكية وفرت الطعام والسكن والعلاج لشعوبها فمحال أن يرجع العالم للوراء.

أنا معك .. لن أخالفك الدواء والغذاء والسكن مهم لكن ليس من الضرورة أن ينقلب كل منا إلى أبي ذر فيحمل سيفه .. السيد المسيح نفسه قال..

فقاطعته بابتسامة ساخرة:

أعرف ماتعني أنا من عائلة مسيحية والدي برجوازي كبير الدكتور عبد الله اليوسف يربح من عيادته كل يوم المئات لكن أما كان الأجدر بهؤلاء المساكين أن يعالجوا مجانا كما يحدث في موسكو وبراغ وعدن.. المسيح قال ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان وقال أيضا أعط لقيصر مالقيصر كان ذلك قبل أكثر من الف وتسعمائة سنة والعالم يسير إلى الأمام نحن أبناء اليوم!

ومال على أذنها هامسا كأنه يخشى من رقيب صارم:

هناك شيء محير في سلوك أي يساري يقف في صف كتلة موسكو كيف لاتثقون بأفراد مثل والدك الذي تسمينه برجوازي كبير وتثقون بتغيير حزب مارس التسلط قبل سنوات!

هذا هو خطأ البرجوازيين أمثالك نحن نخاطب عقلية المجموع إذهب إلى أي فلم في أية سينما ستجد النضارة يصفقون كلهم في وقت واحد بعقل جماعي لمشهد ما إنهم يفرحون بوقت واحد والآن بدأت مراكز الرأسمالية تنهار مثلما حدث في فيتنام وكوريا واليمن الجنوبي والكونغو هناك عقل جماعي في حزب البعث يمكن أن يندمج مع اليسار قد ينتكس هذا العقل إذا ماذكرناه بمآسي الماضي فينتعش اليمين على حساب ضمور اليسار أفهمت أم مازلت في عنادك!

الأيام بيننا وسترين!

لايهمه كل ذلك تجاهل انقلاب بولندا وثورة رومانيا وأعرض عن انهيار الاتحاد السوفيتي.. هؤلاء الناس الناس المتعبون. هل يقدر أن يساعدهم.. هم الآن في حال رثة .. راحت عيناه تحملقان في وجوههم التي تساوت ألوانها بلون ملابسهم الكالحة مع الغبار العالق بأحذيتهم.. شيء مخيف حشود تثور في أوروبا وآخرون معزولون تماما عن العالم ربما تنتظرهم كوارث قد يجرفها إليه زميلة العالق في رحلة المستقبل ذات يوم.

متى يحدث ذلك، وهل بإمكانه تفاديه؟

سأل نفسه وأضاف: مادام قد رحل في الماضي وانقلبت إليه منه "ضحى العبد الله "تلك التي تستفزه باندفاعها السياسي ويستفزها بحب قديم مكتوم فالأولى به ان يعيد صياغة الماضي متحاشيا قدر الامكان سلبياته منتظرا في الوقت نفسه اطلالة شحنة من المستقبل قادمة من غرب المجرة حيث زميله الباحث " ميلر" ليخفف من حدة الماضي وسطوع المستقبل في مزيج واحد يكون أشبه بالعالم الجديد!

***

الفصل الرابع

في تلك اللحظة ويداه قابضتان على الأرض البللورية شعر كما لو أن ذرات الماضي التي تكاثفت في الطرف الشرقي من المجرة حيث تقف المركبة في أعماق ضبابية شفافة وأصداء كهرومغناطيسية كما لو أن تلك الذرات تلتبس بأحاسيسه وخياله فيقتحم بعضها عليه عزلته مع الأرض ليعيده إليها من جديد وبعضها الآخر يتكاثف بجوه القاتم حول المركبة كأنه يهم أن يطرق النافذة الزجاجية فيدلف إليه.. حاول أن يبعث بإشارة إلى محطة البحث الرئيسة الرابضة على الكوكب "القزم " فتذكر أنه أصبح منذ هاجر إلى شرق المجرة ماضيا قاتما وقد لايجد السيد الإيطالي في مكانه الآن؟ أين هو ياترى؟من المعقول أن يكون في سويسرا أو إيطاليا ومن غير المعقول أن يكون تلاشى، فهاهي ذرات الماضي القاتمة توحي بأمر ما ،وخطرفي ذهنه السيد " ميلر " لكن ما الذي يمكن أن يفعله؟ أنا الآن ماض وهو مستقبل فكيف يستقبل الإشارة؟ لم يتوقع نفسه في خطر ما.. كانت تجربته تتماشى مع تغيرات الأرض لكن هناك شيئا ما خارج مركبته الفضائية يدعوه.. فكر ثانية أن يخرج من القمرة من دون البدلة الواقية ثم استسخف الفكرة.. هو الانتحار بعينه.. الموت.. لعل الماضي يبدو أليفا لنا أما إذا أصبح حاضرا فله القدرة على أن ينقلب إلى وحش كاسر.. ربما كان زميله " بيزاري"محقا في تحذيره.. الماضي وحش أو مخادع يقتلنا حين نستفزه. حاول أن يتجنب اليأس وينسى فكرة الموت.. هناك كتلة هائلة على الأرض جربت التنكر للماضي فبدأت تنهار مثل قشة.. . وأنا حاولت الهجرة إليه والتحقق منه .. ليس من العدالة أن ألاقي المصير نفسه..

عدل الوسائد الهوائية وتحسس صفائح المركبة وقوة الاستشعارثم غادر موقعه.. ترك الأرض في مكانها على الشاشة.. ثم القى نظرة ساخرة على وحمة غورباتشوف.. واقية الصدمات . قنينة الأوكسجين.. البدلة الثقيلة كل تلك التجهيزات تمنعه من أن يحتك مباشرة بذرات الماضي غير أنه لابد من أن يواجهها خارج المركبة.. كان يراها عبر زجاج النافذة تتكاثف كل لحظة.. كل ساعة.. تصبح طاقة فاعلة ومازالت على الرغم من كثافتها الهائلة ودودة أليفة . في السابق تصورها مثل جحيم جلجامش عالما باردا قاتما لاحياة فيه ننزل إليه حين نموت.. وهي كذلك سوى أنها الآن تتخذ مكانها شرق المجرة.. تزداد وتنمو كل دقيقة تنصرم على سطح الأرض.. وتحقق ذاتها باتجاه المطلق

كان يغادر المركبة ويواجهها وجها لوجه!

ظلام واسع وفراغ هائل..

هو ذاته أصبح محور الكون.. الأفلاك تدور حوله فهناك ومضة من بعيد نقطة لامعة تشير إلى الشمس وثمة الأرض في المركبة أما هو فالكون يدور حوله يداه تحددان الشرق والغرب ورأسه وقدماه.. البدلة تعيقه إلى حد ما . هو الآن بعيد عن الأرض التي تركها في مركبته. يمكننا أن نتقلص .. نكون بحجم الجراثيم والأرض بحجم قلب الإنسان لكن مايشغله تلك اللحظة عن داخل المركبة سيل الثواني المنصرمة .. هي أمامه تكاد تلامس وجهه واحدة واحدة يراها تقرع عليه الزجاج الصقيل الذي يفصل عينيه عنها.. ملايين.. مليارات .. مليارات الثواني المنصرمة المنفلتة من الأرض تأتي إلى شرق المجرة تداعب وجهه وتنصرف .. كلما جاءت ثانية جديدة أزاحت التي قبلها. راحت الثواني الماضية المتأينة بالمغناطيسية وجاذبية الكون تبتعد وفق قدومها فيظل الأحدث وصولا قربه ثم ينزاح في كتل تكبر وتنمو متجهة نحو أقصى الشرق إلى بعد لايدركها فيه بصر أو عقل أو وهم.. ثوانٍ ماضٍ ونجوم تلوح من بعيد كأنه رآها ذات يوم قريبة منه في ثقب مغسلة نشأ بسبب انسكاب قطرة من حامض حارق ؟ هكذا هي الكواكب والنجوم يصلنا ضوؤها وقد تكون ماتت وربما ينشطر ذلك الثقب الصغير القريب منا في حمى الماضي ليصبح عددا غير متناه من الثقوب.. لم يكن ثمة مانراه سديما ولا كويكبات صغيرة إنما هو ماضينا يتكاثف لعيوننا وأي منا يقترب منه مثلما اقترب " بهاءالخالد" يجده شاخصا أمام عينيه كما هو بالضبط من دون زيادة ولانقصان فأين ياترى هي "ضحى العبد الله " ولم هذا الحنين المفاجيء إليها.. مثله مثل الجالس قرب نبع لايأبه به إلا حين يفارقه.. سنين مرت والتجربة على الأرض أنسته مشاعره وعواطفه ثم كشفت تجربة الفضاء عنها بشكل مفاجيء لم يتوقعه! الثواني المنزاحة تتجمع في دقائق وتلتمّ بشكل ساعات والساعات في أيام والايام في سنين.القادم توا يزيح الواصل قبله إلى مكان أبعد غامض الاتجاه.. هنا المتجردات .. المتجردات أفضل تسمية لهنّ.. يشعرن. وينطقن بشكلهن.. يكشفن عن حقيقتهن.. كل واحدة منهن تُقرَأ وتـــُسمَع وتــُرَى بوقت واحد.. في هذه البؤرة أدرك أن الماضي وهو في الفضاء يشترك مع المستقبل في الغموض ثم تيقن من دهشته .كان قد سأل أستاذ الفيزياء في الجامعة هل يعقل أن تنفرد الأرض وحدها بالمخلوقات والمخلوقات العاقلة وهناك مليارات المليارات من الكواكب والشموس شيء مخيف أن ننفرد وحدنا بالحياة فندور على أرض يلفها ظلام وخواء. نحن سكان الأرض نشعر بالعزلة والكآبة حيث نعيش وحدننا في كون لايشاركنا العيش فيه أحد.. لم يكن يهمه أن يكون الاستاذ مؤمنا بالله أم لا. حدث ذلك في السنة الجامعية الأولى ولم يكن قد تعرف بعد بالآنسة "ضحى العبد الله".. الآن يدرك حقا مدى خطورة الأرض. سوف تظل تدور على نفسها وحول الشمس . كل دقيقة يعيشها أي منا عليها هي تاريخه الذي يرتفع باتجاه الكون وسوف تظل ذرات الماضي تتأين وترتفع إلى الأعلى نحو شرق المجرة تسير باتجاه اللامتناهي ولو كان الكون متناهيا لانفجر على نفسه إذن وتناثر إلى متناه آخر.. أين هي ذرات ماض لفرد عاش حياة امتدت خمسين عاما قبل عشرين ألف عام على الأرض.. إنها في كل لحظة تندفع من شرق المجرة مركز الماضي باتجاه لانهائية الكون فهي الأرض ذاتها التي رسمت تلك اللانهائية العظيمة المرعبة .. كان واقفا أو مستلقيا باتجاه ما.. لقد رآى عن بعدٍ سنواتِ ذرات متأينة لها.. لايريد أن يغالط نفسه فيتهم عينيه من وراء القناع الزجاجي.. يحس بها قريبة منه.. لم تتقدم نحوه خطوة. هي هي بقوامها الفاره وجسدها المليء وسمرتها اللذيذة.يدركها نقطة رائعة في هذا الكون المتلاطم اللانهائيّ تنزاح عنه ببطء تزيح ماقبلها وتخضع لدفع آيونات سرت بعدها.. وشدما ازدادت دهشته حين أبصر الصليب يتأرجح تحت رقبتها ويتمايل فوق فتحة قميصها.. مسيحية سمراء. السمرة لون شائع في العراق غير أنه نادر عند المسيحين .لايدري لم يربط بين البياض النقي المثير ومسيحي العراق لولا الصليب لما شك قط في أنها مسلمة كان وقتها عهد الرسميات قد انتهى بينهما .. هو في السنة الثانية متقدم على زملائه وهي الأقدر على زميلاتها وزملائها من طلاب السنة الأولى:

هل تؤمنين بالله؟

سؤال كثيرا ما أجَّله وماطَلَ الوقت حوله حتى إذا ما توطدت العلاقة بينهما تجرأ في عرضه. لم يفاجؤها سؤاله فليست المرة الأولى التي تسأل بتلك المباشرة والصراحة من آخرين:

تلك مسألة لم أفكر بها قط؟

صَدَمَه جوابها فأراد أن يلتقط أنفاسها بأي شيء حتى يحضر جوابا آخر:

ماذا تشربين؟

لاشيء هكذا نحن أفضل!

لاشيء وتلك مسألة لم تفكري بها قط يعني أنك الاقرب إلى الإنكار والشيء الذي لفت نظري الصليب إنه رمز الإيمان والروح والتضحية وأنت شيوعية علمانية ألا يدل ذلك على التناقض؟

أبدا لا.. ها أنت تقول إنه رمز النقاء والتضحية من هذا الجانب فقط أليس هناك شيوعي من عائلة مسلمة يذهب إلى المسجد و يلطم في مناسبة عاشوراء؟وابتسمت مضيفة:

هل تصلي ؟

أحيانا أو في المناسبات . رمضان .. عاشوراء..

مسلم ولاتصلي إذن هي الشكليات والمجاملات!

ربما الخوف من الله!

إذا كان الله خيرا كما تقولون فهو لن يخيف!

أليس هناك اعتبارات أخرى؟

فهزت كتفيها قائلة:

بلا شك عامل الجمال له أثر كبير في هذه المسألة مثل القرط وحلقة الزواج!

المعروف عن الشيوعيين أنهم كادحون لايعيرون أهمية للشكليات!

فكرة خاطئة تحملونها أنتم البرجوازيين عنا. العامل هو الذي يخيط الملابس ويبني البيوت ويستخرج الذهب من المناجم فهو أحق بها من غيره!

مع أنك صنفتني ضمن البرجوازيين فأقول الله يسامحك لأنني مازلت آخذ مصروفي من والدي!

ياصديقي العزيز لاتزعل أنت عالم كبير تستحق وأنت طالب أن تدرِّس في الجامعة وسوف تصبح عالما كبيرا هذه شهادتي العلمية فيك لكنك من حيث الانتماء برجوازي!

ربما كان لي غرض من سؤالك عن الله لاتظني أنه غرض خبيث لأن الواقع يفرضه.. تصوري حزب عريق مثل حزبكم انفض الناس من حوله مجرد صدور فتوى من مرجع ديني ينبه الناس فيها إلى موقف الشيوعيين من الله لكن صدقيني ليس هذا هو المهم بل المهم إني واقع بين اثنين أو بينكما أنت التي تأكلينني بكلامك بعد أن نفرغ من البحث والدرس والتجارب ثم مرافقي " خليل العمران " الذي لايعنيه سوى التجربة والدرس ومابعد ذلك الصمت والبرود.

قاطعت مؤكدة:

ألاحظ أنه قليل الكلام!

ولايرغب بمجاملة أحد حتى يخيل إلى الطلاب أنه مترفع يأنف من الحديث مع الآخرين!

سألت بفضول:

من أين هو!

من عائلة فلاحين تسكن البوارين!

مثل هؤلاء لايعون واقعهم الطبقي فيعرضون عن الاحتجاج والمعارضة بالانزواء وقلة الحديث!

فقال ساخرا:

حاولي أن تجري رجله!

فردت بسخرية أشد:

بل اسأله أنت عن الله .

ليس قبل أن تجيبي!

إذا كنت مصرا فسأجيبك كي لاتقول تهربت: ياسيدي كل حقيقة تتعرف إليها في واقعك اليومي هي الله!

بعض سعادة وتأمل وسلام في حديث ماض يكرر نفسه بشكل أكثر صفاء ثمة قليل من الخوف الذي قد يتلاشى إذا طالت وقفته أو رقدته في هذه الظلمة الضبابية المتجهة إلى اللامحدود فكيف يشق طريقه إليها في الظلام لأنه وإن كان يبصرها خارج المركبة وهي القادمة من مستقبل قريب إلى ماض قريب.. على مرمى أمتار ضوئية منه لم يتلمس الألماني الطريق إليه بعد. هل يعقل أن الماضي يتحسسنا والمستقبل نفسه يتأخر في الوصول؟ وهو الذي افترض من خلاله أن السيد الألماني الآن قابع في المستقبل ولابد أن ينساب إليه.. لعله يشك في نفسه كونه ماضيا وفي السيد " ميلر " أيضا حيث المستقبل فهو لايشك قطعا في أن الحاضر يتمثل بزميله " بيرازي " .. نقطة الوسط .. ولابد أن تمر الدقائق والثواني القادمة من " ميلر " عبره فإما ان يأتي اليه وحده أو يأتي الإثنان معا فلا يتعجل..

امتدت يده إلى المسدس الضوئي عند أعلى فخذه .. وجهه نحو الأفق المترامي. أين هو الحاضر والمستقبل الآن.. سيمران به لاشك.. كل شيء يصبح ماضيا .. كرر السؤال وبعث إشارة إلى زميليه : إنه عالم رائع.. كل العالم يتحرك الآن؟ كيف أنت ياسيد " ميلر " كيف أنت ياسيد" بيرازي " أظن أنكما سوف تقتحمان عليّ عزلتي من جديد .. ضغط على زر المسدس الألكتروني الموصول بالبدلة الواقية وانتظر الجواب.. رسالة مهمة من الماضي لكنه لم يسمع شيئا.. حملق في الثواني المتواصلة الهطول حوله المارة به كالنجوم بفارغ الصبر.. إزاء تلك الفرضية التي جعلته يظن العالم يتلاشى فيه فكر ثانية أن يخلع قناعه الواقي ليكون وجها لوجه مع الثواني الماضية تلتحم فيه ويلتحم بها دونما أي حاجز أو سدّ ما.. بلاشك شعور غريب يرِّوض جسده.. ففي كثير من الأحيان ، خلال المهمات الفضائية،يجد رائد الفضاء نفسه أمام عمق من السواد .. امتداد حالك يسبب الغثيان أما البرودة فيكاد يحسها تعبر إليه من نافذة المركبة وهو جالس يواصل مهمته، وتكاد تلامس أضلاعه فتنخرها من وراء البدلة الواقية بالصقيع اللافح بخاصة عندما يغادر المركبة سابحا في الفضاء.. هذه المرة كانت أعماق السواد وحركة الكون داخل مكان التأين حولة رائعة جدا تبعث البهجة في النفس بل تكاد تغريه بالتحرر من بدلته الثقيلة..

 فجأة .. . تراجع ..

 صرخ فيه صوت زميله " بيرازي " من بعيد:

الماضي وحش كاسر سوف يفترسك !

وهتف من أعماقه :

 ربما ننتحر معا.

ثم في آخر لحظة.. خانته شجاعته.. لم يفكر في التوغل مسافة أطول خشية من أن يتحول إلى سديم ثوان متأينة فينقطع عن مركبته فدب إليها وهو يشعر بجاذبية محمومة تكاد تبتلعه. هنا أدرك أنه أحسن صنعا حين لم يبتعد في الفراغ مسافة أطول فتلمس سطح المركبة وأعاد وضع الكوة والمفصل الحلزوني إلى ماكان عليه ودفع جسده من جهة القدمين داخل الفتحة واستعان بالجوانب المعدنية ليقذف بنفسه داخل المركبة فانزلق قرب النافذة .. أول ماوقعت عليه عيناه شجيرة الصبار،فأزاح القناع وتأكد من أغلاق الكوة المفضية للخروج ثم تخلى عن البدلة.. جسده .. عيناه.. شكله.. يداه قدماه.. أشبه بالبالون الذي يمكن أن يرحل بطيئا مع الموجات التائهة في أعماق الفراغ ثم في أقل من ثوان معدودة عاد تصلبه إليه ثانية فتماسك.. .كان قد نسي نفسه فلم يلتفت إلى عطش شديد يجتاحه.. بعد لحظات امتص زجاجة صغيرة من سائل شفاف وازدرد حبة من طعام محفوظ في كبسولة بأحد أدراج المكتب عندئذ وقد استعاد انفاسه وتحرر من ثقل الذرات أعاد الإشارة من جديد وتطلع إلى الشاشة التي استقرت قرب الكرة الأرضية الشفافة التي لما تزل تنقل أخبار الناس على الأرض.. كل شيء على مايرام.. شعوب تمارس التحلل وأخرى تسقط وأمم تغير أنظمتها أما هو فلا يعرف شيئا عن زميله في مركز البحوث:

السيد " بيرازي " كنت بعثت لك إشارة من خارج المركبة هل وصلت؟

لم يظهر أي رد فأرسل مرة أخرى:

الى"بيزاري" هل وصلت إشارتي السابقة؟

كلا أما الآن نعم!

أنا الآن في داخل المركبة ياسيد "بيزاري"

فانطبعت على لوحة الضوء الإشارة الجديدة:

أنا لست السيد " بيزاري أنا" دوبير جوليه " زميلك القديم في بحوث الفضاء!

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم