صحيفة المثقف

سحر العيون

امين صباح كبةتضوّعت والتمعت، أرضٌ أشجارها اخضرّت، ومياهها جرت، وعصافيرها زقزقت، وعنادلها شَدت وتغنّت، وأقاحيها فاحت وعطّرت. لا ظلم فيها ولا شر، ولا معصية ولا منكر، أرضٌ قد خلت من البشر، في ليلها يحلو السهر، وفي نهارها دفء ومستقر. قلّبت تربتها بمسحاة أشعاري ورويّتها من دمعي الجاري. قد أغنتني بكنوزها، وروّتني عسلها ولبنها بكوزها. حتى أتى يومٌ طفت فيه بملحقاتها، فأوصلني آخرها إلى عجوز قد استند إلى قبر وهو ينشد باكيًا:

 قبرٌ زيارتُهُ هوىً تترى لأشمَّ فيهِ منَ النوى عطرا فيهِ الَّذي قدْ كانَ لي روضاً لمَّا اجتنيتُ بحبِّهِ زهرا وسألتُهُ: ما أجملَ الذكرى؟

فأجابني: لمْ تنسني قبرا! خيَّرتُهُ جسمي يقيمُ بِهِ فاختارَ عيني والكرى مسرى.

قلت: ياهذا أ أنت جن أم بشر؟

 قال:حبيب لحبيبه هجر، ولجميله أنكر فمضى في حياته واغتر، تاركًا من يهواه يتحسر. تركتها في هذه الأرض ووعدتها بالعَود، وأخلفت الوعود بالجحود، وتركتها فماتت بين هذه الورود، فأصابتني لعنتها إلى يوم الورود ولم يفكك سحرها أحراز ولا ورود. ثم صمت وتنهد.

وقال: أقسم عليك بالواحد الأحد، الفرد الصمد. ألّا أخبرتني، ألست الذي صدّعنا بإيلاف؟.

قلت: بلى. قال: أظنها أسرتك بهذه الأرض كما أسرتُ حبيبتي. صن نفسك واغرب عن الأرض. ولما هممت بالكلام، تبخر كأنه لم يكن، فعدت إلى الأرض وأنحنيت وحمدت ربي وصليت.

2.........

دغدغني نسيمها، فتنعّمت بنعيمها. صيّرتها كلّ كلّي، فأنستني أهلي وخلّي. فأنشدت مشتاقًا لمن رماني، عسى أن يستقر كياني:

((يا نسيم الريح قولي للرشا لم يزدني الورد إلا عطشا لي حبيب حبه وسط الحشا إن يشا يمشي على خدي مشا روحه روحي وروحي روحه إن يشا شئت وإن شئت يشا)).

ولما أتممت تردديها، أقفرت أرضي فصرصرت ريحها، وجفّت ينابيعها. واصفرّت أشجارها، وذبلت أزهارها، واستعر جحيم نهارها، وشهقت نيران شمسها، وأطبق ظلام ليلها، فتجلى صقيعها، وغاب عني قمرها. قالت: أحضرتني الغيرة بعد الغيبة، ومنعتني الهيبة، وسلبتني الحيرة من هذه المصيبة. وإن كنت ترغب بالحبيبة فاقبع في هذه الأرض، وتوسل بربك في كل فرض.

قلت:أنا العاشق المسهد، وانت الحبيب الأوحد، قد لمّعتُ بأشعاري الفرقد.أنا الذي أخفى الحقائق عن الخلائق.

قالت: يا صاحب المقامات أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تليق بالخليقة*

قلت: أنا ترياق التائق، للباطل ماحق، وللحق ألاحق.

قالت: فمن تكون؟

قلت: أمينكِ أمين، على قلبكِ أمين. قد ملكت البقاع، بروي الأسجاع. ألفي أمان واطمئنان. وميمي مغامرة ومعرفة، يائي ينبوع حب. ونوني نورٌ ونار، قد هجرت الديار، وسكنت في هذا الخضار، لساعة الإحتضار، ولم أعلم أنه سيحال إلى قفار.

قالت: ويحك من مدح نفسه ذمها، فاستحمل قفر أرضي وألمها، ولا تشتكِ من عذاب جهنمها. واحترم قبور صرعاها، عنترها جميلها، قيسها،عبلتها، بثينتها، وليلالها. ولما تلفتُّ بحثًا عن إيلاف لم أجد سوى أرضها التي صفّرت من الخواء. فحفرت قبرا لي وكتبت على شاهدته وأنشدت:

(( زورونى كل سـنة مرة حرام تنسـونى بالمرة أنا عمــلت إيه فيـكم تشاكونى واشاكيكم أنا اللى العمر اداريكم حرام تنسونى بالمرة.))** ولما أكملت الأبيات رجنّي أصحابي. ولما استفسرت خبري منهم، عرفت أنني تمعّنت بعيني إيلاف لفترة ثم غبت عن الوعي. فاستمعت لرويهم وأصغيت وعدت من حيث أتيت.

(مقامة)

 

أمين صباح كُبّة

...................

*الحلاج

**سيد درويش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم