صحيفة المثقف

أحمر على شفاه الصدفة.. بين مآلات الجمال والتجريب

847 احمر"أحمرُ على شفاه الصُّدفة" هي المجموعة الشِّعرية الأولى للشاعرة (مسار الياسري) التي أستطاعت أنْ تحتلَّ مكانها وأنْ ترسمَ ملامح صوتها الشِّعري في السَّاحة الشِّعرية العراقيَّة حتى قبل أنْ تصدرَ أيَّة مجموعة شعرية لها ، فكان تألقها الشِّعري وأنا أتابعهُ في أكثرمن محفلٍ شعري أحمرَعلى شفاهِ الديمومة .

وكأيِّ وليدٍ بكرٍ يتعرض للتجريب والاجتهاد بينِ يدي والديهِ حتى يشتدَّ عوده جاءت هذه المجموعة لتكون مساحة رحبة لتجارب الشَّاعرة التي آثرتْ أنْ توثق ما خطهُ يراعُها في مختلف أشكال الكتابة الشِّعرية ، من قصائد العمود (الشَّطرين) والتفعيلة والنَّثر، فجاءت سنابل حقلها منحنية وهي تشير إلى تربة خصبة أنبتتها وأنشأتها النشأة الأولى وقد ألمحت إلى ذلك فيما يشبه الإهداء (إليهما ..عليهما السّلام) في أول بيتين افتتحت بها المجموعة :

(وها هي أمي تشبه الله رحــمة ً

فمن قال أن اللهَ ليس له أهــــلُ

وهذا أبي كالانبيــــــــــــاءِ مقامُهُ

ومن قال أن الله قد ختم الرسلُ!)

 وَمنْ يَطَّلع على هذه المجموعة للوهلة الأولى يجد أن الشَّاعرة سعتْ وبشكلٍ حثيثٍ إلى تحديث لغة العنونة لمنحها طاقات تعبيرية عالية تهيئ القاريء قبل الدِّخول اليها، مدركة أهمية العتبة بوصفها نصاً موازياً للمكوّن اللغوى للنصّ “المتن” بشكل وظيفي يؤثر فى تشكيل بنيتهِ وفى عملية تلقيهِ وتحليله ليشكلا معا بنية تكاملية .

وهكذا جاء عنوان المجموعة مشحوناً بالمعاني التي أرادت شاعرتنا (مسار الياسري) أنْ توصلها بما تثيره من أسئلة ٍلدى المتلقي الذي لاتريد لذهنهِ أنْ ينصرفَ نحو الإثارة الشكلية قدر ما تريده أنْ يتعمق أكثر بالمعنى من خلال الانزياح اللغويّ الجميل الذي اعتمدته في منح “الصُّدفة ” شفاهاً والتي مِنَ الممكن أنْ يكسوها الأحمر ليمنحها حياة ًوحيويةً وإثارة، إذَن هي صُدفة توازي في قيمة المتحقق فيها ما يحدث لنا بتدبيرمسبق بل ويفوقه، فضلاً عن عتبات الإهداء الذي جاء للأصدقاء ولأمها وأبيها وإلى معلمها (علي عبد الحسين الخفاجي).. كاشفة لنا مصادر إلهامها ومرجعياتها الثقافية في الكتابة الشِّعرية .

لقد غلبت على المجموعة قصائد الشَّطرين وهي بذلك تطرح نفسها شاعرة مُجيدة تنساب جملها وقوافيها وإيقاعاتها انسياباً جميلاً عبر بحور الشِّعر العربيّ وأخصُّ منها الكامل، والبسيط، والرَّمل،وقليل منها ماجاء على الوافر .

أنا كالتي في جوفها نــــيرانهُا

وسحـــابةٌ بسمــائها تـتمايـــلُ

من حزنِ أيّامي أصوغُ سعادةً

وعلى المرارةِ والجوى أتحايلُ

تميزت قصائدها بلغة شفافة ، لغة أنثويَّة تنفرُ من المفردات الصلدة والنَّافرة لتنثال منقاة بجميل ذائقتها وتجانس الجرس الموسيقي فيها واستخدام الأساليب البلاغية في اللّغة من استعارة وتشبيه وكناية وطباق لتحقيق التأثير المطلوب في المتلقي وتفعيل جماليات النَّصّ .

ومع إيغالنا أكثر في قصائد المجموعة وتقصي موضوعاتها نجد أنَّ أغلب القصائد كانت تركز على موضوعة الطفولة واستذكار مكان النَّشأة الأولى فمازالت الطفولة والعودة إليها تشكلُ ملاذاً لها وهي تواجه صعوبات الحياة.

(لا تعدّوني  كضحكاتٍ

أضاعتْ شمسها

أو كأرجوحةِ طفلٍ

أُطفِئتْ ظلماً

وغطاها غبارٌ)

وعلى غرار الشُّعراء في العصر الجاهلي تستنطق بحنين جارف دروب الحيّ القديم وما شهدته من ذكرياتِ نبضها الأوَّل فيها، بعد أنْ رجعت إليه أكثر قوة وأكثر وعياً بذاتها .مثلما تتذكر طفولتها على وقع إيقاع الحرب في قصيدتها (طفولة بنصف حلوى) التي ترسم فيها ظلال الحرب ووقعها على غصن طفولتها الطَّريّ وكيف خرجت من بقايا الحرب ” كغصنٍ بين أنقاض الخطايا” ولتقول لنا : إنَّ الحرب خطيئة كبرى بحق الإنسان والطّفولة والبيئة، لكنها تقف بوجه الحروب رافضة لتضيء وتبدد أجنحة الظلام :

(أنتِ الحياةُ برحمِ موتٍ

عابثٍ

لكنَّ طبعَ المــــوتِ

لا يتبــدّلُ

يا أنتِ يا بنت العراقِ

كأنكِ المشكاة

يغزوها الظلامُ

فيخجلُ

لتُطلَّ من فجرِ الشهادةِ

آيـــةٌ

في كل يومٍ في العراقِ تُرتّلُ)

وهي إذ يتوحد عندها الذاتيّ بالموضوعيّ تفتتح القصيدة بالشكوى من الحبّ والحبيب وتبثنا لواعجها حتى نقتنع تماماَ بأنَّها تعيش حالة وجدانية متدفقة بالرؤى والأحلام العاطفية الورديّة وسرعان ما نشهد ونتفاجأ بأنَّ هذا الحبّ بكامل طاقاته وانفعالاته يأخذ مدى أبعد من مداه الذاتي لينصرف إلى بغداد وإلى العراق المُبتلى بسراقهِ الذين أثخنوه قتلاً وغدراً ما يجعلها تقف حائرة بإزاء هذا المشهد المُحبط الذي هو بالنسبة لها مثل غدر الأصحاب ومَنْ نُحبّ بل وأكثر وقعاً وهي بهذه المزاوجة إنما تريد أنْ تؤرشف خيباتها مقرونة بخيبة وطن أنهكته الحروب الطَّائفية والصِّراعات السِّياسية والمفخخات ..فجاءت صرخاتها بوجه هذا السَّيل الجارف من الموت لتعلن رفضها لهذا الألم المقيم في حنايا روحها ونبض ِ قلبها، كيف لا وهي الشَّاعرة المفعمة بالرِّقة وهواجس استشراف الآتي .وليس أدلّ على ماتقدم من هذا التوحد قولها :

“أنا مثل بغداد ابتسَمْتُ برغم ما .. بين الضلوعِ تناسَلَتْ ألـــــــغامُ“.

وعمدت الشَّاعرة في مجموعتها إلى استدعاء رموز البطولة مثل (جيفارا) و(كلكامش) مزاوِجة في ذلك بين رموز عصرنا الحاضر والرّموز الأسطورية لتخلق امتداداً إنسانياً بذلك الاستدعاء .

وتجيد (مسار الياسري) في هذه المجموعة وعبر أشكال كتابتها الشَّعرية المتنوعة من قصائد التفعيلة والنّصوص النَّثرية رسم الصُّور الشِّعرية التي تمنح نصوصها قوة، وتمسك بالمتلقي لتشي له بمهارة الشَّاعرة في الصِّياغة والبناء الصّوري لقصائدها والتي بلغت ذروتها في هذا المقطع من قصيدة (نبية الحناء)

(ومناجلي سارَتْ على

مضضٍ مطأْطأَةَ الرؤوسِ

ورائي)

كما تميلُ الشَّاعرة إلى اعتماد النهايات المفتوحة في نصوصها النَّثرية بشكل خاص تاركة المتلقي يكمل رسم الصّورة التي ستؤول اليها وهي بذلك تفتح المجال للقاريء لأن يشارك في صياغة النَّصّ .

“أحمرٌعلى شفاه الصُّدفة” محاولة أولى لمسار الياسري أتمنى أن تتبعها محاولات أكثر إبداعاً وأنْ تختطَّ لنفسها نهجاً شعريَّا تجد نفسها فيهِ أكثر عبر أشكال الكتابة الشِّعرية يرسم ملامح تجربتها وهويتها الشِّعرية المتوهجة التي تميزها عن الأخريات فلا مجال للتجريب بعد هذه المحاولة وهي بما تمتلك من رهافة حسٍّ عالية وأدوات الكتابة الشِّعرية قادرة على ذلك بكلِّ تأكيد.

تمنياتي لها بالمزيد من التألق والإبداع، ولكم بمتعة اكتشاف مسارات الجمال ومآلاتها في هذه المجموعة البِكر .التي تجعلك تؤمن بما أومضت به مسار الياسري :

(للحبّ سلطةٌ حتى

أنه قد يؤجل القيامة...)

 

د . سعد ياسين يوسف

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم