صحيفة المثقف

الثقافة في مواجهة المدّ الطائفي.. أين هم المثقفون السوريون

علي اسعد وطفة

(الطائفية حرب يربحها الشيطان ويخسر فيها الوطن الإنسان)

تواجه سورية اليوم – سورية موطن الأبجديات ومهبط الرسالات ومسقط الحضارات وأرض التخوم – تواجه أكثر التحديات الوجودية همجية وجنونا وبربرية في تاريخها الإنساني. ويتمثل هذا الخطر في مشروع حرب طائفية مذهبية عرقية دموية مدمرة لا تبقي ولا تذر. وقد تكاثف هذا الخطر في صورة تآمر هو الأخطر من نوعه في تاريخ سوريا والأكثر قدرة على الفتك بوحدة هذه الأرض وعظمة هذا الشعب،ويتمثل هذا التآمر في صورة مشروع شيطاني وحشي جهنمي يريد القضاء على وحدة سوريا وتدمير لحمتها الوطنية، ومن ثمّ تحويلها إلى مستنقع دموي رهيب تغذيه حروب مذهبية وطائفية عمياء طويلة الأجل يقودها طغاة قتلة سفاكون لا يرحمون.

هذه القوى المتصارعة على سورية تتفق بالمطلق على ضرورة إذكاء حرب طائفية ضروس من أجل تفكيك البلد وتدمير مقومات وجوده. والمشروع الطائفي المذهبي الذي يُروج له يشكل نقطة تقاطع بين عدة قوى إقليمية وصهيونية وعالمية. ويعرف الجميع أن المشروع الصهيوني في المنطقة يرى في الحرب الأهلية أعظم انتصار للصهيونية العالمية في تاريخها الأسود. فهذه الحرب انتصار مجاني لإسرائيل لا يتطلب منها أن تحرك ساكنا أو تطلق هاجنا. ومن ثم فإن اندلاع الحروب المذهبية في سوريا يشكل حلما صهيونيا يفوق كل أحلام الصهاينة في العالم عبر تاريخهم المديد.

في هذا المشروع المذهبي الطائفي الطرف يكون الصهيونية العالمية هي الرابح الوحيد التي ترى في الحرب الطائفية بين أبناء سوريا حلمها الاستراتيجي، وهناك أيضا تكمن مصالح الدول الكبرى وبعض الدول الإقليمية في المنطقة التي تستفيد من ضعف سوريا وتفككها وتدمير وحدتها.

والطرف الوحيد الخاسر في هذه المعادلة، في هذا المشروع الشيطاني الجهنمي، هو الشعب السوري، والإنسان السوري، والكيان السوري الذي سيدفع الثمن غاليا أيضا من أجل حرب طائفية مذهبية مدمرة لا ناقة للشعب فيها ولا جمل ولا حمل.

وتأسيسا على ما تقدم نجد أن مشروع الحروب المذهبية الشامل بين مختلف مكونات الشعب السوري يتقدم على محورين أحدهما في مجال الممارسة المذهبية والثاني في مجال الفكر والثقافة الطائفية:

- المشروع المذهبي الطائفي يتقدم على الأرض بدعم وتأييد وبرمجة منظمة الجماعات المتطرفة المرتبطة بأهداف خارجية وإقليمية.

- المشروع المذهبي الطائفي يتقدم في المستوى الفكري الثقافي وهو اليوم يحتل مكانه بوصفه ظاهرة ثقافية حاضرة متقدمة في مختلف الأنساق الفكرية، وبالطبع هناك من يغذي هذا الفكر الطائفي المذهبي إعلاميا وفكريا وثقافيا.

ونحن إذا في مواجهة نزع طائفي مذهبي تتضافر فيه الثقافة الطائفية المذهبية مع الممارسة الطائفية المذهبية على الأرض مدعومة ومعززة من قبل النظام السياسي القائم وأطراف أخرى.

ويعرف الجميع اليوم من مثقفين ومفكرين أن الممارسات الطائفية بدأت على الأرض وقوامها الخطف الطائفي والقتل المجاني وسفك الدم بخناجر المذهبية والطائفية الذي يذهب ضحيته مختلف أبناء الوطن على أساس التناوب المذهبي (قتل الناس وإيهامهم بأن طرفا مذهبيا يقتل لتأجيج الفتنة).

ومن المحزن جدا اليوم أن تتعالى وتيرة الثقافة الطائفية حتى بين كثير من المثقفين والعارفين، حتى أن بعضهم يعلن بصورة واضحة انقلابه على علمانيته ووطنيته وقيمه الديمقراطية ويعلن مواقفا مذهبية وطائفية. ومن يتجول على صفحات المواقع في (الفيس بوك والتويتر) ويتأمل في كثير من المقالات التي تحمل مع الأسف هذا النفس الطائفي والمذهبي المتزايد بتأثير الأحداث المرعبة وتحت تأثير القتل الممنهج الذي يمارسه النظام.

من المؤسف أن عددا كبيرا من المثقفين انفعل مع المشروع الفكري الطائفي بدلا من أن يكون فاعلا فيه وبدأ يروج له دون أن يدري بأن كل فكرة طائفية هي مشروع قتل للأمة وفتك بالإنسان. وقد فات هؤلاء المفكرين والمثقفين أن الحروب المذهبية لا يربح فيها إلا الشيطان ويخسر الوطن والإنسان دائما وهذه قاعدة ذهبية تاريخية يعرفها الحكماء والمفكرون .

ومن الواضح أن كثيرا من المثقفين انتصروا للشيطان وانقلبوا على معادلة الثقافة نفسها فأصبحوا مع الشيطان ضد الوطن والأرض والإنسان. وهذا يعني أن المثقف لم يستطع أن يمارس دورا ثقافيا حقيقيا بل دورا مضادا للثقافة والإنسان ،  وهذا يدل على أن ثقافة المثقفين (واقصد المثقفين الذي انساقوا للغريزة دون العقل) هي ثقافة سطحية شكلية لم تصل إلى العمق ولم تكن جوهرية في أي حال من الأحوال.

كم هو جميل أن نتوسم الخير في هؤلاء المثقفين جميع المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي والثقافة من أجل العمل على  محاربة المشروع الثقافي الطائفي المذهبي العرقي القبلي من أجل وحدة الإنسان والشعب والحضارة والكرامة في سوريا ثانيا.

يجب أن نعلم علم اليقين بأنه في سوريا طائفتان اجتماعيتان لا ثالث لهما وتلك هي الرؤية الموضوعية التاريخية لما يحدث في سوريا:

أولا: طائفة المتعصبين المستبدين وهي من مختلف الطوائف والمذاهب والأديان والقبائل والإثنيات. وهذه الطائفة تتكون من فرعين: طائفة اجتماعية نخبوية (سياسية ثقافية دينية عسكرية) ارتبطت مصيريا بالنظام السياسي واستفادت من وجوده وهي طبقة تعي مصالحها ولا تستطيع الانفكاك عنه وستدافع عن وجوده لأن النظام يمثل وجودها ومصالحها، وطائفة أخرى مروضة مستلبة تمّ تزييف وعيها وتشكيله على نحو سلطوي، وهي بحكم اغترابها واستلابها تناصر النظام أيضا دون أن تدري مصالحها الحقيقية وهذه الطبقة المستلبة تمثل فقراء النظام من موظفين وتابعين وجند ومحرومين وهي تعتقد بأنها جزء من النظام دون أن تدري بأنها تشكل موضوع استغلاله واستلابه.

ثانيا: طائفة من الأحرار المهمشين والمغلوبين والمقهورين الذي أدركوا درجة الهامشية والذل والعدمية التي وضعهم فيها النظام. وهذه الطائفة عاشت على أطراف المدن وفي الحارات الشعبية وكانت دائما عرضة لاستغلال النظام وهمجيته وهي أقل تمدرسا في المجتمع وذلك بحكم التهميش الاجتماعي (تجار صغار مهنيون فنيون حرفيون مثقفون صغار مستقلون مهاجرون). وهذه الطبقة هي التي تشكل عماد الثورة ولحمتها وقوتها.

ومما لا شك فيه أن الصراع الحقيقي هو في جوهره صراع بين الظالم والمظلوم بين القاهر والمقهور بين الغالب والمغلوب بين أرباب النظام والشعب. وهذا يعني أن الصراع لم يكن أبدا ولن يكون صراعا بين طوائف ومذاهب وأقليات بل بين القاهرين المستبدين والأحرار المقهورين.

ومن هنا فإن كل تقوّل طائفي وكل تفكير مذهبي وكل خاطرة مشحونه بالتعصب المذهبي والطائفي والقبلي تشكل خطرا على الثورة وعلى القيم وعلى الإنسان. وأقولها بصراحة إن التفكير المذهبي والطائفي أفقد الثورة كثيرا من عزوتها وقوتها واستنزف دماءها.

وحري بنا نحن المثقفين والمفكرين أن نحارب المشروع الطائفي، والحرب تكون بالثقافة والكلمة والفكر والعمل في مختلف المستويات والاتجاهات من أجل الانتصار للثورة والحرية والكرامة في بلادنا. فالحرب الطائفية والمذهبية دمار للوطن والإنسان والكرامة والشجر والحجر. ومن هنا علينا نحن المثقفين أن نقدم فهما أصيلا رشيقا ضد كل أشكال التفكير الطائفي والمذهبي، وعلينا في هذا الاتجاه أن نرفض الأهازيج الطائفية القاتلة والمسمومة وأن نحاربها بمنهجيات واستراتيجيات عاقلة ذكية.

الفكر الطائفي سمّ زعاف يقض على الثورة والوطن، والتاريخ يعلمنا أن الوطن لا يبنى إلا بتماسك أبنائه وتضافرهم وتوادهم وتراحمهم. لا للقول الطائفي.. لا للمذهبية.. لا للطائفية.. لا للتعصب مهما حدث.. ومهما عمل النظام على تأجيج الفتن وذرع أفخاخ التعصب. المشروع السياسي للنظام طائفي يجب أن نحاربه أن ندمر مكوناته، المشروع السياسي للنظام مذهبي يجب أن نجتثه. وإذا كنا نحن المفكرين والمثقفين لا نستطيع أن ننتصر في مجال الثقافة الإنسانية فلن يكون للثورة انتصارها في ميدان الصراع على الأرض بين الطغاة والأحرار والثوار. إذا كنا لا نستطيع أن نوحد صفوفنا في مواجهة المذهبية والطائفية والحرب الأهلية يا لبؤس الثقافة والمثقفين.

حري بالمثقفين السوريين الأحرار اليوم أن يقاتلوا على جبهتهم الخاصة وينتصروا  للتسامح وبناء الروح الوطنية والإحساس بالانتماء لا بالطائفية والمذهبية، عليهم اليوم أن يعلموا الناس أن الناس تحكمهم مصالحهم ومواقعهم الاجتماعية لا طوائفهم ومذاهبهم، أن يعلموا الناس أن جغرافية الثورة هي جغرافيا الوطن وليس جغرافيا المذاهب والطوائف، وأن الطائفية دمار للوطن، وأن الناس لا يعاقبون إلا على الفعل والعمل، عليهم أن يعلموا الناس قيمة التسامح والمودة والمحبة، و أن كل فكرة طائفية أو مذهبية أو توتر مذهبي هو قتل في سوريا وتدمير لمكونات جودها، عليهم أن يعلموا الناس كيف يتسامحون وكيف يفكرون بطريقة يكون فيها الولاء للإنسان والوطن، وأن الولاء للوطن يكون برفض كل ولاء مضاد للوحدة الوطنية، وأن الفكر الطائفي هزيمة للوطن والكرامة والحرية وانتصار لنظام العبودية والذل والمهانة والإكراه، أي :أنه انتصار للنظام القائم وانتصار للعبودية والإكراه على الحرية والكرامة. فانتصار الثورة لا يكون إلا بوطن واحد وأرض واحدة وتاريخ واحد ومواطنة واحدة لا تغاير فيها. انتصروا للثورة بالانتصار على المذهبية والطائفية والإثنية والعرقية والقبلية. والثورة تهزم الإنسان في سوريا يهزم الحضارة في سوريا ستهزم إذا انتصرت الطائفية والمذهبية.

كم نتمنى على المثقفين أن يبدعوا طرقا وأساليب ومنهجيات في مجال بناء استراتيجيات ثقافية وطنية تحافظ على وحدة الوطن وتسقط المشروع الطائفي المذهبي للنظام والقتلة والمأجورين. إذ لا بد للمثقفين من بناء مشروعهم الثقافي الوطني في مواجهة المشروع الطائفي المذهبي وتدميره، لا بد لهم من تدمير قيم التعصب المذهبي والطائفي وحماية الثورة من سموم المذهبية والطائفية. كم نتمنى على المثقفين اختراق الوعي الجماهيري المعبأ بالطائفية وتحرير هذا الوعي من مكوناته وبث الطمأنينة في النفوس الخائفة. وهذا هو المشروع الثقافي المضاد لمشروع النظام الطائفي والذي يمكن الثورة من تحقيق انتصارها في الجبهة الفكرية والثقافية. وأخيرا لنتعلم ونعلم الناس قول الله عزّ وجل" من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً» المائدة 32. صدق الله العظيم.

 

أ.د. علي أسعد وطفة

2014

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم