صحيفة المثقف

تحليل علمي لنزعة القطيع الجماهيرية والزعيم "المرياع"

بكر السباتينعالم يرتع بالعجائب ومليء بفخاخ الدهشة وحصاد اللامعقول.. إذْ يحدث في كل زمان ومكان، حيث يقف الزعيم "المرياع" بطلته البهية.. ثم يحيي الجماهير بصوته الآسر الجميل فتلتهب إثر ذلك الحناجر بالهتاف له.. ثم يطوف بناظريه في الأرجاء باحثاً عن شيء ما تحت قدميه، وربما ليتأكد من هندامه الأنيق فيتوقف من جراء ذلك الجمهور ملتقطاً أنفاسه، ظناً منه بأن الزعيم يحييهم بطريقته، بينما يكون قد انحنى ليلتقط عن الأرض نيشاناً سقط منه فيستجيب الجمهور لتحيته هامسا بصوت خفيض:

 "زعيمنا متواضع"..

 وعندما يجلس الزعيم بعد أن يتنفس الصعداء يقلده الجمهور باستلاب.. وما أن يعطس "المرياع"؛ حتى يتبعه الجمهور الأعمى كيفما يشاء الزعيم الطاغي، لتعصف القاعة بزوبعة مشبعة برذاذ الخيبة من عطسة جماهيرية جماعية استنفر الجيش على الحدود من هولها فيجتاح المدن المغيبة في غمرة البحث عن مصدر البركان ويريق لأجل الواجب دماء الشعب، دون أن يعلمه أحد بأنها مجرد عطسة جماعية أحدثت زوبعة في فنجان الزعيم "المرياع" داخل قصر المؤتمرات.. وحينما يجلس ذات الزعيم على مقعده الوثير ليقول شيئاً يقلده الجمهور ونظرات الترقب تتابع حركاته الملهمة وكأنها مبعث لدلالات الحكمة المهجورة! ليصيخ هذا الجمهور المغبون السمع، وقلوب أفراده تصفق فرحاً مرددة ما سيقوله الزعيم "المرياع".. وحينها ستختلط الأمور على الراوي، بين زعيم متواضع يقف في حضرة شعبه أو جمهور يتزاحم عند قدميه صاغراً، منبهراً بالنجوم والتيجان التي ترصع كتفي الزعيم "المرياع".. بينما يبدو صدره العريض كمجرة تترصع بالسدم والنجوم، التي ليس فوقها شيء سوى صوت الزعيم الملهم، كما تتخيله الجماهير المستلبة وفق سياسة القطيع.. فيأخذهم إلى الهاوية دون اعتراض، لأن من سيخرج عن عصا الطاعة فهو خائن.. ويغرد خارج القطيع.

إنها العلاقة التي تجمع الزعيم "المرياع" بالجماهير المغبونة "القطعان" وفق ما يصطلح عليه "بسلوك القطيع".

فمن هو هذا الزعيم (الدكتاتور) الذي إذا أمر يطاع دون نقاش، وإذا قرر أن يأخذ القطيع إلى منحدرات الفناء استجاب القطيع طائعاً من باب الواجب المقدس أو بدافع رهاب الزعيم، والخوف المغروس في العقل الباطن الجمعي من سلطاته المتغوّلة في اللاوعي. إنه الزعيم "المرياع" الملهم، الظاهرة، الذي يحكم بالحديد والنار، والأجهزة القمعية، الذي لا يخطئ، فيتحكم في نظرهم بدوران الأرض وما عليها من ثروات وأحداث وتقاطعاتها المكانية الزمانية.

وقبل الولوج إلى المثال القياسي للزعيم "المرياع" صاحب السلطة الشاملة، دعونا نطرح أكثر الأمثلة قسوة عن المخرجات التي نجمت عن قرارات أمثال هؤلاء الزعماء الذين دمروا بلدانهم ونهبوا الثروات وقتلوا أو زجوا الشرفاء منهم في السجون.. كما يحدث في معظم الدول العربية أسوة بدول العالم النامي والمتأخر، وهي أمثلة واقعية نعرفها وجرائمهم موثقة.. ولكنني في ذات السياق دعونا ندخل أجواء القصة التالية التي أجهل ساردها سوى أنني التقطتها من الموسوعة الحرة، يرويها أحد زوار أحد المسالخ إذ يقول:

ذهبت مع أبي يومًا إلى المسلخ ورأيت موقفًا عجيبًا، فقد رأيت مجموعة من الشياه عددها عشرون تساق إلى الذبح دون أن تلتفت أو تفكر في الهرب، ولاحظت أنها تتبع كبشاً قد جعلها الراعي قائدًا لها وهذا القائد مربوط بحبل يمسكه الراعي، فلما وصل إلى مكان ذبحها اتباعاً لخطوات قائدها، بدأت الدماء تنتشر من تلك الشياه، وذبحت كلها باستثناء القائد، وبعد ذبحها أخذ الراعي هذا القائد وأرجعه إلى زريبته (بيت الغنم) سالمًا معافًى. فسألت أبي عن هذا القائد الذي تتبعه جحافل الغنم حتى إلى ذبحها فقال لي: هذا يسمى (المرياع) يتبعه بقية القطيع إلى أي مكان ويستخدمه الراعي لجمع القطيع في كل مكان، حتى ولو كان إلى الذبح.

إلا تذكركم القصة بشروط صندوق النقد الدولي التي تتحكم بإرادة "المرياع" الذي دفع برعيته إلى هاوية الانتحار! أو بالقادة الذين يتبعون صفقة القرن متحالفين مع الاحتلال الإسرائيلي وهم يعلمون بأنهم ينحرون حقوق الفلسطينيين من الوريد إلى الوريد.. أو الذين يصفقون ليل نهار لسارقي أوطانهم كما هو الحال في مصر وليبيا والسودان واليمن والعراق والجزائر وسوريا التي تآمر عليها الجميع وبعض دول الخليج العربي من داعمي صفقة القرن.

فالمرياع الذي شبهنا به الزعيم الدكتاتوري إذن هو قائد قطيع الغنم الذي يعتمد عليه الراعي في توجيه غنمه.. وهو محبوب من كافة أفراد القطيع ودائما ما يسيرون خلفه.

ويوصف بأنه خروف كثير الصوف، جميل الصوت، ويتم إخصاؤه كي لا ينشغل عن وظيفته الأساسية وهي (قيادة القطيع)، أما عن جمال صوته فذلك لأن أفراد القطيع غالبا ما يتبعونه مطأطئ الرؤوس مستمعين لصوته الجميل دون الحاجة لمشاهدته أو مشاهدة ما يجري حولهم.

وتتم تنشئة هذا القائد منذ كان حملاً رضيعاً (ولو كان بشرياً سيتم ذلك من خلال برمجته لغوياً وعصبياً على الرضوخ كأنه الجيش الانكشاري التركي في أواخر العهد العباسي) ، حيث يعزل عاطفياً عن أمه، ويرضع منها فقط وهو مغمض العينين، وحينما يفتحهما يكون قد وضع إلى جوار ثدي الأتانا (أنثى الحمار) والتي بدورها ستعامله مثل الجحش الصغير فيتبع صوتها وتستحوذ على ملكاته.. وهكذا يصبح تابعاً لها، مسلوب الحجا والإرادة.. هذا المرياع الذي يُدَرَّبُ منذ صغره على اتّباع الراعي وهو يمتطي صهوة دابته والمشي بجواره وخلفه وأينما اتجه باستخدام الضرب والركل والإساءة إلى كرامته لإدخاله في حالة رهاب الراعي؛ وذلك من أجل الاطمئنان على تأديته لمهمة انقياده للراعي كيف يشاء. كما يعتاد المرياع قيد الإعداد، على عدم الخوف من الكلب الذي يحرس القطيع فهما معاً دائماً في خدمة سيدهما (راعي القطيع) ليتحول بدوره إلى دكتاتور عل قطيعه ورعديد أما الراعي.

يتميز المرياع بالذكاء وقابليته للتعلم ويتسم بانصياعه لسلطة (الحمار أو الراعي) الأمر الذي يمكنه من قيادة قطيعه بسهولة ويسر إلى أماكن ورود الماء والكلأ.

يقوم راعي قطيع الغنم بقص مقدمة قرونه تجنباً لنموها، فيحول ذلك بينه وبين الدخول في معارك ضد خراف أخرى قد تصرفه عن مهمته الأساسية، كما قد يتسبب هذا العراك في انشقاق بعض أفراد القطيع والخروج عن تبعيتهم له.

عادة ما يعلق جرس أو أكثر في رقبة المرياع يحركه فيحدث صوتاً أثناء الحركة والمشي فيسمعه باقي أفراد القطيع فيستمرون في تبعيته والمشي خلفه أينما توجه حتى لو كان ذاهباً إلى أماكن ذبح أفراد القطيع.

والمراييع نوعان: مرياع الراعي وهو من يتبع الراعي. ومرياع الحمار، وهو الذي يتبع الحمار فمتى تحرك الحمار تحرك المرياع وتتبعه الغنم مطأطئة رؤوسها.

عرف المرياع في الثقافات الأخرى ليحمل نفص الدلالة والمفهوم، ففي اللغة الإنجليزية يسمى هذا المرياع Judas Goat أو يهوذا الماعز، لكونهم يعتقدون أن يهوذا الذي تسبب في صلب السيد المسيح عليه السلام، وذلك بخيانته له وتسليمه إلى الرومان. ويطلق عليه أيضا Bell-wether أو الكبش القائد.

وعلى صعيد الإعلام العالمي فمصطلح Bell-wether يستخدم كمفردة سياسية، في كثير من الأحيان يتم تطبيق هذا المصطلح بالمعنى السلبي لوصف منطقة جغرافية تتبع منطقة أخرى سياسيًّا، فبناء على نتيجة الانتخابات بالمنطقة الأولى تستطيع التنبؤ بالنتيجة بالمنطقة الأخرى أو هي الأقرب لمفهوم الدولة التابعة والتي يطلق عليها مصطلح الحديقة الخلفية لدولة كبرى.

وعلى صعيد حياتنا في عموم الوطن العربي (إلا من رحم ربي) فكم من المراييع نقابل، مع علمنا بأن هؤلاء ليسوا بقادة إنما هم أداة في يد الراعي وأنهم ما يتبعون إلا حمارًا نهاقاً يرفض الآخر ويمارس سياسة الرفص اعتماداً على رهاب الزعيم "المرياع". سواء كان ذلك على مستوى الدول والحكومات في أنحاء المعمورة، التي تمرر قراراتها وبرامجها معتمدة على رهاب السلطة والمتنفذين حتى لو ذهبت مخرجات التنمية وعوائدها المادية لجيوبهم دون أن تجد من يعترض عليها، وحينما يتحرك الشارع لقيادة المعارضة تغرس الحكومة قائداً "مرياعاً" مجيراً لها ليقود خطة إطفاء جذوة الاحتجاجات لمصلحة الحكومة فتصفى القضية وخرج من المركز إلى الهامش لينهكها الدوران في حلقة مفرغة من التأثير.

يحصل هذا حتى في العمل، الجيش أو الشرطة، المدرسة، أو أي مؤسسة تعمل بشكل أفضل، ينصاع أفرادها لسلطة من هم أعلى درجة وتنفيذ أوامرهم.

 ولكن في أوقات ما، مجرد تنفيذ الأوامر أو الانصياع لسلطة الرؤساء قد يؤدي إلى الهلاك، وللأسف هناك من يتبع الأوامر وإن كانت ستفضي إلى هلاكه. فالمناهج التربوية والسياسة الإعلامية والخطاب السياسي التبريري صممت جميعها للتعلم والتلقين والانقياد وغرس التبعية والطاعة العمياء والانصياع للسلطة وليست للتعلٌّم والإبداع والتحرر من الرهاب (الفوبيا) بكل أنواعه، وبالتالي تحمل المسؤولية.

فهل نقبل على أنفسنا هذا المصير.. بأن نكون كالنعاج في أشداق رهاب السلطة، كأننا قطعان نتبع عصا الراعي ورنين القروش في جيوبه الممتلئة بالوعود الكاذبة، ونستأنس متدليي الألسن كالبلهاء، بقرقعة طواحينه التي تطحن بذور الوهم دون فعل فيقول القطيع: "شبعنا" قبل أن يتلمس اللسان مذاق الخبز، والصيد الموهوم في بحيرة الدعايات الكاذبة (البربوغاندا). يحدث ذلك في عالمنا العربي (إلا من رحم ربي).

وعليه، فلا بد من معرفة إحداثيات مكانك من هذا المشهد المألوف.. حتى تبدأ ببرمجة نفسك إيجاباً لتعلم نفسك ما يزيدك قوة واستقلالية معتمداً على تبني روح المبادرة والقبول بالآخر، ورفض الظلم، وتحقيق العدالة، والحرية، والمطالبة بالديمقراطية، وقول كلمة الحق، وتحمل المسؤولية في إدارة مكتسباتك الشخصية لتكون عنصراً فاعلاً في برامج التنمية الشاملة الحقيقية في وطنك الديمقراطي، حينذاك ستتحرر من عبودية القطيع ورهاب السلطة التي يتبوأ سدتها الراعي الدكتاتوري "المرياع".

 

دراسة تحليلية

بقلم بكر السباتين

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم