صحيفة المثقف

كرنفال التشهير

رشيدة الركيكلن نختلف في القول أننا نعيش اليوم تحت سيل جارف من الصور وتدفق مثير للفيديوهات. أصبحنا نوثق للأحداث قبل أن نعيشها ونتلذذ متباهين بها.

والحقيقة وإن استطعنا التغاضي أو حتى التغافل المتعقل عن أسباب الظاهرة النفسية والإجتماعية، إلا أننا لا ننكر اصطدامنا باستعمال مقلق لوسائل التواصل الإجتماعي من نشر لفضائح الناس، وكشف عوراتهم بشكل لا إنساني يدمر كل حياة أسرية ويقلق مضجعها ويمس أمانها النفسي والعلائقي.

في التشهير أكيد محاكمة اجتماعية إلا أنها في حقيقتها محاكمة غير منصفة ، لأنها لا تعتمد إلا على عناوين مثيرة تشد انتباه المتلقي وفضوله السلبي للتفحص والمعرفة، عندها سينطلق عداد نسبة المشاهدة. الكل في سباق للحديث عن الحدث بينما هو في حقيقته فضيحة معلنة تحمل بين طياتها الحق في التدخل بدون استئذان في حياة الناس الخصوصية في زمن ترفع فيه الدعوة للحرية الشخصية ونتبجح بذلك.

هكذا يبدأ السباق وهو أشبه بسباق أقوى عينين ترى الظلام، إنها لعنة التكنولوجيا التي أصابتنا في بيوتنا وداخل أسرنا لتشوه ملامح إنسان يبحث عن كرامته في زمن الإستيلاب القاتل لها.

وإن كنا نؤمن أن التشهير ليس وليد التكنولوجيا، فإنه كان يرتبط في عهد قريب بأشكال بسيطة تعكس زمنها، كالتجسس والتلصص والغيبة والنميمة لفضح أعراض الناس، غير أنها كانت تنتقل عبر الأفواه إلى الآذان.

أما اليوم أصبحنا نرى تدخلا تعسفيا مغرضا في حياة الناس الخاصة وأسرهم، بل حتى في شرف عائلاتهم وسمعتها في العالم بأسره والكل يتكلم لتصبح قضية رأي عام يستباح  فيها دم وجه الإنسان ليقهر بإجماع ويعرض للتذمر والتدمير.

فأي إنسانية تلك نتبجح بالحديث عنها ما لم تجمعنا في اللحظات العصيبة لنحس ببعضنا البعض؟ أي إنسانية تعطي المشروعية لحاكمة الأشخاص محاكمة جماعية فيها إقصاء تام لإنسانيته  بدعوى أنه أخطأ، مع أن كل بني آدم خطاء؟

ولأن مع كثرة الألم سيأتي يوما يفقد فيه الإنسان الإحساس بعد سحق  كرامته طالما تظاهر بالكثير لأجلها، وسيصبح هذا الفقدان آلية نفسية دفاعية تواجه الألم الذي قد يتعرض له الفرد وتمحيه، ولعل هذا ما يفسر أنه من كثرة الألم يصاب المرء بغيبوبة  تدخله في حالة من اللاوعي ضمانا للاستمرار.

كثيرا ما سمعنا عن أهمية الفضول في تقدم الإنسانية والرقي بها. سمعنا عن علماء الفلك وقصصهم مع نجوم السماء حين استثارتهم  بلمعانها ليلا وحركتها، فخاطبوها وكانت حقيقة مصدر إلهام لهم ولجل الشعراء ليلا، فاعتبروها مرسال عشق لحب ممنوع من كثرة جمالها وصفاء بريقها في الظلام الحالك. لقد ثقبوا السماء بأعينهم ليروا ما تخفيه من أسرار والنتيجة ظهور علم الفلك...

لقد كان فضولا مشروعا أفاد الإنسان والإنسانية بدفعها للبحث والتنقيب عن أسرار الكون ذهولا بعظمته ودليلا على عظمة الخالق.

لكن اليوم  فيما يفيد المرء فضح خيانة زوج لزوجته غير خراب البيوت والتفكك الأسري

و انحلال المجتمع، أي رسالة نحمل حين ننشر لقطات من فضيحة جنسية لأحد المشاهير أو المسؤولين أو غيرهم...؟

يبدو أن هنا إلتقى  حقّين لزم وضع خط أحمر بينهما: الحق في حرية التعبير في مقابل الحق في حياة خاصة بزلاتها. فالأمر هنا يتعلق بإقامة التوازن الحقيقي بين الحقوق والواجبات، ذلك أنه من الصعب الحديث عن حقوق تدمر الأشخاص وتفكك الأسر وتساهم في تحلل مجتمعات وتدخلها في نقاش عقيم، والحديث عن الحرية الشخصية.

ويبقى السؤال المشروع: متى تضع الذات الجماعية لنفسها لجاما على حق التمتع بخصوصية الذات الفردية، حفاظا على حق الأفراد  في الكرامة الإنسانية؟

هكذا لقد كثرت خفافيش الأنتيرنت، يشتهرون بصور وحسابات وهمية في مواقع التواصل الإجتماعي لتصطاد في الماء العكر. كل من لديه حقد أو غيرة من رزق أحد كيفما كان نجاحا أو مالا أو بنينا أو جمالا... لجأ إلى فضح الجانب المظلم من حياته.

ترفرف طيور الليل لتحط رحالها على أي واحد منا لتجعل منه مادة دسمة تقتات عليها بعض المواقع لتحقيق أكبر نسب المشاهدة. تقف لتنشر أخبار الناس المشهورين بدعوى أنهم ملكا للرأي العام أو حتى نشر قصص العاديين  منهم بدون موافقتهم لتشويه سمعتهم.

وإن كان القانون يعاقب على ذلك، خفافيش الأنتريت يحمون أنفسهم مستغلين انفتاح المجتمع على مواقع التواصل الإجتماعي ومع سهولة النشر في مقابل صعوبة التعرف على الناشر. أما إن تم التعرف عليه يصعب محاكمته لإختلاف قوانين الدول وتعدد الأماكن التي تم فيها ذلك التشهير.

وكأنهم مرضى نفسيون يهدرون طاقتهم بهدف  الإستمتاع بمعاناة غيرهم  والتلذذ بتعذيبهم.

تلك حيقيقة من يشهر بالناس، ولكن أي حقيقة ينشرون وما مصدر صدقها في زمن تفبرك فيه الصور والكلمات بين هنا وهناك وبكل سهولة؟

قد يتوه المتلقي وهو غارق في دوامة من الصور والأصوات والفيديوهات، ليختلط الحقيقي بالمزور في الوقت الذي لا يمتلك فيه المواطن العادي آليات التمييز.

يغرق المشتهر به في اتهامات صادمة عند تناقل الأخبار بسرعة فاقت استيعابه، حتى لو أثبت براءته وعدم صحة ما نشر، قد يحاكم محاكمة مجتمعية غير عادلة ليعيش حاملا معه أحكاما مسبقة ، وكأننا مجتمع ينتقم بنشر الفضائح  متشفيا بشكل يمكن أن يداوي جروحه ليتحول من ضحية إلى جلاد.

لن نختلف أن كل مستور في الغالب جرح يضر صاحبه ولا يستطع أن يداويه. هو الجانب الذي يريد أن يبقيه مظلما لأن لا أحد يستطيع فك شفراته إلا هو وفق منطقه الخاص، بل لا أحد من حقه كشفه طالما هو خاص به.

لكن سيظل نشر الفضائح يكشف عن منطق إنساني في العلاقات الإجتماعية، وهو منطق الجبناء الفاشلين منطق خاسر خاسر للجميع، علي وعلى أعدائي ، هو أكيد منطق يجر الجميع للطريق المسدود.

ولأن  الإقبال المجتمعي بالتقاسم والنقر على الإعجاب نجح المغرضون، فلماذا تهافتنا المجتمعي على فضائح الغير؟هل في ذلك راحة نفسية عندما نقدم صورة مثالية عن أنفسنا على حساب فضائح الآخرين؟ ثم أي منطق يقبل ذلك سوى أننا كلنا عيوب وفي كشف عيوب الآخر ستر لعيوبي؟  إذن  هو نوع من الإشباع النفسي والإجتماعي المرضي.

لذلك تحتمي الذات في مظهرها أمام كل تواجد خارجي ،تحتمي لتحمي نفسها من نفسها ،تحتمي لتضمن بقاءها كذات لها كرامة وتهدف إلى جلب الاحترام والتقدير لأنها تعرف جيدا أن تقدير الذات لن  يكون بعيدا عن تقدير الآخر لها.

ويلجأ المرء للكثمان حتى لا يكون عرضة للتدمير، ومع ذلك لم يسلم من طرف الغير وسيظل من أجله يعاني في خفاء. وتزداد مأساة الإنسان أمام الشهرة حيث يكون عرضة للتشهير والمساس في ماله وعرضه وشرفه وإيذاء سمعته قهرا باستخدام الصور وكشف مستوره رميا به في مختلف أشكال الفضيحة،  لهز صورته المجتمعية وتقدير الآخرين له، لتدمر أسرته وعائلته الكبيرة وكل من له علاقة به، يتحول بعدما كان مصدر فخر واعتزاز لنقيض قد يتنكر منه الجميع خوفا من العار المجتمعي...

ومع تلقي العائلة للفاجعة تنهار انهيارا علنيا بشكل تكون محط هدم وقهر، فهل خطأ الإنسان سبب في التشهير به؟ وهل في التشهير علاج لهذا الخطأ ؟أم هو نوع من الوقاحة والرغبة في التدمير بدون أي إحساس بالمسؤولية ؟ألا يمكن أن يعتبر جرما في حق الإنسانية ككل؟

ثم لو كانت المعاقبة على الخطأ مبررا، ألا يتواجد الخطأ في حياة كل واحد منا ؟أليس الخطأ وارد في حياة تحمل معنى للامتحان، وأن الدنيا ستنتهي بحياة أخروية فيها معنى للحساب؟ ثم أو ليست الحياة امتحانا إلهيا للبشر؟

كثيرا ما يردد الإنسان نواقصه كلما وقف أمام مرآته وخرج من أعماقه ،وإذا كان الامتحان الإلهي يفتح باب التوبة والاستغفار ويجعل من الحسنات يذهبن السيئات وأنه إنما الأعمال بالخواتم ،فكيف يمكن أن يكون للمحاكمة المجتمعية معنى؟

تأتي المعاناة من كل صوب ويتلقاها المشهور كضريبة لنجاحه ،وكلما كانت شهرته زادت معاناته ، فينهار ما راكمه من نجاح لتنهار أعماله أمام عينيه،تليها صدمة أمام نظرة الغير وتعابيرهم الدالة والحاملة لمعنى تشعل نار الألم وقساوته ، وكأنه تحليل للذات من حيث تبدو للآخر، لتجر معها كل فرد داخل الأسرة في المأساة والانهيار وشدة اللوم والمحاسبة المجتمعية على فعل لم يرتكبوه.

هو ظلم وقهر مزدوج فردي وأسري ،تدمير أيضا مزدوج يرمي بالكل في براتين الضياع لحظة انتشار المعلومة مثلما ينكسر الزجاج، بينما ينتهي الصوت بسرعة تبقى قطع الزجاج تجرح من يلامسها ،وهكذا قد ينتهي الكلام الجارح ليبقى القلب يتألم طويلا.

كل ذات تعرف نفسها وعيوبها وتحاول تجاوز تقزيمها أمام العيون مخافة من الأنا الأعلى - باللغة الفرويدية - باعتباره ما ينبغي أن يكون من قيم ومبادئ وأخلاق ودين ، فيسلط الضمير كل المشاعر الأليمة على اعتبار أن لكل سلوك قواعد يجب احترامها . هكذا سنظل  نعيش خوفا من العالم الخارجي، وسيظل الآخر أكيد كما قال سارتر جحيما.هو حقيقة بهذا المعنى وجود يكون عدمه راحة لكل ذات تخاف التدمير.

فرفقا بكل إنسان لمجرد أنه إنسان، حتى لا نكون كمن يأكل لحم الميت ويتلذذ بذلك.

فهل نقبله على أنفسنا لنقبله على غيرنا؟ أليست الإنسانية ما يجمعنا في الأول وفي الأخير؟

عموما معذرة لمن عانى مرارة مجتمعية قاتلة ،وكل من سالت دموعه دما سواء أخطأ أو حوسب على أخطاء غيره ، قد نكون ساهمنا بسكوت غير مقصود وإن تألمنا معه، فلذلك نصرخ كفانا تشهيرا بكل من حقق ذاته وبحثنا عن زلاته لنسقطه أرضا ، لذلك يعجبنا في كل تواجد اجتماعي يجعل من كل فاشل إنسانا ناجحا، بينما يقهرنا أكيد تدمير كل ناجح ليصبح فاشلا، أوليس في التدمير الفردي تدميرا جماعيا؟

 

بقلم رشيدة الركيك

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم