صحيفة المثقف

بين الديمقراطية والديمو كراسي

ابتسام يوسف الطاهرما رأيته في ساحة التحرير من تعاون وتكاتف بين شباب الانتفاضة من كافة الاعمار والخلفيات الاجتماعية طلاب وخريجون عاطلين عن العمل، وكسبة وعمال وموظفين.. فتيات بعمر الورد بين من تنظف الساحات ومن ترسم الجدران التي تآكلت اهمالا لعقود طوال، ومن تخبز او تساعد في الطبخ للمعتصمين.. نساء ورجال الكل يعمل كخلية نحل ليشكلوا مجتمع مصغرا تسوده المحبة والتعاون وتوزيع المهام لرعاية بعضهم البعض.. تسوده الحرية والابداع كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته. خيم وسرادق لعشائر وقبائل جاءت تساند ابناءها وابناء الانتفاضة لحمايتهم ومساندتهم في الصمود من اجل تحقيق مطالب الشعب كله. اعادوا الحياة للنفق الذي اهمل منذ زمن الحصار ولم يحض بلمسة حنان منذ سقوط النظام السابق، حتى امتدت يد الشباب لتنيره وترسم جدرانه وتعتني بحديقته  وتجعله مأوى للزوار من المحافظات او الشباب الذين بلا مأوى.

في الساحة تتعرف على المعنى الفعلي للديمقراطية التي هي (حكم الشعب) بالتعريف الفعلي للكلمة اللاتينية التي عرفها اليونانيون صاحبي اول برلمان في التاريخ (ديمو قراط). في بدايات وعينا السياسي كنا نعتقد ان الديمقراطية تعني الحرية واحترام الاخر واحترام الراي الاخر فقط.. وتعني سياسيا تعدد الاحزاب والتنافس بينهما حول كيف يخدموا الشعب ويعملوا من اجل تقدم المجتمع كل حسب واجبه. وهي في الحقيقة كل ذلك. وليس كما فسرها الامريكان ذوي الحزب الواحد المقسم الى إسمين، الجمهوري والديمقراطي.. ولا في تحكم اصحاب رؤوس الاموال في اقتصاد وسياسة البلاد. وليست مطية يركبها من لا يعرف من السياسة غير ما يجنيه من ارباح او كيف يستولي على مال الشعب لبناء القصور وابتزاز الشعب، لتتحول الديمقراطية الى ديمو الكراسي.. وكيف يتمسكون بكراسيهم لمدة اطول لينهبوا اكثر حتى تحين الساعة ليهربوا لبلدان لهم فيها قصور واموال!

في ساحة التحرير لم يرفع المنتفضون أو المعتصمون سلاحا ولا عصا ولم يهددوا احدا.. بل واجهوا التهديدات وقتل بعضهم بحكمة وحلم، وحافظوا على سلمية انتفاضتهم ومواصلتهم الاعتصام حتى الاستجابة لمطالب الشعب. عانقتني جارتي المسيحية وبكت فرحا وافتخارا بالشباب المنتفض "هؤلاء جند السلام..أرى المسيح الحقيقي فيهم" قلت لها انهم محصنون بحب الوطن وبالحفاظ على كرامة ابناءه، محصنون ضد الكراهية والحقد محصنون ضد الطائفية بالرغم من كل محاولات تشويههم والنيل منهم. ماضين في تمثيل الشعب بشكل فعلي، الشعب الذي اضناه الفساد السلطوي واستغلال المناصب وتفشي مرض الرشوة الذي كان احد اسباب تعطيل المشاريع واهمال المصانع والمعامل ومعظم المؤسسات الحكومية الانتاجية. فتضاعفت نسبة العاطلين عن العمل وتزايدت اعداد العاملين بأجر يومي محرمون من كل الحقوق حتى الاجازات المرضية. أو بعقود مؤقتة وبأجور شهرية تكاد تشكل عُشْر المصروف اليومي لأي طفل من ابناء الوزراء والنواب.

المدارس والجامعات الاهلية انتشرت في كل ركن وشارع صارت مشاريع تجارية سهلة الربح، دون رقابة ولا خضوع لأبسط شروط التعليم. ناهيك عن تردي المناهج المدرسية وقلة خبرة بعض المعلمين في التعامل بشكل تربوي مع التلاميذ! والمنتسبين لهذه المدارس لابد ان يكونوا متمكنين ماديا . بينما هناك ملايين الاطفال يزدحمون في صفوف كل خمسون تلميذ في صف واحد! ليكون مصيرهم التعليمي اما التسرب من المدرسة او اكمال المراحل بلا علم ولا معرفة، ماعدا الذين يحضون بدروس خصوصية مُكْلفة، او يعتمدون على ذكاءهم ومساعدة ذويهم.

كلنا نذكر مدى ابتهاجنا وفرحنا في أول انتخابات يعرفها الشعب العراقي .. كلنا نذكر كيف هرع الجميع بالرغم من كل التهديدات والتفجيرات، ليساهموا بعملية اختيار من يمثلهم في الحكم. تسحبهم احلامهم لتحقيق الديمقراطية الحقيقية كما يروها في الدول التي تحترم القانون وتحترم الشعب وتحرص على توفير العيش الكريم له. خاصة والشعب العراقي عانى عقودا من الظلم والتعتيم والتدمير حروبا وحصار وتكتيم افواه وتغييب كل من يجرؤ على التفكير بالتعبير عن رأيه. فاذا بالشعب يفاجأ باسهال حزبي ويغرق بتكتلات طائفية وقومية لا تعرف عن الحكم والسلطة غير ما تجنيه من غنائم. كل كتلة تعمل لنفسها بعيدا عن المنتخبين لها. فصار معظمهم من اصحاب المليارات. فكل وزير يشترط من المقاول او المهندس ملايين الدولارات رشوة لتسيير معاملة ما لتشييد مشروع ما. حتى لو كانت تلك المشاريع من واجبات ذلك الوزير . وتحولنا الى سوق للجيران من ابسط المنتجات الى اعلاها تقنية. من الجبنة والطماطم الى الاجهزة والمعدات.

المنافسة بين الوزراء والنواب اقتصرت على من يغتني اكثر خلال فترة اشتراكه بالحكم ..وكيف يأخذ الملايين كتقاعد عن بضع سنوات خدمة لم يقدم خلالها اي خدمة للشعب! بينما معظم الموظفين والمعلمين ممن عملوا اكثر من عشرين عاما يتقاضون نصف مليون دينار عراقي اي ما يعادل 400 دولار او اقل!

الاراضي الزراعية قسمت ووزعت وبيعت للناس الذين انتظروا طويلا المجمعات السكنية التي وعدوا فيها.. فكانت الجريمة مضاعفة. اولها تقليص الاراضي الزراعية وثانيها بيع املاك الدولة لتصبح الاموال في جيب هذا الوزير او ذلك النائب دون الاحساس بخطورة الامر وتأثيره على البيئة وتشويه المدن، وجريمة الخلل في ميزانية الدولة الغنية بنفطها ومزارعها ومواردها البشرية. لنصبح من الدول التي تثقلها الديون لتقدم الحكومة الطائفية اسوأ صورة لمستقبل الاجيال القادمة.

تناسى الطائفيون قصور صدام التي احتلها الامريكان ونهب بعضها وتحولت الى خرائب، بدل من جعلها مستشفيات او جامعات حكومية او على الاقل تحول بعضها الى متحف لتعرف الاجيال القادمة عن تاريخنا القريب والبعيد حلوه ومره.

ويكفي ان تمر بالأراضي المحيطة بالقناة في بغداد لتعرف حجم الاهمال والتخريب وتبذير اموال الشعب. النخيل الذي يحتمل الحرارة والعطش، على جانبي القناة ينحني خاويا بلا حياة.. شكرا للطبيعة منحت الاراضي الشاسعة الاشواك والعاقول!. كم من الملايين صرفت على انجاز حدائق بسيطة حوالي القناة.. او على الاقل انشاء مجمعات سكنية توزع على الموظفين او العمال ممن لاسكن لهم حتى لو بأقساط رمزية. تحيطها حدائق تحسن من صورة المدينة وتمتص اعداد المتزاحمين على السكن مع اهلهم في مساكن مساحتها اقل من 100 متر مربع!

من المسؤول عن كل ذلك التردي؟ نعم هناك شيء من الاهتمام في تشجير بعض المساحات في الطرقات لكنه طفيف جدا امام حجم الاهمال المقصود في كل مفاصل المدن. فقد تنافس النواب والوزراء على من يصبح ملياردير اسرع من الاخر! وبالرغم من تضخم رواتبهم بغير حساب وبغير عمل ولا ضمير، لم يصرفوا منها مليما واحدا.. فلهم مخصصات غذاء ومخصصات وقود! بل ومخصصات حفاضات لاطفالهم ومخصصات طبية حتى عمليات تجميل للأكثر قبحا منهم، تدفع من مال الشعب الذي لا يجد من يشتري له الدواء! بل حتى مخصصات للتكفير عن ذنوبهم وهي كثيرة وتتكاثر، حيث كل عام يذهب النائب والنائبة واقرباءهم للحج من المال العام! فكم من مظاهرة وكم من احتجاج قام به الشعب وكتبت عشرات المقالات والكتب دون جدوى !فالاحتجاجات قوبلت ولسنوات بلامبالاة وتعالي كما لو هم ينتقمون ممن انتخبهم!

لكن الشعب واعي ويعرف ان الديمقراطية التي خلصتهم من مجلس قيادة الثورة سيء الصيت، هي الوسيلة المثلى لاسترداد كرامتهم واموالهم وليكونوا هم صاحبوا القرار. وسيبقى شباب التحرير محصنين بحب الوطن والناس وحب الخير، ضد فايروسات الطائفية والتعصب القومي وضد عبودية السلطة والمال. على امل ان تصحى كل المحافظات والمدن بتكاتف كل الشعب للحفاظ على وحدة العراق وكرامة ابناءه، ولا تقتصر الانتفاضة على مدن الجنوب البطل وابناءهم الشجعان في تضامنهم مع انتفاضة التحرير في بغداد.

 

ابتسام يوسف الطاهر

من ساحة التحرير

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم