صحيفة المثقف

المبادرة خير من انتظار غودو

منذ سنوات وأنا أتقلّبُ بين نقدٍ وانتقاد وسخرية وفضح ونصح وحض وتحريض.

أجرّبُ هذا وألتفت إلى ذاك. أكتبُ هنا وأكتب هناك.

أخاطبُ نفسي مرّة وغيري مرّات، فلا أسمع إلا مدحا أو مجاراةً أو "أخذا على قدر العقل" أو تحذيرا من عاقبة من تجاوز أحمرَ أو دخل في أسود.

لم أفعل غير ما فعله ويفعله سواي الكثيرون، وما حيلة أيّ منّا غير الانتقاد؟

وما سلاح أيّ منّا غير الكلام والكلام والكلام. الفاضي والمليان. وما من كلام مليان.

أفكّر أحيانا في ما فعل من سبقنا من الشعوب والأمم. وأفكّر في ما يفعلون.

في ما أنجزوا وفي ما ينجزون.

وأتساءل: أين الخلل؟ ما الذي ينقصنا نحن ويتوفرون عليه هم؟

ما الذي يملكونه ولا نملكه؟

كيف السبيل إلى كسر هذه الحلقة المفرغة التي تنطلق من انتظار أن تبيض دجاجة قد لا تبيض، جينيا أو بتعقيم؟

ما العمل؟

ننتظر؟ ننتظر ماذا؟ ومَن؟

عشتُ في إسبانيا سنوات طويلة ورأيتُ الناس يبادرون، وما أكثر ما  يبادرون، إلى نشاطات لا تكلّفهم مالا، نشاطات يجنون منها رضى وانتماءً وشعورا بأنّهم نافعون عاملون متكافلون.

يجنون منها رسائل تضامن وإشارات تكافل ومواطنة وتربية صالحة.

قلّبوا صفحات الشبكة العنكبوتيّة في أيّ بلد تختارون وبأيّة لغة تجيدون وستجدون شيئا اسمه "العمل التطوعي".

عملٌ خالص لوجه المواطنة ولوجه الخدمة:

موظف يعمل ساعات فراغه في مركز الإطفاء أو في الحماية المدنية.

شاب يتطوّع مع زميلته أو شقيقته للعمل في دار للأيتام أو للعجزة

يعودون مريضا

ينظمون برامج للتوعية

يلاعبون أطفالا أو بالغين من ذوي الاحتياجات الخاصة

يفكرون في تدبير للمتسولين، المشردين، اللاجئين. أطفال الشوارع.

شباب يعملون في خدمة المرضى في المستشفيات

امرأة أو رجل يتطوعون للخروج بالأولاد في نزهة

شباب ينظفون شارعا أو نهرا أو حديقة

وآخرون ينسقون مع المدارس للقيام بأيّ نشاط لا صفيّ يعود بالفائدة على الأولاد.

شباب يفكّر في تكوين فرقة موسيقة

أو مسرحيّة

أو معرض للرسم

أو للكتب

في ماراثون سنوي

في مهرجان سنوي

في أيّ شيء سنوي.

في تنظيم دورات لمحو الأميّة

للخياطة ... للتصوير...

حلقات للمطالعة للأطفال

دمى متحركة

دروس مجانية في أيّ شيء.

................................

فهل يفعل كلّ هؤلاء ما يفعلون لأنّ الخدمات متوقفة أو معطلة أو قليلة أو معدومة؟

هم يفعلون ما يفعلون لجعل "الخير خيرين".

لإرضاء شعور داخلي بأنّهم "يحققون ذاتهم ومواطنتهم".

بأنّهم يترجمون الشعارات والأقوال أفعالا

بأنّهم يقدمون الدرس والعبرة والأسوة الحسنة للآخرين من حيث لا يريدون ولا يشعرون.

هكذا تتعلم الأجيال أنّ الخدمة هي خدمة للجميع وللنفس

وأنّ المجتمع هو مكان الجميع

وأنّ واجب الحفاظ على نظافته وسلامته وصحته وبنيانه مرصوصا هو واجب الجميع.

فما الذي ينقصنا لفعل ذلك؟

وما الذي يمكن أن يعطّل علينا فعل ذلك؟

................................

أمّا النقصان فلا ينقصنا.

فلا نشاط من هذه الأنشطة يستدعي تمويلا كبيرا ولا إنفاقا باذخا ولا تلطيخا لليد بأيّ مال مبتز.

فإن كان لا بدّ من المال، فبيننا لا من غيرنا، لأنّ الهدايا تعني شروطا ومقابل. وهو مقابل في العادة فاسد.

كلّ ما نحتاجه هو إرادة للعمل وتقديم الخدمة من دون منفعة مادية ولا اعتبارية ولا قيادية.

وهذا بالذات هو ما قد يعطّل علينا الخدمة ويخرّب الفكرة وبالتالي المبادرة:

نَفَس القيادة والزعامة والظهور

الرغبة في ركوب موجة الخدمة العامة للحصول على منفعة خاصة

فعل ما يفعله الساسة وأبطال الاستعراضات وهواة السلفي والدعاية.

وهؤلاء بالذات هم من نهرب منهم

ونأنف من أن نسير على خطاهم

وهذا هو بالذات ما وصل بنا إلى ما نحن فيه.

شيء آخر

طمع البعض وجشعهم وفسادهم الذي يجعله "يمد يده" حتّى إلى جيب الفقير الشريف الذي قرر أن يبادر بنفسه إلى ما لم يبادروا هم إلى فعله.

.......................................

فعلى كلّ من يجد في نفسه الكفاءة والقدرة وعفّة النفس والزهد في الدنيا والبعد عن حب الظهور والرغبة في الخدمة لأيّ وجه كان، وفي سبيل أيّ كان، من دون راية غير راية المواطنة، ولا هدف غير هدف الخدمة، ولا طمع في غير زرع الحبّ والتضحية، ولا صور ولا شعارات ولا مزايدات ولا تفاخر ولا مباهلة ولا ثرثرة، فليبادر.

فليدعُ عشيرته الأقربين

أصدقاءه القريبين منه في صفاته وحرصه وزهده وهمّته وتواضعه

وليلعب معهم لعبة الخدمة التطوعية

لعبة البناء

لعبة المبادرة التي لا تنتظر بيضة من دجاجة ثبتَ بالدليل الملموس أنّها لا تبيض.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم