صحيفة المثقف

النزعة الروحانية واللونية في اعمال ابراهيم العبدلي

94 ابراهيم العبدلي 1عندما نقف في امان الى جانب اعمال الاستاذ ابراهيم العبدلي ونتأملها بما تحفل به من خيالات واسعة ومواضيع متنوعة عن البيئة والتراث العراقي الشعبي، يمكن لنا ان نصنع من بعض مختاراتها كتابا من اكثر الكتب تأثيرا واكثرها قربا الى مشاعر الناس، ونلمس فيها ما يبرز من المجد الذي يكلل جهدا روحيا عظيما من الانتصار الذي حققه صبر هذا الفنان .

ويعمل الاستاذ العبدلي ضمن تجربة ومعرفة موضوعية للحرفة في اسلوبه الواقعي والتأملي في موضوعاته وتقنياته، وهي اشارة الى التعامل العقلاني في تنفيذ اعماله . ولم يكن فوضويا في تنفيذها، انما كان جل اهتمامه بان يجعل لوحاته حصيلة فذة للتركيز على اللون والفكرة او الموضوع.. وقد هيمن على اعمال ابراهيم العقل الواعي والقصد والحس المرهف. وكان يخطط لتكويناته الخاصة بعناية فائقة.

94 ابراهيم العبدلي 2

ونجد في اعماله الخط غائبا، الذي اعتمدت عليه المدرسة الوحشية وكذلك مدرسة الواسطي البغدادية، وانما اللون يلعب وجودا حيا من التعاطف والتآخي مع محيطه حيث تسير الالوان بحرية مع فرشاة انطباعية راقية مولدة بحركتها ايقاعات تتفاعل مع بعضها بتناغم جميل .

واستخدم ابراهيم في تقنياتة اصباغ ومواد مختلفة من الزيت والكريلك وغيره وكذلك المائيات على الورق وبطريقة عفوية حرة تذكرنا باعمال بعض الفنانين الانطباعيين مثل سيزان .

94 ابراهيم العبدلي 3نجد في اعمال ابراهيم روحانية وخيال وتأمل، وهو يعود بنا الى الجذور الشرقية والفن الاسلامي بروحه والوانه الساطعة والحارة وكذلك المدرسة الانطباعية حيث الاختزال والرقة في البناء الانشائي وغياب الخط الذي يعوض عنه بالتضادات اللونية التي تبرز الاشكال والالوان والقيم الجمالية ...

اما المواضيع فهي مستقاة من البيئة العراقية وخاصة البغداية .. من شناشيل وعربات الربل والحصان العربي والطير والمناظر الطبيعية والمرأة البغدادية برقتها وجمالها وعفتها التي تبهر الناظر اليها ..

وبالتالي نصبح امام اعمال لها مظهرين من مظاهر الادراك وهما: الادراك العقلي والادراك الحسي. وبهذه المناسبة ننقل رواية تاريخية من من بطون كتبنا العربية تقول ان هناك مطارحات حدثت بين عقليتين كبيرتين، بين الشاعر الكبير ابو نواس وبين صاحب المنطق المعتزلي ابراهيم المعروف بالنظام، وهو حوار بين المنطق الصوري والمنطق الجدلي او موقف صاحب الشكل وصاحب المضمون او بمعنى آخر اتباع الادراك الحسي واتباع الادراك العقلي . وكان الجدل يدور حول ان الفنان او الشاعر كالصوفي يبحث دائما عن المحجوب يبصر مباهج الكمال والجمال . لذلك صاح ابو نواس في وجه النظام: عرفت شيئا وغابت عنك اشياء . اي عرفت من الشكل واحد – بالادراك الحسي – ولكنك فقدت معرفة - الجوهر- معرفة اشياء كثيرة دون الادراك العقلي .....

وقد حول سيزان الادراك العقلي الى حسي عندما ابتعد عن التناقضات الحياتية باتجاهه الى الانطباعية او الى الطبيعة وهو القائل: (اعتقد انني اصبح اكثر صفاء في مواجهة الطبيعة). اي انه يتلقى المؤثرات الجمالية كالشاعر من الواقع الذي حوله

الاسلوب في اعمال ابراهيم

الملاحظ في اعمال ابراهيم وجود صفتين مجتمعتين الاولى هي الصفة الواقعية او التمثيلية حيث ينقل لنا بفرشاته الواقع المحسوس والمنظور المتمثل في البيئة العراقية الغنية بمواضيعها وتراثها العريق، ولكن نقلا تأمليا ابداعيا يلامس مشاعر المتلقي وجوهره .

فالعقل عنده لا يحد من تصوراته حيث يهيم محلقا فوق مساحة سطح اللوحة ليخلق فيها تلاحما او تشابكا بين الشكل واللون واللذان يؤديان بالتالي الى التناغم المشترك الذي يعد شيئا جوهريا في العمل الفني، ولكي يحقق ذلك التناغم عليه ان يعتمد لا على رؤيته البصرية فقط وانما على احاسيسه ومشاعره الداخلية .

والمدرسة الواقعية لها تاريخ طويل، حيث يعتبر جوستاف كوربية 1819- 1877 – مؤسس هذه المدرسة في الفن التشكيلي في اوربا . وقد فتح نظرية جديدة غير مألوفة من قبل وهي نظرية - الواقعية – حيث اكد على رسم الاشياء كما هي في الواقع دون اللجوء الى الخيال والمثالية، كما كانت عند المدرسة الكلاسيكية القديمة والحديثة . وحيث يمكن التعبير عن الافكار والتصورات الواقعية كما يشاهدها البصر وكما هي في الواقع . وكانت هذه النظرية قد اعتنقها الفكرالاشتراكي البروليتاري في روسيا في بداية الثورة واسسوا عليها المدرسة الاشتراكية في الفن ... ..

94 ابراهيم العبدلي 4

اما الصفة الاخرى التي نشاهدها في اعمال ابراهيم هو الاسلوب الانطباعي حيث الغنائية اللونية والشاعرية العذبة والطروبة ولمساة الفرشاة الساحرة والراقية ... وتعتبر الانطباعية او التأثيرية- 1874 - مذهباً فنياً جديداً أتسمت بالعلمية غير أنها تعتبر استمراراً لاساليب المطابقة السابقة ولكنها اكثر تقدمية واكثر واقعية من واقعية المصور الفرنسي كوربية . لهذا لقبت الانطباعية بالواقعية العلمية . ويعتبرها البعض الحد الفاصل بين المدرسة الكلاسيكية القديمة وبين المدارس الفنية الحديثة .. وكان مونيه زعيم هذه المدرسة يرسم البرك المائية والامواج ويكرر ذلك في اوقات مختلفة دارساً التأثيرات الضوئية على المنظر الطبيعي وكذلك الظل والضوء .. وكان يقول: (أن البحر سبب وجودي).

ومن صفات المدرسة الانطباعية هو رسم المناظر الطبيعية واللمسة العريضة والضربات الجريئة واحياناً اختفاء الخطوط التي تحدد الاشكال حيث عوضت عنها بالظل والنور . وهذا مانجده في اعمال ابراهيم الانطباعية ولكنها لها خصوصية تنتمي الى الواقع والبيئة العراقية، والطبيعة دائما هي ما هي عليه ولكن لا شئ يتبقى منها لا شئ مما نراه ولابد لفننا من ان يمنح تلك الطبيعة معنى الاسنمرار الى جانب مظهر كل تغيراتها فيساعدنا هذا على الاحساس بالطبيعة كشئ ابدي، وهذا بالتالي يقودنا الى ان كل ما وراء المظاهر المرئية تكمن هناك حقيقة باقية وان وظيفة الفنان هو كشف تلك الحقيقة .

و المعروف ان الالوان الرئيسية تتحطم عندما تمتزج مع بعضها. وهناك طرق كثيرة في مزج الالوان في تخفيفها او تعادلها او تقويتها ذكرت في كثير من الكتب القديمة والمعاصرة . وكان ولازال ابراهيم واعيا لهذا المعادلات اللونية فهو يرسم كاستاذ وصاحب تجربة وخبرة علمية منذ مطلع الستينات من القرن العشرين الى اليوم في خط تواصلي مستمر دون انقطاع او توقف .

الاستاذ ابراهيم العبدلي له باع وسيرة مشرقة طويلة وغنية في الفن العراقي، وقد كتب عنه اساتذته رواد الفن العراقي امثال فائق حسن واسماعيل الشيخلي وغيرهم وقد اثنوا عليه واشادوا بمكانته الفنية ودوره الريادي في حركة الفن العراقي المعاصر . والعبدلي هو خريج اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد عام 1965، ثم اصبح استاذا في معهد الفنون الجميلة في بغداد ومحاضرا في اكاديمية الفنون الجميلة، ثم انتقل الى السعودية للتدريس وبعدها مدرسا في جامعة البترا في الاردن . اقام عدة معارض فنية وحصل على جوائز عديدة ... تعرفت عليه في الاردن في حوالي عام 1996 ايام الحصار الظالم على العراق وحليت عليه ظيفا في بيته في عمان فاستقبلني بحفاوة وتكريم واهداني احد كتبه الموسومة .

 

د. كاظم شمهود طاهر / 2019 – مدريد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم