صحيفة المثقف

ماركس ونظرية الإغتراب الموضوعي

محمد كريم ابراهيمتخيلْ الفيلسوف كارل ماركس في مكتبة لندن في ليلة ممطرة حالكة الظلام وهو واقفٌ بجانب النافذة ينظر إلى دخان إحدى مصانع الغزل والنسيج ويحاول أن يتخيل بدوره وضع العمال الذين يعملون فيه إلى حد الإنهاك دون تذمر. لعله يجد صعوبةً في إيجاد استعارة مناسبة لنقل فكرة التي في ذهنه إلى عامة الناس. ربما يمكنك أن تشبه هؤلاء العمال بالسائرين النائمين الذين يقولون ويفعلون دون أن يدركوا، فهم ليسوا على طبيعتهم. أو ربما تستطيع أن تشبههم بالإنسان الممسوس بالجن الذي لا يتحكم بجسده، ولا بعقله ويقوم بتصرفات غريبة خارجة عن المألوف مؤذية للذات.

أو ربما حتى بشخص تحت تأثير السحر أو المخدرات، فما يفعله ربما يكون بإرادته لكنه حتمًا خارج عن وعيه. مهما كان تخيلك وتخيل ماركس، فوضعنا ووضع هؤلاء العمال أرعب مما تتصور. نعم، هؤلاء العمال خارجون عن طبيعة البشرية، ويظلمون أنفسهم من دون أن تلتقط عقولهم أي حس بالأذى والخلل، تمامًا مثل شخص مشلول نائم، الذي تحترق أجزاؤه المشلولة دون أن يشعر بالألم. إنها نظرية «الاغتراب الموضوعي» التي امتاز بها ماركس، والتي ما زالت تحدث ضجةً حتى في قرننا الحالي.

قبل الشروع إلى شرح النظرية، يجب علينا أن نفهم ماذا نعني بالاغتراب. يعرف الاغتراب على أنه حالة الخروج من الطبيعة البشرية، سواءًا كانت تلك الطبيعة موروثة أي وراثية وجينية أم مألوفة أي شيء تعود عليه الإنسان. مثال على الاغتراب الموروث هو انعزال الإنسان عن المجتمع، إذا اعترفنا إن التواصل مع الآخرين والاجتماع معهم أمرٌ لا بد عنه ومن طبيعة الإنسان. ومثال على الاغتراب المألوف هو موت فرد من عائلة الإنسان الذي تألف على وجوده.

الاغتراب الموضوعي هو نوع من أنواع الاغتراب الذي يصيب الإنسان من دون أن يشعر به أو يعي بوجوده. لذلك يسمى أيضًا بالاغتراب غير المحسوس أو بالاغتراب اللاواعي، وكونه غير محسوس يعني أنه يسبب مشكلة كبيرة على الفرد وعلى المجتمع، لأن الشخص أو المجتمع المغترب لا يحاول أن يغير شيئًا من تصرفاته أو أفكاره ليتخلص من هذا الاغتراب كونه لا يشعر به. فيظل في حالة اغترابه ويفعله نفس الأفعال والأقوال. ولأن جميع الاغترابات المألوفة يكون محسوسًا ويمكن للإنسان الشعور به ومحاولة صده والتخلص منه، إذًا يقتصر الاغتراب الموضوعي على الخروج من طبيعة الإنسان الموروثة فقط.

رأى ماركس أن المصانع بنظامها الرأسمالي ينتهك على الأقل واحد من الطبائع البشرية الموروثة. ألا وهي طبيعة التجسيد المادي للهوية الإنسانية؛ ظن ماركس أن الإنسان بطبيعته يحب أن يعبر عن هويته بإنتاج أشياء محسوسة محددة بعمله. مثلًا، يمكن للحداد أن يؤشر على السيف الذي صنعه كامتداد لهويته وشخصيته. فهنا أصبح هوية الحداد شيئًا محددًا محسوسًا يمكن للجميع أن يراه بما في ضمنه هو، فيشعر بالفخر واللذة والانتماء إلى طبيعة الذات. بمعنى آخر، إن الطبيعة العقل البشري يحاول بقدر الإمكان أن يحول الفكرة الموجودة في عقله عن هويته ونفسه إلى واقع ملموس وإلى شيء مادي يمكن الإحساس بها من خلال الحواس الخمس. هذه الطبيعة الممنوحة، في رأي ماركس، انتزعت من العمال الذين يعملون في المصانع والشركات في النظام الرأس المالي لأنهم جبروا على التصرف بأفعال غير معلومة الهدف فكر في المرأة التي تقوم بوضع الغطاء على زجاجة الحليب أو ذات فائدة للفرد غير ملبية للراحة النفسية والفخر والانتماء التي يشعر بها الإنسان عند إكمال عمل معين. كذلك لا يرى الإنسان نفسه في ذلك المنتج النهائي، لأنه لا يملكه هو ولا العمال الذين عملوا معه في إنتاجه، بل يعود الفائدة في الأخير لمالك المصنع، وهو يقرر ماذا يفعل به.

يجب عليك أن تفهم إن هؤلاء العمال لا يدركون مدى الظلم الذي هم فيه، فإن عقولهم لا يعي انتهاك الذي يحصل لطبيعتهم الإنسانية. لذلك لا يقوم هؤلاء العمال بعمل أي شيء بشأنه، بل ربما سوف يعارضون الأشخاص الذين يدافعون عن حقوقهم بسبب تألفهم على تلك الحال وامتناعهم عن التغيير إلى حال لا يعلمون عاقبته. إذًا يبقى على الأفراد الآخرين الواعين لكي يرجعوا هؤلاء العمال الضالين الغافلين إلى صراط البشرية. رأى ماركس أن النظام بأكمله يجب أن يتغير لأنه هو السبب في جعل البشر مغتربين عن طبيعتهم، فيجب على المجتمع أن يقوم بثورة ضد النظام الرأسمالي ويقضي عليه ويبدله بنظام أقرب إلى الطبيعة الإنسانية.

بالابتعاد قليلًا عن أهداف ماركس. ربما بدأت يا عزيزي القارئ بإدراك تأثير هذه النظرية في عصرنا الحالي، بات الأمر لا يقتصر على العمال فقط، ولا على النظام الرأسمالي. فكم قانون من قوانين الحكومية يخرجنا عن طبيعتنا البشرية، وكم من عادة وثقافة اجتماعية يمنعنا من التعبير عن طبيعتنا الموروثة، وكم من أشخاص يقفون عائقًا للوصول إلى طبيعتنا المرغوبة. فكر في القوانين الجائرة التي تسجن الثائرين والمنتقمين، علم النفس يعترف الآن إن الغضب والرغبة في الانتقام هو من طبيعة الإنسانية الجينية. فكر في عادة إسكات الآخرين عند تذمرهم عن شيء ما، يعلم العاقلون السامعون أن ما يتذمرون عنه هؤلاء الأفراد ربما هو شيء يؤذيهم ويؤذي حتى المجتمع، فهم يشكون إلى المجتمع لكي يتخلصوا منه كما يشكي الجرح للعقل بالأذيةِ.

غفلة دماغ الفرد عن هذا الاغتراب هو أساس سكوته ورضاه بالوضع الذي هو فيه. فالإنسان في هذا نوع من الاغتراب ولد في عالم من الاغتراب وتبرمج عقله على التعود والتعايش مع الاغتراب، فلا يعلم ما الجيد وما الطبيعي الذي يفتقده لأنه لا يدرك حتى بوجوده. حالهم يشبه حال ماء راكد في بقعة ما على ضفة النهر يرفض الجريان مع طبيعة مجراها. ولكي يرجع إلى أصلها وطبيعتها، يجب علينا إزالة العوائق التي تمنعها من العودة والجريان مع باقي مياه النهر، ربما يكون هذا العائق الطين أو الأرض التي حولها أو عمق حفرة التراب التي تحتها، لكن مهما كانت، يجب أن يقوم المياه الجارية بالثورة أو بالتغيير للتغلب على هذه القيود والعوائق من أجل تحرير الفرد وإرجاعه من الاغتراب إلى مكانه الطبيعي الصحيح. وكما نعرف فإن هذا يحتاج إلى أشخاص واعين ومدركين ويعرفون مجرى الطبيعي للإنسان لكي يوقظوا العامة أو الأفراد غير المحسوسين من هذا الاغتراب. فهم الوحيدون الذين يمكنهم مساعدة هؤلاء المغتربين.

 

محمد كريم إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم