صحيفة المثقف

الشعر والشعراء

الشاعر ولا شك من المساهمين بالتجديد والتطور في المجتمع، ويندر ان نجد شعبا خاليا من الشعراء الذين يحملون راية التجديد على اكثر من صعيد. اذاً لماذا الاستخفاف بالشاعر؟ صحيح ان للشعراء احلامهم الطوباوية وعوالمهم الخيالية واوهامهم البعيدة احيانا عن الواقع، لكن ذلك لا ينفي دورهم التجديدي في المجتمع رغم انحسار دور الشعر على المستويين الثقافي والاجتماعي نتيجة لتطورات الحياة وابتعادها على مر الزمن عن الاوهام والطوباوبة. وهما التهمتان الجاهزتان للشعراء، مهما كان دورهم واهميتهم في الحياة الثقافية.

الشاعر لدى البعض ليس اكثر من رقم يضاف الى جيش العاطلين الموهومين الذين اختاروا العيش على هامش المجتمع ولا يجرؤون على خوض غمار الحياة الحقيقية والواقعية. لا نريد ان نفلسف علاقة الشاعر بالمجتمع، لكن هناك فعلا بعض الشعراء يتخذون من العزلة عن المجتمع بذرائع شتى منطلقا لهم في عالم الاوهام البعيد عن الحياة واشكالاتها وتعقيداتها الثقافية والاجتماعية والسياسية وسواها ممن ينطبق عليهم في "كل واد يهيمون يقولون ما لا يفعلون".

ليس من المطلوب انخراط الشاعر بالقضايا السياسية والاجتماعية لانه ليس سياسيا او مثقفا حزبيا وما شابه ومن الضروري التفريق بين الشاعر المبدع المجدد والشاعر ـ السياسي او ما يسمى: "البوق" لانه ليس مبدعا سواء كان شاعرا ام لا، وصفة الاوهام التي غالبا ما تطلق على الشاعر هي في الحقيقة جزء من الخيال الفعال للشاعر الذي دائما ما يكتنفه الغموض فينسب الى الاوهام او "التبطر" والابتعاد عما هو واقعي وحقيقي ومؤثر في المجتمع. ويعتبره او يصفه البعض بـ "الخزعبلات" التي لا تقدم ولا تؤخر.

وأبعد من ذلك التصاق الشعر بالكذب حتى قيل "احسن الشعر اكذبه"، ولا نعرف هل هذا ذم بصيغة المدح ام العكس، ولكنه يعكس مدى الاستخفاف وتسفيه الشعر والشعراء. وهذه المقولة وغيرها الكثير مما يشابهها، تعكس الى حد كبير النظرة الاجتماعية المتخلفة للشاعر.

بينما نجد الشاعر في الماضي كالعصر الجاهلي وما تلاه اكثر احتراما ومنزلة عما هو عليه في عصرنا، ولقب بلسان القبيلة او شاعرها وصحيفة اعلامها. ونتيجة لانتفاء الحاجة له بدأت منزلته بالتراجع ليتحول في عصرنا الى كائن شبه معزول باختياره او عدم تقبل عوالمه الوهمية وابتعاده عن الواقع الحقيقي المعاش بسلوكه واوهامه، وربما تكبره كذلك ونظرته التي لا تخلو من التعالي على المجتمع وانشغالاته.

وينسى المشنعون ان الموسيقى التي نسمعها في كل مكان، مستنبطة من الاشعار قديمها وحديثها. والاغاني التي تطربنا ونستمتع بسماعها عبارة عن اشعار ملحنة، والموسيقى دائما ما تخفف الكثير من الاعباء النفسية والحياتية للانسان. وانتفاء مهمة ودور الشاعر او وظيفته كلسان حال القبيلة في عصرنا لا تدعو الى الاستخفاف بالشعر والشعراء، او التقليل من دورهم في المجتمع، ولو كان ترفيهيا وموسيقيا في نفس الان، مع الاعتراف ان الشعر ظل يراوح بمكانه منذ منتصف القرن الماضي وستينياته بدون ان تصابه عدوى التجديد والتطور التي اجتاحت حياتنا.

وهناك الكثير من الوسائل الحديثة التي ادت الى تراجع الشعر والشعراء وفقدانهم لمكانتهم الاجتماعية، لوجود وسائل حديثة تعوض دوره المهم سابقا؛ فقد كان الشعر احد المصادر المهمة لتطوير اللغة واستنباط الجديد كمثال، ولكنه في عصرنا فقد هذه الميزة المهمة لتدني مستوى الشعراء اللغوية والشعرية، حتى اعتبرت الكثير من الاشعار عبارة عن هلوسات مسيئة للغة ومكانة الشعر في الحياة الخاصة والعامة، لكن مثل هذه الاحكام لا يمكن اطلاقها جزافا على الشعر والشعراء. ومن خلال النقد يمكن تحسين واقع الشعر واعادة لو جزء يسير من مكانته السابقة.

نحن ما زلنا بحاجة الى قراءة الشعر الجيد والتفاعل معه، وسماع الموسيقى والغناء المستنبطة منه، مما يعني اننا رغم النظرة السلبية التي تكتنف الشعر والشعراء في عصرنا، ما زلنا بحاجة الى وجود شعراء حقيقيين، لان الشعر مهما قيل عنه يبقى احد المصادر الثقافية في المجتمع، ولا يمكن ان ينتفي دوره في حياتنا مهما قل عدد قرائه ومتابعيه او تراجع الاهتمام به على المستوى الشعبي والرسمي.

لا يمكن ان نستخف بالشعراء رغم كثرة المدعين والنظامين والمقلدين، لان الشعر يبقى احد الاعمدة المهمة في الحياة الثقافية في المجتمعات كبقية النشاطات الثقافية والابداعية الضرورية في المجتمع. وجزء كبير من اللوم يقع على الشعراء انفسهم لسخريتهم من بعض وهجائهم لبعض، وصراعاتهم العقيمة لدرجة انصراف المتابعة لقسوتها وادعاءاتها ومكرها في الكتابة والشعر. وقال احد الشعراء في ذلك:

(عــاتبني الــشّعر ذا إكــاف وقال لي: االله منـك كـاف).

ولكثرة المقلد والمكرر والمنحول منه من بعضهم البعض، سواء في عصور ازدهار الشعر او وقتنا الحالي، حيث فقد اكثر الشعر رشده، واختلط الحابل بالنابل، وصار الشعر كالسياسة مهنة من لا مهنة له. ولم يعد للقب الشاعر بريقه الماضي، كما يتوهم بعض الـ"شعراء" المعاصرين. ورغم ذلك من الاجحاف تأييد مقولات مثل انحسار الشعر وهامشيته في الحياة الثقافية او تراجعه وانحسار اعداد قرائه في العراق او الوطن العربي، برغم واقعية هذه المقولات والاستنتاجات.

ويبقى الشعر مهما قيل وكتب، احد المصادر الثقافية المهمة في حياتنا الثقافية والاجتماعية، برغم عدم اجتراحه للجديد والمبتكر منذ اكثر من نصف قرن، وأحد الاعمدة المهمة في الادب، ولا يمكن الاستغناء عنه في الحياة الادبية والثقافية للشعوب وآدابها وفنونها على مر العصور، برغم ان القسم الاكبر من الشعر في عصرنا، عبارة عن تقليد فج لشعر شعراء سابقين ومعاصرين وخال من التجديد والابتكار.

ولم يسلم من المقلدين شعراء الصوفية وعوالمهم العرفانية من التشويه والاساءة على يد بعض الشعراء لاقتحامهم روحانياتها بشكل فج وسطحي ـ شعرا وفكرا ـ، لان حياة الصوفي المتقشفة الى ابعد الحدود والمجردة من الدنيا لا تنفصل عن شعره ونثره، كما لا يتلاءم هذا الشعر المقلد مع عوالم الصوفية سواء بطريقة الاداء او اللغة المرمزة على وفق عوالمهم الروحانية الخاصة. ويمكننا ان نصنف ذلك او ارجاعه الى عجزهم عن اجتراح الجديد، او خلق عوالم شعرية خاصة بهم وبعصرهم، مما يلجئهم الى التقليد، الذي لا يضيف جديدا الى الشعر المعاصر، وتميزه بمضامينه واشكاله وخصوصياته المعاصرة.

قد تنجلي تلك الزوابع من فناجين الشعراء بوقت قريب ربما، وتكشف بعد هدوئها عن شعراء حقيقيين يمثلون عصرنا وتميزه وانشغالاته وهمومه، كما كان يحدث بحقب الماضي من تأريخ الادب. ولان الشعر يبقى مهما قيل عنه رافعا راية الجمال والتجديد في حياة الشعوب والامم وتميز ثقافتها وفنونها.

والشعر ولا شك سيبقى احد الروافد الثقافية الاساسية لآداب الشعوب وثقافاتها حتى لو قل او تراجع الاهتمام به على المستوى الرسمي والجماهيري كما يحدث الان لكثرة المقلد والمكرر وعدم اجتراحه للجديد والمبتكر، المواكب لهموم  وانشغالات عصرنا الحالي ، سواء على صعيد اللغة او المواضيع او طرق واساليب الكتابة .

 

قيس العذاري

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم