صحيفة المثقف

العقل المـُنفلَت.. إشكالية الميل الفوضوي وتجاوز النظام

رائد عبيسينطوي تعريف العقل المــُنفلَت على جملة من القضايا الخارجة عن حكم العقل، والضمير، والوجدان، والأخلاق، والقانون، والأعراف، والأنظمة المؤسساتية.

وعليه يمكن أن نعرف هذا المصطلح وهو " العقل المنفلت" : على أنه العقل الذي لا يخضع لكل ضابطة منطقية، ولا قانونية، ولا أخلاقية، ولا سلوكية، ولا ضميرية، بل هو عقل يميل إلى الفوضوى والخروج عن كل ضابطة أو الخضوع إلى منظمة مؤسساتية منفلته تسيطر عليه.

 وربما حتى في السجون بوصفها مؤسسات كابحة لجماح العقل المنفلت عند الأفراد لا تستطيع السيطرة عليه في كثير من الأحيان حتى في مثل السجون الأمريكية، فحالات الهروب من هذه السجون هو دليل على أن العقل المنفلت الذي تنامى في مجتمعاتنا، هو عقل يشعر بانعدام الرادع الكافي أو هو عقل قد ساعدته الظروف السلبية المعاشة في المحيط الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والتعليمي على الانجراف صوب هاوية اللاإنضباط تفكيراً وسلوكاً، فضلا عن أحداث الشغب، والعدائية، واللا انضباطية والتمرد لأجل التمرد أو على هيبة النظام العام التي يعبر بها الفرد عن انفلات عقله من القوانين المتناقضة التي لا تعزز الضبط ولا الاستقرار الذاتي.

ومن المؤسف أن مجتمعنا يُعاني من قوة هذا العقل وفاعليته على أرض الواقع،والانفلاتية هي نمط من التفكير يقترن في تفكير الناس البسطاء وحتى أصحاب القرار والنخب من السياسيين والاقتصاديين والأكاديميين والتجار والمهنيين والمثقفين.

متى يتبلور العقل المنفلت؟

يتبلور هذا العقل في نمط تفكير أغلب الناس التي تعيش في مجتمع يعاني من أزمات، وحروب، واضطرابات، وصراعات، وكبت سياسي، وشعور بانعدام الوطنية، واللاانتماء، والشعور بالفوضى الكامنة والظاهرة، في كل تفاصيل حياتنا الاجتماعية والمؤسساتية.

فخيبة الأمل من الأمل في حياة كريمة بهذا البلد، وما يُعانيه من متغيرات طارئة، ومخطط لها تاريخياً ومستقبلياً، هي من تساعد بشكل مباشر وغير مباشر على تكوين هذا العقل، الذي يتشكل بسهولة عندما تكون هناك عوامل مشجعة على الانفلات، لاسيما و إذا كان هذا الشخص غير محصن أخلاقياً، ولا اجتماعياً، ولا دينياً، ولا قانونياً، ولا وطنياً، ونقصد بالتحصين هو متى ما كان لهذه المحصنات أثرها الإيجابي على ضبط سلوك الإنسان باتجاه العقلانية، والموضوعية، والصدق والإخلاص، والجد.

فكثير من يحمل عوامل من المفترض أن تكون عامل مساعد في ضبط سلوكه من شهادات عليا ودرجة دينية، وتخصصات علمية، وخبرة، وتجارب، ولكن لا نلتمس لها أثراً على أرض الواقع في كثير من الأحيان. والمفارقة الكبرى نجدها عند هؤلاء بالتحديد الذي ينم عنهم سلوك وتفكير منفلت، فنجد الفساد الإداري، والمالي، والأخلاقي موجودة عند كثير من موظفي الدولة، وحتى الذي يتمتع بالنزاهة نجد عنده انفلاتات من منظومات قيمية، وأن كانت بشكل غير واعية الا انها  سرعان ما تظهر بالسلوك، فنجد مثلا الآلاف من الموظفين العاملين في قطاعات ومؤسسات الدولة،عقولهم تميل إلى الانفلات من القانون الذي يحكمهم، وذلك نتيجة لشعورهم بإن القانون بما يحمله من سلبيات وقيود، دائما ما يكون عائقاً أمام رغبتهم بتطوير ذواتهم مهنياً، فضلا عن اللاقانونية التي تقترن بالعمل بالعادة، مثلاً شخص يؤدي عمله لا خوفاً من قانون ولا رغبة في حوافز، بل من أجل خدمة المقربين له من أصدقاء وأقارب ومعارف.

فانعدام الوازع الأخلاقي في إداء العمل هو جزء من مكونات "العقل المنفلت" وهناك أمثلة كثيرة تكون مفهوماً لعوامل تكوين "العقل المنفلت" من جهة ومصداقاً سلوكياً على ممارساته التي تؤكد إنفلاتيته من جهة أخرى، فمثلا نجد مقاولاً يترك مشروعاً خدمياً ويأخذ أمواله ويهرب أما يحتمي بعشيرته أو يهرب خارج البلد، وكل قارئ كريم يجد في ذهنه آلاف الأمثلة لذلك، فالإنفلاتية الموجودة بدواخل ذواتنا والتي نمارسها إزاء ما يتعلق بمشاريع انسانية صرفة مثل مدرسة أو مستشفى أو مرفق خدمي، بل وصل الأمر حتى للمراقد المقدسة،فكثير من المنفلتين عقلياً قد ارتكبوا جرائم اختلاس وسرقة ونهب وعدم اخلاص بالعمل، انما تكشف عن نمط من الانحطاط تتجاوز الإنفلاتية بكثير و تسبقها!!!

ما علاقة العقل المنفلت بالمنطق؟

يعد المنطق أداة لضبط العقل البشري والإمساك به من الإنزياحات التي يتعرض لها جراء القوة الواهمة الكامنة فيه والتي تقوده إلى حيث اللا عقل سلوكاً وتفكيراً، فعملية التفكير هي جهد تحتاج الى قواعد ومرتكزات سليمة لنجاح عملية التفكير، فالإخفاقات الفكرية تعبر عن جزء من الاستعدادات الإنفلاتية في العقل البشري، والتي هي صفة قد توجد عند الأعم الأغلب من البشر وهو ما يصطلح عليه علماء النفس بالشرود الذهني أو حالة من صمت العقل عن التفكير، فالصمت الساهي لا يمكن أن يكون جزء من عملية التفكير التي تتعرض لإنفلاتات لا شعورية أحيانا وشعورية أحياناً آخر، تبعاً لطبيعة المفكر فيه وعوامل السايكولوجيا اللا مفكر فيها والتي تفرضها ظروف خارجية وعوامل بيئية ... وللأفكار بقيه...

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم