صحيفة المثقف

الاحساسات في منظومة الادراك العقلي

علي محمد اليوسفكلمة خارج المتن: يجد البعض في مقالاتي الفلسفية توجها منهجيا نقديا يتجنبه غيري في عرضهم أفكار فلاسفة الاغريق والرومان القدماء وفلاسفة غربيين محدثين ومعاصرين، وربما يذهب تقديرهم القيام بمهمة مجاراة أولئك الفلاسفة الكبار بتوجيه النقد لآرائهم ليست مسألة سهلة.. لكني أفتقد غيري الاكفأ الاضطلاع بالمهمة الصعبة التي أتبّعها، مكتفيا بدعوتي أنه يتوجب علينا الخروج من شرنقة الانبهار الصنمي بآراء فلاسفة غربيين غير معصومين من النقد القاسي في بلدانهم وفي اوربا وامريكا ودول العالم الاخرى كافة ونحن نتصبّب خجلا ونتهيّب وجلا في نقدنا لهم، مكتفين بعروض آرائهم وتفلسفهم وتقديمنا فروض عصمة أفكارهم عن النقد والتصحيح، وتعودنا لما يذهب له شارحوا مباحث الفلسفة والمترجمين والمستعرضين والمعلقين في كيلهم أشادات التبجيل والمديح لهذا الفيلسوف أو ذاك بما لم يحظ بمثلها في بلده ولا خارجه، ولا يفهمني أحدا خطأ أنني أتجاهل حقيقة نحن مسبوقين بمراحل زمنية وعصور طويلة من التخلف عن مجاراة الغرب أفكارهم ومعارفهم وفلسفاتهم، ولست متجاهلا مثل هذا في مكابرة فارغة..

ولكنا لا نعدم وجود كبار من مفكرين عرب ومسلمين معاصرين قاموا بتلك المهمة النقدية لخطابات الفكر والفلسفة الغربية منذ بدايات التفكيرفي المشروع النهضوي العربي – الاسلامي بداية القرن التاسع عشر الميلادي، بكل أقتدار وكفاءة لكن جهودهم تلك بقيت جزرا متناثرة وغير موحدة ضمن مشروع فكري فلسفي نقدي عربي أسلامي يؤسس لمرحلة نخرج فيها من التبعية المنقادة لما تنتجه تيارات الفلسفة الاجنبية المعاصرة وهذه غيرها المثاقفة الحضارية بين الامم... بمختصر العبارة أدعو لما سبقني أليه غيري أهمية تنمية الحس النقدي الفلسفي والمعرفي الفكري لدينا، وربما لا أجاري غيري بالاقتدارالتي هي مهمة لا يستطيع أنجازها والقيام بمهامها شخص ولا عدة أشخاص لكن حسبي أني ذكّرت عسى أن تنفع الذكرى .....

مفهوم العقل عند هيوم ولوك

لا أجد أثمن من قيمة العقل النوعي عند الانسان... (ع.م.ي)

ذهب كل من ديفيد هيوم وجون لوك أن العقل مجرد قطعة جامدة من الشمع تشكلها التجربة الحسية كما تريد، بينما رأى كانط العكس من ذلك في العقل أنه نشاط فعال يتلقى التجربة وينظمّها ويسكبها ويصوغها في فكر. 1، وتشكيك هيوم وتطرّفه في الحكم على العقل جعله يعتبره مجموعة أحساسات وصلت أليه وأستطاعت تنظيم نفسها بمعزل عنه وأن تتحول الى فكر منّظّم2 ..

ربما نكون متعجّلين في أستنكار صدور مثل هذه الافكار التي لا تحتاج كثيرا من العناء لبيان هشاشتها ولا معقوليتها المنطقية الفلسفية قبل تخطئتها العلمية تجاه العقل الذي أعتبره هيوم في حال وجوده، أنه يكتفي أن يكون متفرجا في ملعب مباراة تنظيم الاحساسات نفسها داخله، بقدراتها الذاتية بمعزل عنه وهو يحتضر من الغيظ، أمام لا حقيقة وخطأ فرضية المناطقة الوضعيين الجدد أن العقل لا شيء يمكن أثبات وجوده في عجز قدراته قبل وبعد قيام الاحساسات داخله أنجاز مهمتها في تحويلها احساسات الحواس ذاتيا الى معطيات أدراكية موضوعية بدلا من قيام العقل بالمهمة كما هو المعهود في الفهم العلمي والمعتمد فلسفيا..

هناك رأي علمي و فلسفي يذهب بناء على ما سبق ذكره رفضه التام لهذه الاشكالية الفلسفية المفتعلة، في توضيح متواضع عليه أن الاحساسات سيول من الاشعارات والتيارات المتدفقة بلا هوادة تجاه العقل داخليا في الثواني والدقائق، وهي بواعث تحفيزية عشوائية غيرمنتظمة مصدرها الحواس التي هي بالتأكيد أكثر من خمسة أو ستة حواس معروفة فقط عن طريق تزوّد الانسان بها وقد يكون ما هو غير مكتشف من حواس عديدة موجودة عند الانسان أكثر بكثيرمن العدد خمسة أو ستة، التي تصل أشعاراتها في تيارات فوضوية بلا أدنى توقف الى العقل بمعناه الوظيفي الفسلجي العلمي وليس بمعناه الفكري التجريدي الفلسفي الذي لا يقوم على آلية التجربة العلمية الادراكية في تداخل العقل مع الحواس كما هو الحال عند هيوم ولوك، بينما تكون معطيات الادراكات الحسية الصادرة عن الدماغ هي أحاسيس نظمّت نفسها بنفسها وخرجت مولودا الى العالم الخارجي من جديد ولا عقل يتدخل في عملها حسب مثالية المناطقة التجريبيين الجدد، فمضمون العقل عندهم هو مجموعات الاحساسات في داخله فقط لا غير وما لايخضع لتجربة الحس من الصعب ترجيح وجوده المادي حتى لو كان العقل ذاته أو العالم الخارجي..

وبالقدرات الذاتية للاحاسيس التي مصدرها الحواس الخارجية حسب هيوم، تعمل تلك الاحساسات داخل العقل وليس خارجه في تحويل نفسها من أشعارات عشوائية بمئات الالوف ترد العقل في توقيتات زمنية متفاوتة ومصادر موضوعية مختلفة لاشياء وموضوعات لا حصر لها، وتستقبلها منظومة الجهاز العصبي بلا نظام ولا ترتيب أدراكي، لتصبح بعدها أدراكات معرفية داخل العقل منظمّة بأعجاز وقدرة فريدة في تحولها الى أفكار تعبر عن مختلف المواضيع المدركة من جهة، والتي تختزنها الذاكرة كذخيرة تجريبية في أكتساب العقل ألمعرفة بأنواعها من جهة أخرى...هذا تلخيص أمين غير مخّل لفلسفة ديفيد هيوم ولوك أصحاب الوضعية المنطقية التجريبية الحديثة في القرن 19 الميلادي حول علاقة الاحساسات بالعقل...

الحواس التي يمجدها هيوم ولوك ويضعانها فوق قدرات العقل ليست خادعة للعقل في نقلها الاستشعارات له وحسب، وأنما لو كانت الاحساسات تمتلك القدرة الذاتية في تنظيم نفسها بعيدا عن العقل فلماذا تنقل أحاسيسها الى داخل العقل والاستنجاد به في تنظيمه أستشعاراتها الحسية وتحويلها الى مدركات فكرية معرفية في التعبير عن مواضيع الادراك داخل العقل وليس خارجه؟؟ يتغاضى الناكرون لاهمية العقل أن هذه الاشعارات الحسّية لا تعمل تلقائيا ولا تعقل ذاتها ولا مدركات الحواس مجتمعة ألا تحت رقابة العقل الصارمة والجهاز العصبي اللذان ترتبط الحواس بهما....

أن أنكار ديفيد هيوم وغيره للعقل وأدعائه أن العقل ماهو الا مجموعة تصورات وأحاسيس وردت له عن طريق الحواس ونظمّت نفسها بنفسها في أنتاجها أفكار العقل والتعبير عن مدركاته، قول يفتقد الاقناع المنطقي المتماسك ناهيك عن تقاطعه الصارخ مع وظيفة العقل المتفق عليها علميا خارج هذاءات الفلسفة... ولا يمكن تمرير هذه الفرضيات الكارتونية بدون ملازمة العديد من علامات الاستغراب والدهشة أن تصدر مثل هذه الاراء من فيلسوف زاحم المتنبي في شهرته أنه كان ماليء الدنيا وشاغل الناس في القرن 18 الميلادي..

ولدحض هذا الادعاء الهزيل لديفيد هيوم في أن لاقدرة ذاتية للاحساسات الصادرة عن الحواس في تنظيم نفسها من دون تداخل وصاية العقل عليها، هو أن العقل يستلم من الحواس عبر منظومة الجهاز العصبي في الدماغ آلاف من الاشعارات الاعتباطية العشوائية غير المنتظمة في تفاوت أزمان أستلامها وتنوّع مدخلات مواضيعها، وأن وظيفة العقل غربلتها وتمحيصها وتشذيب المهم المطلوب من العقل تخليق مقولاته على بعض المواضيع المختارة منها فقط وليس كل المواضيع التي وردت أشعاراتها الى العقل عن طريق الحواس...ومواضيع العقل المختارة هي أستجابة لما يطلبه وينتظره الانسان من عقله المعرفي تحديدا لمعرفة ماذا يقول عن مخرجات الاشياء عبر أستلامه أحساسات الحواس لها...

العقل لا يتعامل مع مدركات وأشعارات الحواس الواردة اليه بما لا يمكن حصره من منطلق ألزام حسّي له أي للعقل وجوب الاجابة عن جميع الاشعارات الاحساسية الواردة اليه وأنها جميعا ذات أهمية واحدة للعقل... وأنما يختار العقل الذي ينكر وجوده هيوم من تلك الاشعارات الواردة اليه ماله أهمية أستثنائية في أولوية وأسبقية الرد عليها... فهل تستطيع الاحاسيس بقواها الذاتية تنظيم مثل هذه العملية المعقدة بمعزل عن وصاية العقل ورقابته عليها؟؟

أن فوضوية ورود الاحاسيس الى العقل لا تربك العقل من أداء وظيفته الاعجازية في تنظيم تلك العشوائية بنمط متمساسك من أفكار العقل الانعكاسية والارتدادية الصادرة عنه تجاه معالجته مواضيع العالم الخارجي وفق أهميتها لا وفق أعتباطيتها في أعتماد العقل لها كاحساسات أولية مادة خام، أو بالاحرى في تغييب العقل العلمي على حساب التفلسف الافتراضي الذي يدخل أحيانا حقول العلم في تخصصاته فيصبح نتيجة ذلك في وضع لا يحسد عليه...ومن غير المعقول أن يتم تنظيم تلك الاحاسيس بقدراتها الذاتية بمنتهى الدقة والاتقان كما يفعله العقل، لتكون أفكارا أجرائية صادرة عن العقل ومخزون معرفي تجريبي بالذاكرة من نواتج تخليق العقل للمدركات الحسية الواردة له وليس كما يراد من نواتج تخليق القدرة الذاتية المستقلة للاحساسات بمعزل عن مهمة تنظيم العقل لها حسب مثالية هيوم ولوك...

أن مهمة العقل تنظيم أختياراته من الاحساسات الواردة اليه في نوعية منتقاة وليس في عشوائية تتم في تغييب وجوده فلسفيا، وتحويلها الى مدركات جديدة معرفية تجاه مختلف المواضيع المختارة بدقة وعناية لا تفرضها الحواس على العقل وأنما تفرضها وصاية العقل على الحواس، وتنظيمها الادراكي العقلي هي الذي يعطيها أهميتها ويمنحها قيمتها ولولا أسهامات العقل الوظيفية الفكرية بهذه الوصاية التخليقية لها، لما كان هناك أية أهمية لما ترسله الحواس من أحاسيس غير منتظمة منقولة للعقل..أهمية تنظيم العقل للاحاسيس الواردة اليه يتم وفق قصدية غرضية هادفة يحددها العقل ولا تحددها الحواس التي تكون من غير أهتمام العقل بها لا أهمية لها في وجودها من عدمه.. وفي تجريد العقل عن الاحساسات لا نستطيع معرفة مصير أدراكاتنا الحسية المنقولة الى العقل...ونتساءل بضوء ما أوضحناه:

هل صحيح العقل مجموعة أحساسات تنظّم نفسها داخل العقل لا خارجه بقدراتها الذاتية بعيدا عن تداخل العقل معها ؟؟ وهل أن العقل هبة مطلقة مخلوقة فطرية بالانسان تنمو وتتشكل بالتجارب المكتسبة،؟ أم العقل تشكيلة معرفية مكتسبة مصدرها الاحساسات تقوم بأنشائها الحواس؟؟ نعتقد ما مر بنا توضيحه كافيا للاجابة عن هذه التساؤلات ولنا في السطور القادمة توضيحات لجوانب أخرى من هذه العلاقة التي تربط العقل بالحواس..

جون لوك وخرافة العقل الفلسفي!!

يذهب جون لوك صاحب الوضعية المنطقية التجريبية الحديثة (أن لاشيء في العقل الا ما كان في الحواس أولا) وأنتقلت برأيه هذه الاشعارات الحسّية لاحقا الى تكوينها العقل بالاحاسيس التي تنظم نفسها تلقائيا !! بمعنى واضح لا يحتاج تفسير لا وجود لما يسمى عقل عند الانسان لا بالمحتوى الفكري ولا بالتكوين البايولوجي في وجود هذه العجينة الرمادية بكافة محتوياتها وتشكيلاتها ومهامها داخل جمجمة الانسان وما فائدتها في تعطيل دورها تنظيم الاحساسات؟.. وجميع الاحساسات العشوائية المستلمة من الحواس كما سبق ذكره بحسب لوك وهيوم تقوم بتخليق نفسها ذاتيا بنظام تتحول به الى معطيات أدراكية تقوم بتصنيع الفكر والذاكرة العقلية على السواء.. وكل ما يحتويه العقل هو مضامين ومحتويات الاحساسات الواردة اليه من دون قصدية ولا هدف عقلي يتداخل معها ويقوم بتصنيعها.. لا نجد معنى تجريد العقل من خواصه الادراكية في منحها المجاني لاحساسات الحواس .. كيف يكون العقل فارغا الا من موجودات أستشعارات الحواس المنقولة له؟؟ وما هي الوظيفة المتبقية لكل من العقل المعرفي أو العقل العلمي بضوء ذلك؟؟ لا يمكن أن يكون العقل هو مجمل ما يرده من الحواس فقط، ولكن هو الآلية الفطرية والمكتسبة معا في قدراته التخليقية أن يجعل من مدركات الحواس أهم وسائل قدرات أشتغاله في أدراكه موجودات عالم الاشياء..

من الواجب التذكير به هنا أن الحواس لاتفكر بدلا عن العقل ولا تنوب عنه بانتاج المدركات العقلية للاشياء، ولا تمتلك هذه الميزة التخليقية الاستثنائية التي يحتازها العقل فقط، ولا تنتج معطيات الحواس قدرة أدراكية تقوم هي بتخليقها داخل العقل لكن من غير تداخله معها حسب مثالية كل من كانط وهيوم !!هنا ولأهمية العقل نقول العقل لا يوافق على نقل أحساسات الحواس من غير فهمه المبدئي لها أولا وقبل كل شيء، فكيف لا يكون للعقل كلمة أجرائية بما أدركه من محسوسات خام مصدرها الحواس في ردوده عليها؟؟

الحواس وسيلة أدراك عقلي لا تمتلك أدنى مقومات القدرة في التعويض عن مهمة العقل أنتاجه مخرجات منظومة المدركات بالفكر واللغة...وفي نقد مثل هذه الافتعالات الذهنية بأسم الفلسفة ذهب ليبنتز الفيلسوف الالماني الى مقولته القاطعة (لا شيء الا العقل نفسه).. وفي معرض تأرجح كانط في محاباة ديفيد هيوم صاحب فلسفة التشكيك بوجود شيء أسمه عقل، وهو الذي أيقظه كانط من سباته الدوغماطيقي، يقول كانط قبل أن يقرأ هيوم ويستيقظ من سباته على حد توصيفه، (أن الادراكات الحسّية بغيرالمدركات العقلية عمياء). 3 ونجد نحن أن وسيلة وحاسة أبصار هذه المدركات الحسية هو العقل فقط لا غيره... آراء هذان الفيلسوفان الكبيران كانط وليبنتز في أهمية العقل قبل الحواس يقتربان بها من التفكير العلمي الذي يدحض بجلاء هذاءات كل من هيوم ولوك الفلسفية بخرافة العقل في وجود أفتراضي غير حقيقي تصنعه الحواس له كمحتوى عن طريق ما تختزنه الذاكرة من أحاسيس تنّظّم نفسها بقدرات ذاتية مستقلة عن العقل.. أن ماأراده كل من لايبنتز وكانط هو أن العقل ليس صنيعة الحواس، وأيعازات وأشعارات الحواس لا قيمة حقيقية لها في تجريد العقل منها..والعقل وحده يمتلك قابلية تحويله الاحساسات الى مدركات عقلية حول مواضيع الاحساسات الواصلة اليه ليس ألا...هنا أهمية التساؤل كيف تعي أشعارات الحواس مضامينها التجريبية ذاتيا في ألغاء العقل كمصدر أساس أولي لكل أنواع المعرفة منها الحواس؟؟ وكيف تصل أشعارات الحواس للعقل وتستقر فيه قبل أدراكه المسّبق لها؟

الفطرة التكوينية للعقل مع المعارف المكتسبة له تجعله يمتلك أسبقية على أدراكات الحواس، وذخيرة معرفية تمّكنه من التعالي فوق الحواس ومدركاتها الحسّية، ولو أن فرضية هيوم المثالية في ترجيحه أن العقل هو حصيلة ما تملأه به الحواس من أستشعارات حسّية صحيحة فمن أين يمتلك العقل القدرة الذاتية في معالجته الافكار والمواضيع الخيالية المستمدة من التصورات الواقعية ومن الذاكرة التخزينية في العقل؟؟

ومواضيع الخيال في الذهن ليس مصدرها الحواس كما معلوم بل مصدرها المخّيلة والذاكرة فقط...ثم من المهم جدا أن نذكر أن العقل ليس واحدا عند جميع الاشخاص، وأن أمتلاك الحواس ليس معناه تصنيع عقول الناس في نمطية واحدة من المستويات في الغاء تبايناتها وأختلافاتها في تنميط واحد من النوعية، وسنأتي لتوضيح عبارة ديكارت الشهيرة (أن العقل قسمة مشتركة عادلة بين الناس) وهي مقولة ربما كانت تنسب أسبقيتها للامام علي بن ابي طالب في نهج البلاغة، ...

مقولة ديكارت العقل قسمة عادلة

أن مقولة ديكارت الشهيرة (العقل قسمة عادلة بين الناس) لا تعني أزالة الفوارق الجوهرية بين عقول الناس، فالعقل قبل أن تكون العدالة في أمتلاكه، تكون العدالة في أهمية أختلافه بالكيفية والقدرات والامكانات المتفاوتة بين الناس، هنا تكون العدالة الحقيقية في أمتلاك العقل في عدم تضييع أو الغاء تفاوت ذكاء وتنوّع قدرات العقل بين الناس في وجوب عدم المساواة بين عقولهم، فهم يمتلكون (عقلا) بيولوجيا مفكرا مشتركا لكنهم لا يمتلكون عقلا علميا أو معرفيا واحدا وألا كانت قسمة المساواة في العقول فرضية غبية لا يقول بها عاقل.. وليس العقل واحدا في تجلياته ومعطياته وتمايزه في التفكير وألا أنتفت العدالة عندما يكون قسمة مشتركة غير متمايزة في المساواة في فرضية خاطئة هي نمطية التسطيح الذهني الذي يلغي الفروقات الجوهرية بين عقول الناس.. والعقل البشري في تمايزه الانفرادي أنما هو في حقيقته عقل (نوعي) ليس في مقارنته بما يمتلكه ويمتاز به عن غيره من مخلوقات حيوانية تمتلك دماغا أدنى مستوى من عقول البشر، وأنما في نوعية العقل لدى الانسان في النوع الواحد (مجموع الناس)، أنه ليس عقلا منمّطا واحدا أنما هي عقول متمايزة فيما بينها داخل فصيلة النوع الانساني، وهذا الاختلاف ممكن أن نجده عند الحيوان كنوع في الطبيعة، في تمايز أشد واكثر تنوّعا منه على مستوى الانسان كمخلوق نوعي عاقل لا يتمايز بعقله عن الحيوان فقط وأنما يتمايزبه داخل نوعه على صعيد الانسان..العقل الانساني قسمة مشتركة عادلة في التنوع الادراكي الفطري والمكتسب معا، ولا يكون العقل قسمة مشتركة عادلة في التنميط المستحيل الذي يعامل الناس في أمتلاكهم عقلا واحد وليس بعقول عديدة لا حصر لها..

العقل فكرة مخّلقة

عندما نقول العقل فكرة مخّلقة عن الذهن ينتجها العقل بالفكر وليس بالحواس ولا أي شيء آخر فأنما نقصد بذلك أسبقية العقل وقدراته المعجزة الاستثنائية التي يحوزها ويمتلكها في تخليقه لمدركاته الحسية، والعقل ليس محايدا لا في معرفة الشيء ولا في قدراته الملزم تنفيذها تجاه أعطاء توصياته وحلوله تجاه الموضوع المدرك الواحد في أعادة تخليقه من موجود أو موضوع طاريء في الطبيعة وعالم الاشياء الى موجود من تصنيع العقل جديد بما ينفع الانسان في حياته، والعقل لا يدرك ما تنقله له الحواس لمجرد أدراكها من غير غائية أو هدف يستحثه بلوغها، وهذا الهدف لا تحدده الحواس القاصرة ولا موضوع الادراك ذاته وانما يحدده العقل بضوء حاجة الانسان أعطاء العقل مخرجات توصياته الادراكية لمواضيع يكون الانسان بحاجة لها...

العقل والزمان

يذهب شوبنهور في مقولة له يبين بها أعجابه بكانط (أن فضل كانط هو في تمييزه بين مظهر الشيء عن الشيء بذاته) ليتلقفها هوسرل ويقيم بناؤه الفلسفي بما يعرف بمنهج الفينامينالوجيا أو ما يعرف تعريبا بالمنهج الظاهراتي....

في مقولة كانط السابقة نجده أعزى مهمة الفلسفة، بل الاحرى مهمة العقل الفلسفي هي معالجة مدركات المواضيع في ظواهرها الخارجية فقط، أما مهام معرفة الاشياء بذواتها فهي من مهام العقل العلمي حصرا، ويعتبر أكثر من فيلسوف يشارك كانط رأيه أن محاولات العقل الفلسفي دخول معترك وميدان موجودات الاشياء بذواتها أنما هي مغامرة الدخول في مجهول.. وتوقع العقل المفكّر في تناقضات كما يذهب له كانط التحذير منه...

ويذهب بعض الفلاسفة ممن يشككّون بقدرات العقل في معرفته حقائق الاشياء أمرا مستحيلا معرفته وأنجازه، ويكتفون بتوجيه قدرات العقل نحو معرفة الاشياء في وجودها الفيزيائي الطبيعي في ظواهرها وصفاتها الخارجية البائنة، وعلاقتها الادراكية بالزمن.. أن في تحويل الادراك الفلسفي الى نوع من رياضية المعرفة، أمر لانجده يتحقق ويحصل على نتيجة مطمئنة...ويرغب بعض الفلاسفة مقايسة حقائق علم الرياضات وأسقاطها على مباحث الفلسفة في تحصيل مفاهيم فلسفية قريبة من التفكير العلمي الطبيعي...لكن رغم أرادة الدمج والتداخل بينهما لم تصبح الفلسفة الحديثة علما، ولا غادرت العلوم الطبيعية تجريبيتها الصارمة لتلتقي بالفلسفة في تجريدها المنطقي غير العلمي..علاقة العلم بالزمان في المعرفة يختلف عنه علاقة العقل الفلسفي بالزمان،  وحصوله على مدركاته، والعقل هنا تتوقف أدراكاته لموجودات الاشياء في الطبيعة ومعرفة ظواهرها فقط، والعلم في علاقته بالزمن يفهمه فهما فيزيائيا كونيا كوزمولوجيا ليس له بداية ولا تدركه نهاية، ويبقى الزمان اللغز المحيّر الكبير أمام تساؤلات العقل العلمية والفلسفية على السواء غير المنتجة تقدما عنه ...

العقل النوعي والحواس

فارق جوهري كبير يبطل خرافة الحواس تصنع العقل ولا يصنع العقل مدركات الحواس، هو أن عقل الانسان يمتاز بأمتلاكه خصوصية أدراكية فكرية تختلف من شخص لآخر نجدها في تباين نسبة الذكاء عند الناس وفي تباين طرق تفكيرهم وتعبيراتهم عما يصادفونه بالحياة، وفي تنوع ردود أفعالهم الى غير ذلك من أمور جوهرية تجعل من العقل صمام أمان يمتلكه كل أنسان في تنظيم عقله لمدركاته الحسّية، ليس بنمطية واحدة تجمع تفكير جميع عقول الناس بأحساساتهم المتباينة، لأن في ذلك نوع من ألغاء الخصوصية الضرورية الفطرية والمكتسبة معا للعقل، التي تجعل من معارف الطبيب غير المهندس ومن الفلاح غير العامل ومن الاستاذ غير الطالب وهكذا بما لاحصر له من فروقات فطرية موضوعة بالدماغ تلعب الوراثة الفطرية دورا كبيرا فيها، تكمّلها معارف مكتسبة بالتجربة والتحصيل العلمي والثقافي بالحياة.. الحواس في تباينها وأختلافاتها من شخص لآخر تتبع آلية واحدة أنها تنقل جميع أحساسات الحواس كل حسب تفرده وأختلافه عن غيره، بفوضوية وعشوائية غير خلاّقة لأنها قاصرة أن تعي ذاتها بمعزل عن وصاية العقل عليها، ما يرتب أن تكون ردود أفعال عقول الناس متباينة بأختلاف تنوعاتهم في الكثير مما لا يحصى من التمايزات والقابليات العلمية والثقافية والملكات والذكاء وغيرها...

 

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................

الهوامش :

1- ويل ديورانت / قصة الفلسفة/ ص 341

2- نفس الصفحة اعلاه

3- المصدر السابق ص 344

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم