صحيفة المثقف

قراءة في الثورة النيكاراغوية وتبِعاتها

بشار الزبيديكانت الثورة النيكاراغوية التي مضى عليها حوالي 41 عاماً واحدة من أعمق العمليات الثورية التي حدثت في أميركا اللاتينية والتي قادها عمال المزارع والفلاحين والطبقة الفقيرة في المدن والتي امتدت من ١٩٧٨ إلى ١٩٩٠. وقد حققت ثورة نيكاراغوا انتصاراً هاماً بتدمير الحرس الوطني القمعي وهزم دكتاتور البلاد  "أناستازيو سوموزا "

ولمن لا يعرف نيكاراغوا فهي دولة تقع في أميركا الوسطى. تحدها من الشمال هندوراس ومن الجنوب كوستاريكا ويحدها من الغرب المحيط الهادي ومن الشرق البحر الكاريبي وجغرافيا تعتبر أكبر دولة في أميركا الوسطى. عاصمتها ماناغوا ونظام الحكم فيها جمهوري رئاسي. يبلغ عدد سكانها حوالي ٦ مليون نسمة وعملتها تُدعى "كوردبا نيكاراغوا". تشتهر نيكاراغوا بسلسلة من البراكين النشطة الموازية لساحل المحيط الهادئ، ولهذا السبب يُطلق عليها أيضاً "أرض الألف بركان".

لقد عانت نيكاراغوا في القرن العشرين من التدخلات العسكرية الأميركية، التي حددت سياسات البلاد لفترة طويلة. حيث كان هناك تواجد عسكري أميركي قوي في نيكاراغوا أمتد من عام ١٩١١ إلى عام ١٩٣٣ وقام وقتها الأميركان بتشكيل الحرس الوطني في نيكاراغوا ووضعوا على رأسه الديكتاتور أناستازيو سوموزا غارسيا. وبعد انقلاب عسكري في عام ١٩٣٦ تم التصديق عليه من خلال انتخابات مزورة، ليُصبِح سوموزا رئيساً البلاد. حكمت سلالة سيموزا الدكتاتورية نيكاراغوا من عام ١٩٣٧ إلى أن تمت الإطاحة بها في عام ١٩٧٩. اتسم حكم أُسرة آلـ سوموزا بعدم المساواة والفساد السياسي،وكانت الولايات المتحدة الأميركية تدعم الحكومة السيموزية وجيشها آنذاك. سيطرت حكومات سوموزا على البلاد واحتكرت البنوك وشركات النقل الجوي والبحري والبري. واستحوذت على إنتاج المنسوجات والسجائر والأسمدة والزيوت والنحاس والحمضيات والبيوت الجاهزة والأسمنت وغيرها من المنتجات والموارد. وفعلوا ذلك بمساعدة الشركات الأميركية.

1444  نيكراغوا 1

 وقبل صعود سلالة سوموزا للحكم، أدار السلطة في نيكاراغوا أدولفو دياز، وهو زعيم نصبته مشاة البحرية الأمريكية. كان دُمية أميركية , إذ كان سكرتير سابق لشركة تعدين أمريكية. ومن عام ١٩٢٧ إلى عام ١٩٣٣، قاد الجنرال أوغستو سيزار ساندينو النضال ضد الإمبريالية الأمريكية وحكومة دياز.

لم تهز هذه الثورة حكومة دياز فحسب، بل هزت أيضًا بُنية الدولة الضعيفة وبفضل الدعم الهائل من الفلاحين، حالت حرب ساندينو دون توطيد أُسس الدولة، وتطورت الأزمة وأجبرت واشنطن على اللجوء إلى تدخل عسكري واسع النطاق في نيكاراغوا من أجل إنقاذ ما تبقى من جهاز الدولة شُبه المُعطل.

كان الهدف الرئيسي للأميركان هو إعادة بناء دولة قومية قوية في نيكاراغوا. للقيام بذلك، كان من الضروري تدمير جيش ساندينو بالكامل وتصفية الفلاحين الذين دعموه، واغتيال ساندينو نفسه، الذي كان يُعرف في ذلك الوقت باسم "جنرال الرجال الأحرار". لذا أعادت حكومة الولايات المتحدة بناء جهاز الدولة في نيكاراغوا من خلال إنشاء الحرس الوطني، ودعم سوموزا في خدمة الإمبريالية الأميركية.

في بداية الستينيات كان هناك انقسام بين الأوليغارشية المتحالفة مع حكومة سوموزا والبرجوازية التي استفادت من التوسع الاقتصادي بشكل مركزي في قطاعات التصدير الزراعي والصناعات الزراعية والقطاعات المصرفية، التي أصبحت حكومة سوموزا عائقا لها. بدأ هذه الأنقسام الأخير في اتخاذ موقف معارض متزايد لحكومة سوموزا التي لم تقدم سوى القليل من المساعدات.

تحت تأثير الثورة الكوبية، تأسست جبهة ساندينيستا للتحرير الوطني في عام ١٩٦١ من قبل توماس بورخيه وكارلوس فونسيكا أمادور وسيلفيو مايورخا. كانت منظمة قومية برجوازية صغيرة شنت حرب عصابات ضد نظام سوموزا وقد استخدمت هذا التكتيك كاستراتيجة أساسية لإسقاط حكم سوموزا.

1444  نيكراغوا 2

بوادر الثورة:

خلال السبعينيات من القرن الماضي، خرجت تظاهرات جماهيرية في نيكاراغوا في عامي ١٩٧٣ و ١٩٧٤، وتم إخمادها بقسوة من قبل السلطة. بين عامي ١٩٧٥ و ١٩٧٦، أصبح القمع الحكومي أكثر دموية وسقط مؤسس جبهة ساندينيستا للتحرير الوطني كارلوس فونسيكا أمادور ضحية هذا التحرك قبل أن ترتفع حدة غضب الثوار من جديد في ايلول ١٩٧٧. في كانون الثاني ١٩٧٨، قُتل الصحفي الشهير بيدرو خواكين شامورو ليتحول الموقف بعد هذه الحادثة إلى التصعيد.

في ايلول من نفس العام، شنت جبهة ساندينيستا هجومًا عسكريًا  في مدن مختلفة من نيكاراغوا. ثم جاء الهجوم المضاد الذي قام به الحرس الوطني Guardia Nacional وحشيا وإنتهى بمذبحة قُتل فيها ١٠ آلاف عامل وشاب وطالب. لكن هذه النكسة المشؤومة لم تضعف القوى الثورية المُعارضة في نيكارغوا التي بدورها وسعت تحركاتها الجماعية على الرغم من بطش عصابات نظام سوموزا. في فترة السبعينات كان الثوار النيكاراغويين يتصرفون بشكل منفرد قبل أن يتم توحيدهم بضغوط من فيدل كاسترو الذي عرض عليهم الدعم مقابل اندماجهم.

في هذا السياق كان الهدف من الثورة في نيكاراغوا حل العديد من القضايا الهيكلية:

أولاً : سعت الثورة إلى تحقيق التحرر الوطني من الإمبريالية، التي شكلت كل جانب تقريبًا من تاريخ نيكاراغوا.

 ثانياً : سعت إلى حل مسألة الأراضي. حيث كانت تمتلك عائلة سوموزا  وحدها أكثر من ٢٢ ألف كيلومتر مربع من الأراضي الصالحة للزراعة، وتركزت مساحات كبيرة أخرى من الأراضي في أيادي قليلة من الأغنياء في الوقت الذي كان يعيش ملايين الفلاحين في فقر مُدقع.

 ثالثًا :كان على الثورة مواجهة نظام سوموزا الديكتاتوري، الذي اندمج مع الدولة نفسها.

كانت الثورة النيكاراغوية بحاجة إلى إنجاز تلك المهام الهيكلية والديموقراطية، ولكن من أجل تحقيق أهدافها، كان عليها أن تتجاوز تلك المهام. إن الرأسماليين وحتى الليبراليين المعارضين لدكتاتورية سوموزا، كانوا غير مُستعدين للانفصال عن الإمبريالية ومصادرة أملاك عائلة سوموزا لأنهم استفادوا كثيرًا من هذه العلاقة. كانت هذه مهمة يجب أن تتولاها الطبقة العاملة.

شكلت المسألة المتعلقة بالأراضي وكذلك النضال ضد الإمبريالية، للفلاحين - غالبية سكان نيكاراغوا، دورًا مهمًا في حل هذه المهام الديموقراطية. في هذا السياق، كان من الضروري إقامة تحالف ثوري بين الطبقة العاملة والفلاحين تحت القيادة السياسية لحزب العمال الثوري. لن يكون هذا التحالف ممكنًا إلا من خلال المعارك الدؤوبة ضد تأثير البرجوازية الليبرالية، بما في ذلك أولئك الذين يعارضون ديكتاتورية سوموزا.

بهذا المعنى، وبمجرد وصولها إلى السلطة كقائد للثورة الديموقراطية ضد الإمبريالية وإصلاح الأراضي، ستجد البروليتاريا نفسها في مواجهة الحاجة إلى تحويل حقوق الملكية البرجوازية - أي الحاجة إلى مصادرة البرجوازية - وتحويل الثورة الديموقراطية مباشرة إلى ثورة اشتراكية. من هذا المنظور واستراتيجية الثورة الدائمة يمكن تحليل الثورة النيكاراغوية.

1444  نيكراغوا 3

اختمار واشتعال الثورة النيكاراغوية:

بدأت الجماهير في الأشهر الأولى من عام ١٩٧٩،  في الانتقال إلى المسرح السياسي بإضرابات عامة واحتلال الأراضي وأعمال شغب في المدن ضد النظام السوموزي. في ٤ تموز، أعلنت المنظمات الشعبية وجبهة ساندينيستا للتحرير الإضراب العام الذي شل الدولة وأدى إلى أعمال شغب في الأيام اللاحقة. لكن ما يعطي الموقف نُقطة تحول حاسمة هي الحركة التمردية العفوية، ونتيجة لذلك ظهر ما يُسمى بــ "المناطق المُحررة" في أحياء الطبقة العاملة الرئيسية في العاصمة ماناغوا واعتبارًا من ١٠ تموز ١٩٧٩ دخلت نيكاراغوا في ثورة شعبية عارمة.

كانت الإمبريالية الأميركية في مواجهة حقيقة أن الوضع سيخرج عن السيطرة فتوجهت إلى منظمة الدول الأميركية لإخفاء التدخل المباشر. اقترحت الولايات المتحدة الأميركية إرسال "قوات حفظ السلام"، وهو إجراء لم يحظَ بدعم دولي وبذلك بدأ الديكتتاور انستازيو سيموزا بعزل نفسه أكثر وتلقى دعم فقط من ديكتاتوريات أميركا اللاتينية في ذلك الوقت. كان أمل الأميركان هو أن يقمع سوموزا بقسوة العمال والفلاحين ويسحق الثورة وبعد ذلك يتم تشكيل نظام برجوازي جديد. في حزيران تم تشكيل حكومة انتقالية، تحت مُسمى المجلس العسكري لإعادة الإعمار الوطني في نيكاراغوا، والتي تولت السيطرة على الدولة في مرحلة سقوط سيموزا الوشيك. وكان أعضاء هذه الطغمة العسكرية فيوليتا تشامورو (أرملة الصحفي بيدرو خواكين تشامورو) وألفونسو روبيلو كاليخاس ودانييل ممثلان عن الطبقة البرجوازية وأورتيغا ومويسيس هيرنان، ممثلان عن جبهة ساندييستا للتحرير الوطني؛ وسيرجيو راميريز، الذي عمل كوسيط وممثل الطبقات الوسطى. وقد اعترفت حكومات أميركا اللاتينية بهذه التوليفة العسكرية وكانت الخطة ضمان وجود الحرس الوطني في داخل الحكومة الجديدة ودمجه مع قوات حرب التحرير الساندينيستية.

خلال الانتفاضات التي تلت هجمات الحرس الوطني المضادة، نشأت الميليشيات الشعبية بشكل عفوي، ولكن تم دمجها لاحقًا بأوامر من جبهة ساندينيستا للتحرير.أدت الانتفاضات العفوية والمقاومة الحية للسكان والهجمات التي شنتها جبهة التحرير إلى قيام الحرس الوطني  فقط بمهام الدفاع الصارم عن ثكناته والدفاع عن المقر الخاص بالقائد سوموزا ليترك سيموزا في النهاية السلطة وشكل هروبه في ١٧ تموز ١٩٧٩ المرحلة الأخيرة من انهيار النظام.

بعد هروب سوموزا ووفقًا لاتفاق سابق كان على فرانسيسكو أوركويو نائب رئيس حكومة انستازيو سوموزا نقل السلطة لصالحه في المجلس العسكري الحاكم ودعا فصائل المعارضة إلى إلقاء السلاح وأكد أنه سيبقى في السلطة  حتى انتخابات ١٩٨١ لكن الثوار رفضوا ذلك وهاجموا مقر سوموزا، واستعادوا عشرات الآلاف من الأسلحة المُصادرة منهم، وقسموها فيما بينهم وواصلوا نظالهم. وبذلك انكسر الحرس الوطني التابع لانستازيو سوموزا في ١٩ تموز ١٩٧٩ وغزت قوات جبهة التحرير العاصمة وقامت بتنصيب المجلس العسكري، الذي تألف منهم مع أعضاء من المعارضة.

نتائج الثورة وتبِعاتها:

وصل عدد ضحايا الثورة في المرحلة الأولى إلى ٤٠ ألف  قتيل و ١٠٠ ألف جريح. طوال السنوات الثلاث السابقة، نفذت الطبقة العاملة النيكاراغوية إضرابات عامة، وعشرات من الإضرابات الجزئية. حدث هذا خلال الفترة التي كان فيها المحرك المركزي للإنتاج يتألف من عمال المدن والبروليتاريا الزراعية والفقراء وشبه البروليتاريين في الريف والفلاحين الفقراء. وكان العديد من الثوار هم مقاتلين من جبهة ساندينيستا وقد اعترف زعيم جبهة التحرير اومبرتو أورتيغا بقوله: "كانت حرب العصابات هي التي دعمت الجماهير"، وليس العكس. وفي نهاية المطاف حصل إضرابًا شمل مئات من العمال المسلحين في الأحياء وفي الريف، وبعد انتصار الثورة، وجهت بعض القطاعات التروتسكية نفسها حصريًا نحو تشكيل نقابات مستقلة، وهي قضية لم تتسامح معها قيادة جبهة التحرير النيكاراغوية، حيث حاولت تنظيم كل شيء تحت هياكلها وقيادتها السياسية الخاصة.

من المهم أيضاً تسليط الضوء على مشاركة التروتسكيين في هذه العملية. نظم التروتسكيون لواء سيمون بوليفار الأممي للقتال من أجل الثورة. تم الترويج لهذه الفصيل من قبل حزب العمال الاشتراكي في كولومبيا، وهو منظمة بقيادة الأرجنتيني التروتسكي ناهويل مورينو. تتكون من حوالي 110 مقاتل من دول مختلفة ولكن بشكل رئيسي من كولومبيا، دخلت نيكاراغوا في أوائل يونيو. وقُتل منها ثلاثة مقاتلين بطوليين بسبب سعيهم لتنظيم نقابات مستقلة، وتم طرد أولئك الذين ليسوا نيكاراغويين من البلاد من قبل جبهة التحرير النيكاراغوية، وتم تسليمهم إلى الشرطة البنمية على الحدود وترحلوا بعد ذلك إلى بلدانهم.

المجلس العسكري لإعادة الإعمار الوطني: جبهة التحرير والمعارضة البرجوازية:

إن المفارقة الكُبرى في هذه الثورة هي أن ممثلي الرأسمال كانوا حاضرين في الحكومة الحاكمة وفي الوزارات وفي الجهاز الإداري للدولة، وفي البنك المركزي.

تألف مجلس الدولة من 30 عضوًا " معينون بشكل مباشر من قبل المنظمات والمجموعات الاجتماعية والاقتصادية التالية في الدولة":

1- مجاميع من جبهة التحرير الوطنية (ساندينيستا) التي ضمت: الحركة الشعبية المتحدة، والحزب الليبرالي المستقل، ومجموعة الاثني عشر، وحزب الشعب المسيحي، وحزب العمال النيكاراغوي، وجبهة العمال، واتحاد الصحفيين الإذاعيين،

2- مجاميع من أئتلاف الجبهة المعارضة الذي ضم: حزب المحافظين الديمقراطي، والحزب الاجتماعي المسيحي النيكاراغوي،والحركة الديمقراطية النيكاراغوية، والحركة الدستورية الليبرالية، والحزب الاشتراكي النيكاراغوي، والاتحاد العام للعمل المستقل، واتحاد اتحاد النقابات العمالية .

3- مجاميع من المجلس الأعلى للمؤسسات الخاصة الذي ضم: معهد التنمية النيكاراغوي،وغرفة الصناعات النيكاراغوية،والغرفة التجارية النيكاراغوية،واتحاد المنتجين الزراعيين النيكاراغويين، وغرفة البناء النيكاراغوية.

خلال هذه العملية، تمت تقريبًا مُصادرة قطاع انستازيو سوموزا بالكامل، وتم تأميم البنوك ونظام التأمين وأنظمة التعدين والسيطرة على القطاع المالي وعلى الصادرات وتوزيع السوق الداخلية. كما تم إحراز تقدم كبير في مشاريع مثل حملات محو الأمية الضخمة، وإنشاء نظام الصحة العامة ومصادرة الأراضي المتروكة. في غضون ذلك، قدمت الحكومة الجديدة تنازلات كبيرة للصناعيين من أجل الحصول على ائتمان دولي ودمج البرجوازية المعادية لسوموزا في مهمة "إعادة الإعمار الوطني". استمرت الملكية الخاصة في السيطرة على التنمية الاقتصادية، واقترحت الدولة مشروع الاقتصاد المختلط. ثم بدأ نزع سلاح السكان وتعزيز الجيش، جيش ساندينيستا الشعبي.

ومع ذلك، استقال القطاع البرجوازي القديم، الذي كان في البداية جزءًا من المجلس العسكري. وبدلاً من ذلك، حل قطاع آخر مكانه بقيادة رافائيل كوردوبا، عضو المحكمة العليا ورئيس ( الحزب الديموقراطي المحافظ)، وأرتورو كروز، الموظف السابق في بنك التنمية للدول الأميركية. أدت التناقضات العظيمة للثورة إلى العديد من التغييرات في الطغمة العسكرية وسيطرت جبهة ساندينيستا بشكل أكبر على الحكومة ولكن دون تغيير توجهها الاستراتيجي نحو التعاون الطبقي.

لكن إحدى الضربات التي تعرضت لها ثورة نيكاراغوا جاءت من كوبا وسياسة فيدل كاسترو. ففي خطاب رسمي، أكد كاسترو أن نيكاراغوا لن تكون كوبا جديدة وقال : "هناك  العديد من علامات الاستفهام ويريد العديد من الناس إظهار أوجه التشابه بين ما حدث في كوبا وما حدث في نيكاراغوا. لهذا السبب رد النيكاراجويين بشكل رائع على تصريحات ومخاوف عبر عنها بعض الناس بأن نيكاراجوا أصبحت كوبا جديدة:  لا، نيكاراغوا أصبحت نيكاراجوا جديدة، وهذا أمر مختلف تماماً ".  وقال كاسترو إن البرجوازية لا يجب مصادرتها وأن الثورة يجب ألا تنتشر. كان لهذا عواقب وخيمة في إبقاء نيكاراغوا معزولة وإبطاء العمليات الثورية الجديدة في أميركا الوسطى.

مقاومة التمرد العسكري و"السلام" المعاديان للثورة:

كانت أهمية أميركا الوسطى بالنسبة للإمبريالية ليست اقتصادية فحسب، بل جغرافية سياسية بشكل أساسي، خاصة في سياق الحرب الباردة ودور الاتحاد السوفييتي الإقليمي الذي تم إنشاؤه من قبل كاسترو. وهذا هو السبب في أن الولايات المتحدة كانت مُصممة على سحق الثورة في نيكاراغوا، التي لو امتدت، لكانت قد امتدت إلى أميركا الوسطى بأكملها، كما حدث سلفا في السلفادور.

بعد أن أصبح ريغان رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية في عام ١٩٨١، أطلقت إدارة ريغان سياسة تدخلية علنية تمثلت في ثورة مضادة للثورة النيكاراغوية ووقع الرئيس ريغان على دعم سري للقوات المُناهضة لجبهة ساندينيستا للتحرير الوطني. تم تشكيل عصابات الكونترا في نيكاراغوا وتم تعزيز التواجد العسكري في أميركا الوسطى وبدأ الهجوم المضاد ضد الثوريين في نيكاراغاوا عن طريق ما يُسمى بـ  ( حرب الكونترا contrarrevolución). وتحقيقا لهذه الغاية، تحولت هندوراس إلى مهبط للطائرات الأميركية، وكمقر محلي لفرقة الكونترا ووكالة المخابرات المركزية والبنتاغون. لقد شُنت واحدة من أكثر الحروب تعقيدًا ودموية ضد الثورات في تاريخ أميركا اللاتينية. لقد دمرت الحرب نيكاراغوا وقادتها إلى أزمة اقتصادية حادة. وقد ساء الدمار بفعل عمليات الكونتراس، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية في أماكن هامة مثل بويرتو كورينتو. تسبب التضخم المفرط البالغ 30 ألف في المائة سنويا في إحداث دمار في اقتصاد العمال.

بحلول عام ١٩٨٢، بدأت قوات الكونترا في تنفيذ اغتيالات لأعضاء حكومة نيكاراغوا، وبحلول عام ١٩٨٣ شنت قوات الكونترا هجومًا كبيرًا وكانت وكالة المخابرات المركزية الأميركية تساعدهم في زرع الألغام في موانئ نيكاراغوا لمنع وصول شحنات الأسلحة الأجنبية للثوار. تضررت الثورة بشدة جراء القصف الذي طال المجالات الرئيسية للاقتصاد. طالبت حكومة الساندينيستا من الجماهير تقديم التضحية في مهام الدفاع وإعادة الإعمار في البلاد. استجابت الجماهير للدعوة لكن البرجوازية قاطعت الاقتصاد. وبدلاً من اتخاذ تدابير عميقة ضد البرجوازية، مثل المصادرة العامة لأصحاب الأراضي وغيرها من الإجراءات المعادية للإمبريالية، قدمت قيادة الساندينيستا تنازلات أكثر فأكثر. استفاد الكونتراس من استياء الفلاحين الفقراء واستخدموهم لتشكيل قاعدة اجتماعية.

ثم جرت لأول مرة انتخابات في نيكاراغوا عام ١٩٨٤. أعلن المراقبون الدوليون أن الانتخابات كانت حُرة ونزيهة، على الرغم من إدانة إدارة ريغان الأميركية لها والتشكيك بها وقد فاز فيها دانييل أورتيغا (الرئيس الحالي لنيكاراغوا)،من جبهة ساندينيستا للتحرير الوطني. ثم كانت هناك مُبادرة لتسوية النزاعات العسكرية التي ابتلت بها أميركا الوسطى لسنوات عديدة وبسبب الصعوبات في هزم الثورة النيكاراغوية عسكريًا، بدأت الإمبريالية في الجمع بين الهجوم العسكري وسياسة التفاوض واتفاقات "السلام". وهكذا، في عام 1983، تم إنشاء مجموعة كونتادورا، المكونة من حكومات كولومبيا والمكسيك وبنما وفنزويلا. كان هدفهم التوصل إلى اتفاقيات "سلام" لتفكيك العمليات الثورية لأميركا الوسطى. وتم تقسيم المهام بهذه الطريقة: أن تهجم مجاميع الكونترا بالأسلحة وتتفاوض مجموعة كونتادورا في نفس الوقت بأوراقها الدبلوماسية.

في أيار ١٩٨٦ تم عقد اجتماع قمة "Esquipulas I"، حضره رؤساء أميركا الوسطى الخمسة. في ١٥ شباط وخلال عامي ١٩٨٦ و ١٩٨٧، أُنشئت "اتفاقية إسكويبولاس"، التي اتفق فيها رؤساء دول أميركا الوسطى على التعاون الاقتصادي وإطار الحل السلمي للصراعات. ثم انبثق "اتفاق إسكويبولاس الثاني" ووقعه الرؤساء الخمسة في غواتيمالا  في ٧ آب ١٩٨٧. حددت اتفاقية إسكيبولاس الثانية عددًا من التدابير لإقامة المصالحة الوطنية، وإنهاء الأعمال العدائية، وتعزيز الديموقراطية وإجراء انتخابات الحرة، وإنهاء جميع المساعدات للقوات غير النظامية، وعمل مفاوضات بشأن حصر السلاح ومساعدة اللاجئين وإجراء تحقيق دولي وتقديم جدولاً زمنياً لتنفيذ البنود. ولم توقع بنما على هذا الاتفاق، التي كانت أحد أهم القواعد العسكرية الأمريكية.

استسلمت حكومة جبهة الساندينيستا لكل هذه المفاوضات ووضعت الكونترا والبرجوازية على قدم المساواة مع الآلاف من المقاتلين والعمال والفلاحين الفقراء الذين يقاتلون من أجل تحريرهم الوطني في السلفادور بقيادة جبهة التحرير الوطنية فارابوندو مارتي. مع إيقاف أي عمل للمقاتلين السلفادوريين على أراضيها، عقدت الحكومة المزيد من الاتفاقات مع قطاعات الكونتراس، وكذلك مع البرجوازية المضادة للثورة نفسها. يبدو أن اتفاقات Esquipulas II قد تم نسيانها في مرحلة انتقال السلطة بين الرئيسين الأميركيين ريغان وجورج بوش الأب، ولكن في شباط 1989، استأنف أورتيغا المفاوضات لمناسبة اجتماع رؤساء أميركا الوسطى الخمسة في مدينة كوستا ديل سول السلفادورية.

من خلال عدم الوفاء بالمطالب الأساسية التي دعت إليها الثورة النيكاراغوية، مثل الثورة الزراعية، ومصادرة ملكية البرجوازية والتحرير الوطني، فقدت حكومة ساندينيستا مكانتها في خضم أزمة اقتصادية وتخريبية أثارتها حرب الكونترا الأميركية.

قررت حكومة نيكاراغوا تأجيل الانتخابات إلى شباط 1990 وقبول التعديلات المقترحة لعام 1988 وقبلت خطة انتخابات عامة يمكن أن يشارك فيها كل من قام بتمويل الثورة المضادة وتنظيمها بشكل طبيعي. في شباط 1990، عانت جبهة الساندينيستا من هزيمة ثقيلة من قبل الأحزاب البرجوازية حيث ترأست فيوليتا تشامورو ائتلافًا انتخابيًا ضخمًا شمل حتى الحزب الشيوعي في نيكاراغوا. أدت هذه الهزيمة إلى تسريع عملية المفاوضات، مما أدى إلى توقيع "اتفاقات السلام" في السلفادور وغواتيمالا. وكان الهدف الرئيسي وراء المفاوضات هو تفكيك ثورات أميركا الوسطى.

كانت الإمبريالية الأميركية عامل محوري في تشكيل نتائج الثورة في نيكاراغوا. على الرغم من أنها لم تنخرط في التدخل الكلاسيكي، فقد نظمت ومولت حربًا كبيرة مناهضة للثورة، أجبرت دولة نيكاراغوا الضعيفة على استخدام موارد بشرية ومادية كبيرة لمواجهتها. وعلى الرغم من وجود قاعدة عسكرية في بنما، إلا أن الولايات المتحدة بنت قاعدة جديدة في هندوراس كوسيلة لتدمير الثورة النيكاراغوية. من هناك بدأ الهجوم على نيكاراغوا ومن هناك، قُصفت الهياكل الاقتصادية الهامة مثل بويرتو كورينتو. ثم جاءت سياسة "السلام" المعادية للثورة.

ومع ذلك، من المهم أيضًا فهم الدور الذي لعبته الستالينية والكاستروية في هذا السياق، وكذلك دور القيادات القومية البرجوازية الصغيرة في المنطقة.

بذل أعضاء الستالينية والكاستروية جهودا شاقة لاحتواء ثورة أميركا الوسطى. لقد حاولوا حصر كل خطوة في إطار الدولة الوطنية التي تفرضها الإمبريالية الأمريكية. تم الاتفاق على نزع سلاح المقاتلين وإقامة الانتخابات من قبل لجان التفاوض التي شاركت فيها قيادة جبهة ساندينيستا، قيادة جيش العصابات السلفادوري تحت رعاية كاسترو والدبلوماسية السوفيتية، والحكومات البرجوازية في أميركا اللاتينية والولايات المتحدة الأميركية.

وحتى بعد سنوات من الكفاح البطولي في نيكاراغوا، الذي قُتل خلاله ما يقرب من 300 ألف إنسان، بقي النظام الإمبريالي يحكم في أميركا الوسطى. إن امتداد وانتصار ثورة أميركا الوسطى ووحدتها في اتحاد مع كوبا - كان يمكن أن يكون أحد أفظع الضربات للإمبريالية الأميركية.

 

بقلم: بشار حاتم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم