صحيفة المثقف

الطاعون

قصي الشيخ عسكرالطاعون... الطاعون...

ويهجم  المرض دفعة واحدة.. فتستقبله المدينة بفزع ورعب.

الكلمة تثير الخوف . الطاعون.. اصفرار على الوجه. غثيان، ودوار. تقيؤ طول اليوم، وتجف الأعضاء بعدئذ، وتهمد الحركة.

ويتخذ الداء الفتاك صورة جثة محترقة أو وحش يتجرد عن اللحم، وينغرز في العظام. صديد، ودود أبيض طويل، يلتف كالأفاعي على حفر الجمجمة ، ومفاصل الأصابع.

ثم يستشري الطاعون في البصرة.

هذه المرة كان انتشاره مخيفا إلى الحد الذي ترك الجثث في البيوت تفوح منها الروائح، ولم يبق في المدينة قط أي ذي روح.. حتى الكلاب والقطط همدت داخل الأزقة الضيقة . الوالي غادر إلى الإستانة. الناس صاروا فرقتين: إما هارب إلى الكويت أو مهاجر إلى صحراء الزبير.

وكانت المدينة تشبه مملكة ممسوخة غضبت منها الساحرة فضربت فضربت بعصاها الأرض فوقع عليها العذاب   إذ تحول كل مافيها إلى حجر: الأشجار .. الحشائش.. الدماء الجارية في العروق.

وفي السحر  تتجمد المدن ولاتغادر مواقعهان فتبقى الحجارة المنقلبة عن شجر وناس وحيوانات ، تبقى تصارع الرياح والسيول، وتحلم بالماء والدم  لتتحرك من جديد، وتعانق  الضجة والصخب.

ولعل الموت يكون ساحرا، فيبث في المدينة السكون ساعات النهار  والخوف والرهبة بحلول الظلام.

وبقي شخص واحد من بين المهاجرين يتشبث بالأرض . فلاح اسمه خلف العلي، يعتقد أن الحياة والموت بيد الله ، وما هذه إلا أسباب.

الناس يخدعون أنفسهم بتناول الدواء ومراجعة الأطباء، ذلك من قلة الإيمان، فكل واحد لابد أن يلاقي منيته، وهناك من دخلوا حروبا ، ونجوا منها، وتعرضوا لأمراض وشفوا  وعمروا طويلا ، ولم يراجعوا طبيبا أو يشربوا دواء.

كان يعلل الموت بالأمراض والقتل ، فيقول بعد أن يلف سجارة ويتلذذ بالدخان: قال الله سبحانه لملك الموت، ستقبض أرواح الناس، فقال عزرائيل: سيسبونني، قال الله تعالى، سأغشي عيونهم وسأجعل أسبابا للموت، فتنجو من سباب الناس.

كان يلف أزقة البصرة الضيقة، وهو يغطي أنفه بكوفيته، يتحاشى روائح الحيوانات النتنة والدجاج الذي تعفن في الأقفاص، وخرجت أمعاؤه، فأطلق الحاج كلمته " سنة أم المصران" الكلمة التي أرخت بها الأجيال من بعده.

وظل الباقون ممن عجزت أرجلهم عن الهرب يتساقطون.. يموتون بصمت ولا أحد يشعر بهم.. فيسلمون جثثهم لزائر لايعرفونه ، ويتوارون من غير ضجيج.

إنه يدخل البيوت الفارغة بغير إذن عسى أن يعثر على ميت فيحمله من الزقاق إلى المقبرة في  الصحراء. يؤدي المراسم كاملة  يغسله يكفنه  يصلي عليه ثم يدفنه دونا تفكير في طمع والأجر على الله !

وفي المساء حين يعود يقرأ آية من الذكر الحكيم ثم يدخل في كفنه لعل الموت يداهمه فلا يجد أحدا يكفنه...

هل الرجال كخلف العلي لايفرون؟

حرام أن يطلق على الهاربين رجالا ويرى القطط والكلاب تموت في المدينة ولاتغادرها

دقائق في الكفن ويتذكر الأسرار التي انجابت لعينيه . أسرار صغيرة يخجل من أن يستعرضها...

في بيت قريب من سوق الخضار غرفة نوم لعروسين تبدو على أثاثها  آثار الجدة وفي غرفة بيت حصران همدت على إحداها قطة وهناك طفل وعند باحة دار قريبة من النهر حبال  لما تزل عليها ملابس لنساء ورجال...

وتنجاب الحجب والأسرار لعينيه.. يستعرضها حتى يغالبه النعاس  وحتى تتحرك المدينة المسحورة  وتتمطى...

وعندما تتسع المدينة وتمتد لتقطع البصر في البر المترامي  يظل يسير ويلتقط قصاصات الورق المتناثرة من الأزقة الضيقة  ثم يرجع عندما تنتهي به الخطوات إلى الشارع العريض الذي يفصل المدينة القديمة عن البناء الجديد وكأنه يحرم على نفسه  أن يرى بيوتا ترتفع ولم يألفها من قبل.

ولعله جعل سنة الطاعون أو " أم المصران" الزمن الفاصل بين الأصالة والمحدث وكان يحمد الله على أن هناك شارعا عريضا يفصل بين الإثنين...

وإذا حدث واحتاج أمرا وطرق بابا تذكر سنة الطاعون والأبواب المشرعة التي دخلها دونما استئذان فيرجع من حيث أتى حتى يلحق به صاحب الدار  فيرجوه أن يطلب أي شيء.

ذلك اليوم استعرض بيوت المدينة المسحورة كالعادة. التهمت الأحجار الساخنة ثلاث جثث أنهى دفنها ثم عاد إلى داره متعبا.. رمى المسحاة قرب عتبة الباب .. توضأ للصلاة ثم دخل كفنه ... وكان الصمت يلف الليل كما في النهار...

وفجأة ...

مابين النعاس وانكشاف الأسرار الرتيبة صدرت حركة ما...

حبس أنفاسه داخل الكفن ليعرف الحقيقة . من الغريب أن تصدر ضجة في مدينة مسحورة. الرياح لاتجرؤ أن تعوي  فلم يبق إلا الجن وابن آدم أجرأ وأقوى قلبا وإن كان أضعف أمام المرض أما الكلاب والقطط فلم تقاوم كالبشر وانصهرت في الطاعون فتخلص الليل من المواء والنباح.

وهل الرجال لابفرون؟ ومن مثلك ياحاج خلف العلي يبقى في المدينة يتحدى الطاعون كما تحديت أنت؟

وحبس ضحكة غالبته.. هاهو أحد اللصوص يفتش البيت بحثا عن شيء. الطاعون الأسود طرد أهل الدار، وحمل إليها مع الخوف لصا. ماذا يجد غير الجثث؟ ليتركه يتعب نفسه أولا.

وجمع اللص أدوات خلف العلي. كوز الماء.حصيرة الصلاة.الكوفية المنشورة على الحبل.إبريق الوضوء.سروا الخروج. جمع المسروقات في كوار وحملها على كتفه.

رفع خلف العلي راسه من الكفن، وقال بصوت هاديء: ماذا تفعل؟ ارتبك اللص إذ رآى ميتا يتكلم وأسقط مافي بيده وخر إلى الأرض.

ومرت أيام  اختفى فيها الطاعون الأسود. عاد الوالي من الإستانة إلى البصرة، ورجع إليها من فر منها إلى الزبير والكويت وبقي الحاج خلف يحظى باحترام الناس.

وحين يسأله أحد عن أيام الطاعون وسنة " أم المصران " يلف سجارة ويتلذذ بمتابعة دوائر  الدخان ويقول بابتسامة:

دفنت موتاكم ورددت اللصوص عن بيوتكم . الدنيا لم تتغير يارجال دخان السجائر تغير فقط. آه كم أحن إلى ذلك التبغ القديم.

 

د. قصي الشيخ عسكر 

...........................

ملاحظة:

القصة من مجموعة "المعجزة" الصادرة عام 1985 بدمشق.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم