صحيفة المثقف

مقاضاة وزارة.. ممكن؟؟

محمد العباسيهل من المعقول والمقبول أن نكون في عصرنا هذا وفي ظل دساتيرنا وحكوماتنا المتحضرة أن نعجز عن مقاضاة الوزارات والوزراء والجهات الحكومية؟  وإن كان الدستور والقانون يسمحان بذلك.. غير أن الواقع ربما يقول غير ذلك!!

فبمجرد تردد المواطنين عن المطالبة بحقوقهم لدليل على أن هنالك خلل جسيم في تطبيق العدالة.. ومجرد فكرة أن يدفع المواطن المبالغ الطائلة لرفع قضية ضد جهة حكومية للمطالبة بتعويض ما بسبب أخطاء وممارسات تلك الجهة لهي ردع لفكرة المطالبة.. بالذات حين يكون الخوف من الخسارة (المحتومة) هو سيد الموقف.. فهل تجرأ الجهات القانونية أن تشجع المواطنين على مقاضاة الجهات الحكومية لتستقيم خدمات تلك الجهات وتتفانى في تقديم خدماتها دون إعوجاج؟

كثيراً ما نسمع عن أفراد تضرروا وخسروا الملايين في مشاريع أحبطتها وزارة ما دون وجه حق.. وأحياناً ربما تسبب فيها موظف جاهل أو آخر "مرتشي" ولم يجدوا من يحاسبهم أو يوقفهم عن التمادي في ظلم الناس.. والمستثمر يدفع ثمن أخطاء كان يمكن تفاديها وحلها قبل استفحال الخسائر المتراكمة بسبب القضايا التي قد تمتد إلى سنوات للنظر والحكم فيها.. وإذا كان المشتكي محظوظاً وكسب قضيته بعد دهر تكون الخسائر قد تفاقمت والضرر المادي والنفسي بلغ أضعافاً مضاعفة !

جرائدنا تزخر بقضايا وشكاوى أناس تضرروا وعائلات لحقت بهم خسائر مالية ومصائب بسبب أخطاء فادحة كان يمكن البت فيها بكل سهولة ووضوح منذ البداية.. حتى فقد أغلب المستثمرين الثقة في الحصول على حقوقهم بين أروقة المحاكم.. لأن المطالبة بالحقوق ستكلفهم المزيد من الإنفاق في ذات الحين تتعطل استثماراتهم لسنوات إضافية.. حتى تقصم المطالبات المالية ظهورهم.. بالذات اذا كانت الأصول المالية مقترضة من البنوك.. والبنوك ليس من شأنها أن تـنتظر.

من بين القضايا التى لا تزال تراوح مكانها في أروقة المحاكم قضية بحريني إستثمر مبلغاً ضخماً في مشروع إنشاء مصهر لمعالجة وإعادة تدوير مخلفات ورواسب الألمنيوم.. وقام بكل الخطوات المطلوبة في هذا الإتجاه من دراسات للجدوى ودراسات بيئية واستخراج التصاريح اللازمة.. ثم قام ببيع بعض ممتلكاته العقارية واستأجر أرضا صناعية من وزارة الصناعة.. وحيث كانت الأرض مستثمرة من قبله لشخص آخر وبها مكاتب وسور وبنية تحتية جاهزة لمباشرة المشروع.. قام بدفع مبلغ كبير مقابل كل تلك التجهيزات قبل تنازل المستثمر الأول له وتحويل الأرض لصالحه بشكل رسمي وبعقد إيجار موثق من الوزارة.. وبناء على كل هذا قام بجلب مصنع (مصهر) من "كوريا الجنوبية" بأحدث التقنيات الفنية التى تكاد لا تخلف أية رواسب ولا تسبب أي ضرر للبيئة.. وهكذا مصنع يخدم البلد وصناعة تدوير مخلفات شركات انتاج الألمنيوم  بشكل أساسي ومطلوب كونه يعالج المشاكل البيئية التي تتسبب بها عملية "طمر" مخلفات ورواسب مصانع الألمنيوم بشكل عام.

جميل جداً أن يكون المشروع وطنياً وبأعلى المواصفات العالمية.. والمفروض والمتوقع من الدولة أن تضع يدها بيد هذا المواطن وتدعمه وتشجعه.. ولكن !!  فجأة قام شخص ما في وزارة الصناعة بتأجير نفس الأرض لشخص "أجنبي" بعد فترة وجيزة من تأجيرها على هذا المستثمر المواطن بعقد رسمي.. أي عقد إيجار جديد لتصبح ذات الأرض الصناعية مؤجرة مرتين لجهتين في غضون أسابيع معدودة!

جُل من لا يسهو.. والخطأ قد يكون مبرراً في بعض الظروف "إذا أحسنا النية".. وكان من الممكن جداً استدراك الأمر وحل الوضع منذ البداية.. لكن الوزارة تمادت في "غيها" واستكبرت الإعتراف بذنبها.. وتركت الأمور تتفاقم وتتعطل.. وغضت الطرف عن الخسائر الناتجة عن سوء تصرفها.. لم تبالي بالمستثمر المواطن صاحب الحق الأول في الأرض المستأجرة.. لم تعبأ بكل المناشدات وتفاقم الخسائر المترتبة عن هذا الخطأ (ربما كان الخطأ فردياً من أحد موظفيها).. وتركت المستثمر المواطن صاحب الحق الأسبق في الأرض في مواجهة المستثمر الأجنبي الذي حصل على عقد الإيجار لاحقاً.. وأبعدت نفسها عن الأمر وكأن الموضوع لا يهمها ولا يعنيها من قريب أو بعيد.

نعم.. بعد المناشدات وربما إعترافا من الوزارة بذنبها بشكل مبطن، عرضت على المستثمر الأول أرضا بديلة.. وكان هذا تصرفاً معقولاً في ظاهره.. لكن الأرض البديلة كانت خالية من بنيتها التحتية ومرافقها التي دفع المستثمر مبلغاً طائلاً مقابلها للمستثمر السابق للأرض المتنازع عليها.. أي أن الأرض الجديدة كانت ستكلف حوالي مليون دولار لتأهيلها لمباشرة العمل.. وهي ميزانية لم تكن في الحسبان وغير متوفرة.. وتعتبر خسارة غيرة متوقعة سيدفع ثمنها المستثمر دون ذنب.

و هكذا وبعد مرور حوالي ثمان سنوات من المناوشات القانونية بين أروقة المحاكم لا تزال القضية معلقة.. الخسائر تتضاعف.. المصنع أصبح هالكاً وتحوّل إلى مجرد حديد "خردة".. أجهزتها الإلكترونية وأنظمتها التقنية والكهربائية أصابها الزمن والإهمال بالعطب التام.. كل هذا لكونها مرمية في الخلاء وبسبب تعرضها للشمس والرطوبة والغبار كل هذه السنوات.. والخسائر المادية بسبب تعطل رأس المال وضياعه وخسارة بعض الإتفاقيات المبرمة وما كان يمكن جنيه من كسب قد تضاعفت بشكل جنوني.. ولا تزال القضية معلقة تنتظر البت فيها وتعويض المستثمر صاحب هذا المشروع الوطني البيئي العظيم.. لا تزال القضية كحبل المشنقة تشتد مع مرور كل يوم على رقبة المواطن ولا تجد الحل المناسب !!

القانون واضح جداً في هذا الشأن: "لا يجوز للمؤجر إبرام أكثر من عقد ايجار واحد لذات العين المؤجرة،  فإذا تعدَّد المستأجرون فُضِّل من سبق منهم إلى وضع يده على العين بحُسن نية، فإذا لم يضع أحدهم يده عليها، فُضِّل العقد الأول المسَّجل، مع عدم الإخلال بحق المستأجر حَسن النية في مطالبة المؤجر بالتعويض".

لا أعتقد بتاتاً أن الإعلانات التي تنتشر في الجرائد والمجلات والمواقع الالكترونية حول العالم والتي تشجع المستثمرين الأجانب والعرب للإستثمار في بلداننا على أنها "الوجهة الملائمة للإستثمار" تعني أن إستثماراتهم تأتي على حساب المواطنين.. ففي كل دول الخليج تكون الأولوية والأفضلية لمواطنيها، إلا عندنا نحن.. وكم أرجو أن أكون مخطئاً !!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

.......................

*(أنا شخصياً ملم بحيثيات المشكلة لأنني قمت شخصياً بترجمة أغلب التقارير والمراسلات ونسخ الاتفاقيات لصاحب القضية).

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم