صحيفة المثقف

يومٌ من الأيّام

حمودي الكنانيكالعادةِ، على غير هدىً رافق الطريق الإسفلتي الممتد طويلا يتنفس من جوانبه الاتربة المتراكمة منذ زمن بعيد . كان يشغلُه ألفُ هاجس وهاجس... أغمض عينيه وفتحهما على آثار انفجارات كبيرة، مركبات تحترق، دماءٌ هنا، دماءٌ هناك، شعورٌ متناثرة في كل مكان، اشلاء اختلط بعضُها ببعض . رائحة الموت تزكم الاُنوف .. مشاهد لا يُرى فيها غير الدمار والخراب . افواه الراجلين فاغرة، صراخ باعلى الأصوات بعبارات غير مفهومة، حواجز، اسلاك شائكة، أعمدة منحنية، اسلاك كهربائية تتدلى من فوق كأنها تتفحص ملوحة التربة، يافطاتٌ تمنعك من الاقتراب، المحاذير كثيرة، المخاطر جمة، الأحتمالات كلها قائمة، وبين لحظة ولحظة يتوقف قليلا يتلمس قفاه، يلعب بمنخريه، يجلس ثم ينهض يستعرض جسمه، يهز قبضته ثم يعود يضحك من جديد .تلك المشاهد المرعبة افقدته القدرة على تخيل ما يراه كأنه لا يصدق عينيه، يهز قبضته من جديد متمتماً، أين مضى اولئك الذين كانت الساحات والملاعب تزدحم بهم؟ حتى تسكعهم كان يبعث الفرحَ والاملَ في النفوس، اظنهم تعودوا الغياب فتلاشوا عن ذاكرة المكان، ذلك الذي يقف عاريا على تلك الانقاض اظنه يعرفني، رويدا رويدا يقترب منه، ينادي عليه بصوته الاجش، يا هذا أتسمعني، أين مضى اصحابك؟ لا جواب، يقترب منه اكثر، يحدق في عينيه، لا يرمشان، يهزه بيده، يا إلهي ماهذا، أ يعقلُ أن يكون قد فارق الحياة بعد ان مزق اثوابه من هول ما رأى ووقف ليسلم روحه الى بارئها ليتخلص من رؤية الماساة . كل شيء جائز.

وحينما التفتَ إلى الوراءِ ليتأكد أن ما رآه لم يكن وهماً كان كلُّ شيءٍ موحياً، لمساتُ أصابِعه على جسده، ملامحُ وجهِه، آثارُ أقدامِه، كانت كلها توحي بأن أمراً محتوما أن يحدثَ لكن لماذا كلّ هذا ؟ لعله لا شيء أوووووو.. تلك معضلة ! هذا الكائن الواقف بلا حركة لربما لم يقتنع بكل ما رأى أو تلمسَّ حينما كان يمشي متثاقل الخطى فبدأ يخلع عنه كلّ ما حملَ بدءً من غطاءِ الرأسِ حتى وصل إلى حالةِ تعرِّيه ألقسري حينما وقف على المشهد! تأمله بشراهة فرأى التفاصيل على جسده أكثر انسجاماً وأدقّ. كان قد فضل ذلك أساساً لا لأنه اراد أن يستبيح وقاره ولكنه لم يجدْ ضالتَه فيما يستر به ما بدا منه من هول الصدمة فاختارَ أن يظلَّ واقفاً احتجاجا غير ملتفتٍ إلى الوراءِ ينتظر حتى يمنحَ فرصةً لمن يتأملهُ عن قرب. مرّوا عليه كلهم :

الكاهنُ لم يقل شيئاً ظل صامتاً يبحثُ عن شيءٍ فلم يجد غير جلبابِه البالي ولما هم بخلعه ليرمِه عليه برفقٍ أدرك أنه لم يلبس سروالا يستره هو الآخر فبحث عن حصاةٍ يرمي بها الأرضَ ولما لم يجدْ شيئاً التفتَ حوله ليتأكدَ أن لا أحد من المارةِ ينظر إليه فهرولَ مواصلاً وجهتِه دون أن يلتفت إلى الوراء.

الشيخ الذي اجهده الهزالُ لكثرةِ تبتّلِه، لم يستطع الوقوف بغير عصاهُ . اتكأ عليها وظل يقبض على لحيته التي أذهله نموُها السريع غير المرغوب فيه فاستطالت بغير حياء، أراد أنْ يرفعَ عصاهُ ليلكزَه بها، خذلتْه ذراعُه فانكفأ على قفاه ولم يستطع أن يحُرِّك ساقيه اللتينِ انكشفَ عنهما الرداءُ وبان المستور فانقلبَ على بطنِه ليحتشمَ لكنه لم يفلح .

الشاعرُ رآه جسما أمرد يغري الكلمات فراح يُقلِّبُ صفحاتِ مفكرتهِ ليكتبَ قصيدةً تليقُ بالمشهد، خانته ذاكرتُه أين دون كلمات العُري فراح ينسجُ من خياله فأبدعَ في نظم الأشطر الأعْجاز والإعجاز، فكانت القصيدة الملحمة لفَّها وربطها بخيطٍ وعلَّقها في عنقه .

مرّ الغازي شاكي السلاح، رآهُ مبتسما فأغاضتْه الإبتسامةُ. قعدَ له عن قربٍ، سددَ عليه، ضغطَ على الزنادِ، الرصاصةُ اخترقت جسمَه، لكنه لم يسقطْ على الأرضِ...ركلَه بقدمِه ليتأكّدَ من رميتِه، فلما خاب أمله مشى مطأطئاً بلا حياء.

الرسام مرّ حاملاً إصباغه على ظهره وبيده فرشاة استفزّه المنظرُ، غمسْها بالألوان المناسبة، جلسَ على مقربةٍ أمامَه وغرقَ في رسمِ التفاصيل فلما اكتملت الصورةُ آثر أن يحتفظ بها لتكون أولَ لوحةٍ في معرضهِ المزمعِ إقامتُه بلا تاريخ بنفسِ المكان .المؤرخُ نقلَ عن المارةِ كلّ ما حدث فجاءتِ الرواياتُ مختلفة !!

 

حمودي الكناني

كربلاء 27/9/2019

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم