صحيفة المثقف

الغريب ذو المعطف

عمار حميدهناك عند ناصية الشارع القريب من منزلي حيث عمود الإنارة، استوقفني شخص بهيأته الغريبة يرمقني بنظراتٍ من عينيه اللتان بانتا فقط من خلال قبعة تشبه قبعة المحققين السريين في افلام هوليوود وقد احناها نحو الامام بشكل حاد، بالإضافة الى وشاح عريض اسود تلثم به متلفعاً بمعطفٍ رمادي بدا اكبر من هيأته، لا اذكر انه قد انتابتني احاسيس بهذا الكم من الارتباك عند اللقاء بشخص غريب في هذه "المدينة" لتوَّلد لدي مع آلام انتفاخ القولون المزمن و(غثيان) سارتر الذي كنت اقرأه الليلة الماضية (في محاولة مني لفهم عبثية هذا العالم) مزيجاً مزعجا جدا، والأمر الأغرب ان الصمت كان مخيما على الطرقات التي خلت من الناس دون ان انتبه الى ذلك مسبقا، فيما الهواء كان مفعما بطبقة خفيفة من الأتربة، كأن آثاث المدينة كله قد نفض الغبار عن نفسه، استوقفتني نظراته من خلال القبعة، مرّت فترة صمت قصيرة لم استطع فيها ابعاد نظري عن عينيه ثم فاجأني...

- لوسمحت، كم الوقت الآن؟

نظرت الى ساعتي لكنني صعقت لدى رؤيتي عقارب مينائها قد ذابت بما يشبه لوحة الزمن المفقود لسلفادور دالي !

- لاتندهش.. فالزمن تائه في عالمكم هذا مثل احلامكم!

- تمالكت نفسي ثم بادرته بالسؤال :من انت يا سيدي ولماذا تقف بالقرب من منزلي؟

- اعلم انك متفاجئ بتواجدي هنا أتطلع اليك بالإضافة الى عديد التساؤلات في رأسك عن من أكون او ما أكون ؟!، حسنا سأشرح لك، انا ادعى حارس الاحلام والذكريات السعيدة، تلك التي هجرها اصحابها ظناً منهم انها قد ماتت وذهبت ادراج الرياح الى الأبد ولكنهم مخطئون فأحلامهم تبقى تهيم وحيدة حائرة في غياهب هذا العالم، ومهمتي هي ان اعثر عليها وأحفظها حتى يتحول التفكير بالأحلام الى حاجة ملحّة لدى شخص ما تنبّه الى رحيل احلامه وبرغبة صادقة تدفعه للتفكير المتواصل بأن تعود عندها سترجع اليه عندما يحققها، أتجول بطريقتي الخاصة عبر مسالك العواطف والمشاعر والذكريات لجميع الناس في كل مكان لذلك وفي بعض الأحيان يستوقفني اشخاص مثلك لأن فيض تساؤلاتهم الصادقة التي لاتغيب عنهم ابدا يتقاطع مع طريقي الدائم فأتوقف كي أتطلع اليهم واجيبهم على تساؤلات تنم عن رغبة التمرد المتَّقدة في داخلهم، سأخبرك ان الحياة اصبحت باردة، نعم باردة لأن العواطف قد تجمدت .. تبلَّدت لاشكَّ في ذلك، انه برد أبدي منذ ان حل شتاء المشاعر جميعها ... جميع الأحلام والأمنيات ... ذهبت وهامت في متاهة كبيرة واصبح الامر فوضويا! بعد ان نسي الناس احلامهم وذكرياتهم وباتوا يسعون خلف مآربهم التي تتوجها الرغبة المادية المجرّدة من الأحاسيس والعواطف وجمال المشاعر الصادقة، وانت تتساءل دوما في نفسك , اين ولَّت اللحظات الجميلة التي تختزنها انت والجميع لتعيد الجميع الى انسانيتهم؟ ... هل زالت من الذاكرة ؟ كلا بل بقيت هائمة الى ان جمعتها وحفظتها، دعني أُريك شيئا، ثم فتح معطفه على وسعه فبدت بطانة المعطف كعارضة او شاشة سينمائية بدأت تعرض لي طفولتي وأوقاتي السعيدة الهانئة والعديد من ألوان قوس قزح ومساحات خضراء تضحك فيها النساء والاطفال وفراشات وطيور أفتقدها الآن تتقافر وتحوم حول الرجل لتعود الى معطفه من جديد ونسمات هواء بارد لطيف ورائحة زكية لنسائم ربيع قد ولَّى تهب من داخل هذا المعطف الغريب الذي اصبح كقطعة او شاشة ملونة وسط محيط الشارع الرمادي الكئيب، عاد فأغلق معطفه على نفسة لتعود الأجواء المغبرة من جديد.

 هذه هي احلامكم وذكرياتكم الجميلة التي فارقتكم منذ زمن بعيد ولن تعود هذه الايام واللحظات حتى تعودوا الى قلوبكم التي ذبلت ولم تسقى بالصدق منذ وقت طويل، لن تستطيع فهم هذا العالم ياعزيزي ولن تعود اليك احلامك ما لم تؤمن بها ...هكذا قال الغريب ذي المعطف، الذي لم يظهر منه سوى عينيه!

عدت الى منزلي ولاأعلم هل كنت متحيراً مما رأيت ام كنت افكر فيما يقول؟ اقفلت الباب على نفسي عائدا الى عزلتي و توجهت نحو الأريكة التي تقبع بالقرب من النافذة، حيث كانت رواية سارتر لاتزال ملقاةً عليها، أزحت الستار قليلا ومن بين الزهور الذابلة الموضوعة على الشرفة رأيته يحدق بي وهو لايزال اقفا قرب عمود الإنارة ربما ينتظر حافلة، او ساحرةً تمتطي مكنسة من القش لتحمله الى مسالكه التي يتنقل بها، علَّه يعثر على احلام هائمة نبذها اصحابها ليوفر لها ملتجئاً بين ثنايا معطفه، او ربما الى مكان تكون فيه المشاعر أدفأ وغنية بالألوان وضحكات الأطفال التي تمدهم بالسعادة المتواصلة حيث لازالت الاحلام ترافقهم.

 

عمار حميد مهدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم