صحيفة المثقف

القراءة باعتبارها انكشافا للنص

نابي بوعلي (يفترض في النص أن يحتوي على معنى قار وحقيقي ونهائي، أي أنه يعبر عن الحقيقة ويحتوي عليها، ومع ذلك، فإن الحقيقة ليست معطاة سلفا، ولكن كثيرا من النصوص تحتاج إلى تأويل لاستنباطها، ولذلك تعددت مدارس التأويل واتجاهاته عبر القرون).. بول ريكور

1 - القراءة بوصفها وضعا إشكاليا للنص:

لنجعل من المقولة السابقة لـلفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005) مدخلا لهذا المقال، وهي المقولة التي تنفتح في إحدى قراءاتها على مفارقة غريبة، تجعل النص في وضع يلفه الالتباس، وتطرح عليه في الوقت نفسه مشكلات عديدة، وهو ما يجعلنا نتساءل: كيف يحمل النص الحقيقة ولا يحملها في الوقت نفسه؟ وإذا كان المعنى قارا وحقيقيا ونهائيا في النص فلماذا لا يكون جاهزا للفهم المباشر؟ لماذا يصمت النص عن البوح بالحقيقة ولماذا يتطلب جهدا تأويليا لاستنباطها؟ هل يظل النص مراوغا لأن الحقيقة تقع خارج أسواره؟ لماذا يتعدد النص بتعدد القراءات وينفتح على آفاق الإمكان في كل لحظة يتم الاقتراب منه؟ هل يمكن الإحاطة  بمحتوى وحدود أي نص فهما وتأويلا؟ وأخيرا لماذا نجد في الهامش والمهمش والمنسي أشياء مهمة ذات دلالات معبرة عن حالات الصمت في مسيرة النص؟

في البداية ودون حشد للتعاريف الكثيرة الخاصة بالنص، فإنني أعمد إلى هذين التعريفين اللذين يشيران إلى النص المكتوب القابل للقراءة، حيث يعرف قاموس الألسنية الذي أصدرته مؤسسة لاروس (النصّ) على النحو التالي :"إن المجموعة الواحدة من الملفوظات، أي الجمل المنفذة، حين تكون خاضعة للتحليل، تسمّى: نصاً، فالنص عينة من السلوك الألسني وإن هذه العينة يمكن أن تكون مكتوبة، أو محكية (du bois,J ,1999, P: 482). ويعرفه بول ريكور:" لنسمّ نصّا كل خطاب ثبتته الكتابة... تسجيل يضمن للكلام ديمومته بواسطة خاصية النقش الدائمة"(ريكور، ب،2001: 105).

وإذا كانت التعاريف السابقة لا تثير أي قلق معرفي أو إشكالي يومئ إلى أن النص يضمر أكثر مما يقول، فإن الواقع مخالف لذلك تماما، حيث تضعنا مقولة بول ريكور السابقة في صلب الإشكالية الجدلية للنص بين الإفصاح والصمت، بين الظاهر والباطن، بين الحضور والغياب. من هنا يتحدد النص بوصفه فضاء واسعا من الدلالات يجب فك رموزه، ولذلك ليس المهم ما قاله النص، وإنما الأهم هو ما لم يقله. وبناء على ما سبق تتركز الجهود في فعل القراءة من حيث هي محاولة تملك النص على ما يقبع وراء السطور وخلف الكلمات، وبحثا في أماكن الظل وعلامات الاستفهام، والهامش، والمسكوت عنه... وفي هذا الصدد يقول علي حرب:" مثلا. أنا إذا أقرأ قصيدة من قصائدك يا صديقي الشاعر(يقصد الشاعر إسماعيل فقيه الذي أجرى معه الحوار، وقد نشر هذا الحوار على حلقتين في جريدة النهار البيروتية بتاريخ 22و23 تموز 1992)، أحاول البحث عن معنى ما تقوله، وأعني بمعنى القول ما لا يقوله، وهو برأيي الأهم، لأنه الشيء الذي يخفيه القول وينبني عليه. وبهذا المعنى فأنا أقرأك لأكشف لك ما لم تكشفه أنت بذاتك"( حرب،ع، 2005: 264). ولكن كيف يمكن أن نقرأ ما لم يقله النص؟

 ينطلق أنصار هذا التيار من مسلمة مؤسسة على أن النص يكون ممتنعا عن الفهم منذ الوهلة الأولى، حيث لا يمكن إدراك معناه بالسهولة والوضوح المطلوبين، مما يجعل القارئ لا يطمئن إليه، بل بالعكس، يجد القارئ كل فهم للنص يدفعه إلى التساؤل من جديد حول طبيعة الفهم الذي توصل إليه، لأن المعنى الفوري أو المعنى الحرفي للنص، الذي يتبادر إلى الذهن ليس هو المقصود في ذاته في معظم الأحيان، بل هو مجرد إحالة على معنى آخر، يحيل بدوره إلى معنى آخر. هكذا تستمر المغامرة في البحث عن المعنى الخفي والبعيد، فخلف الحقائق الظاهرة المعروفة توجد دائما حقائق باطنية مخبأة لا تزال غير معروفة في حالة صمت، تنتظر من يميط عنها اللثام. لقد أضحى الصمت الذي يلازم النص، هو الفضاء المفضل للاشتغال عليه في الفلسفة التأويلية المعاصرة، وبدأ يتصدر واجهات الفكر الفلسفي بحثا عن المعنى الغائب والمغيب. حسب بول ريكور، فإن النص ظل يشكل بؤرة الاهتمام لفلسفة التأويل عبر القرون، وهو الانشغال الذي أفردت له تلك المدارس حيزا مهما، عبر جدل السؤال وآليات القراءة، التي فتحت أفقا لمسوغات التأويل والحفر والتفكيك للوقوف على ما سكت عنه النص لاكتشاف دلالات الصمت والتغييب والحجب والمراوغة والإلغاء والنفي والإبعاد والطمس والتشويه...حيث لم يقتصر الأمر على النصوص الدينية وإنما امتد ذلك إلى كل النصوص التاريخية والقانونية والأدبية. تلك هي إذن المسافات البعيدة التي تظل محل اختراق وتجعل قراءة النص ممكنة ويبقى على القارئ اكتشافها لتفعيله لمواجهة المشكلات في شكلها الراهن. إن هذا التوجه في الوقوف على دلالات الصمت يفرضها منطق الانزياح عن قراءة التطابق والتماثل، والعبور نحو فضاء الاختلاف والتعدد والتغاير بحثا عن قراءة تأويلية إبداعية ثانية في مستوى ما وراء المباشر والمعطى والجاهز، بمعنى البحث في مساحات الغياب داخل النص، من حيث هو معان فائضة ودلالات متدفقة لا تتوقف عن التوالد بحكم خضوعه للصيرورة التاريخية والجدل القائم بين النص والقارئ. وتكمن أهمية النص وفاعليته فيما يحدثه من وقع وآثار ونتائج تسهم في تأسيس التاريخ في الزمن الآتي المستقبلي.

إن عملية تأويل النص ليست فعلا معزولا عن السياقات الاجتماعية والثقافية والأحداث التاريخية، التي تمثل المشهد العام للمجتمع في حراكه المتواصل، وبالتالي فإن لكل نص بواعثه وأسباب وجوده وظروف ميلاده ومقاصده، هي التي تشدّ انتباه القارئ، وتوجه فكره مثل: استحداث مساءلات داخل النص لإعادة تنظيم الوجود... إعادة ترتيب الحقيقة... إعادة إنتاج تجربة الإنسان في العالم... استكشاف مضامين النصوص المقفلة وردها إلى الظروف الخارجية التي ساهمت في إنتاجها....اكتشاف العناصر التي تحاول تجريدها من الواقع...تلك هي بعض الدواعي التي تدفع باتجاه تحريك النص، وتجعله منفتحا على القراءات المتعددة، متى يحضر القارئ.

إن تاريخ التأويل حافل بالأمثلة على ذلك، فقد كان المشكل الأساسي الذي دفع  الفيلسوف واللاهوتي الألماني فريدريك شلايرماخر، هو العمل على وضع نظرية عامة للتأويل وفهم النص لحمايته من سوء الفهم، حيث أكد هذا الأخير بأن عملية التأويل تبدأ عندما يحدث سوء الفهم للنص، أو عندما يبدو أن النص صار غير مفهوم بمرور الزمن. وفي ظل التفاعل القائم بين النص والقارئ تنشأ تصورات وتتولد إشكالات جديدة تخترق حدود النص المعروفة وتتجاوزها إلى فضاء العوالم الرمزية التي يلفها الغموض وتحوم حولها الشكوك لكشف المحجوب وصولا إلى المعنى الغائب المستتر خلف كلمات النص، أو بناء معرفة جديدة استنادا إلى حيثيات النص. وهكذا يظل النص مفتوحا مما يخلق في القارئ بؤر توتر وهواجس تدفعه إلى تحفيز النص ليقول المزيد. ولذلك يظل النص ملهما لأسئلة متواصلة تثيرها تأويلات القارئ، التي لا تجد لها أجوبة جاهزة في كل مرة. وبالرغم من أن فن التأويل ارتبط في بدايته بدوافع تفسير النصوص الدينية المقدسة إلا أنه امتد تدريجيا إلى حقول معرفية جديدة، وانسحب بالتالي على النصوص التي كانت خارج اهتماماته، وبتوسيع خطابه اكتسب أبعادا دلالية في مدارس التأويل الفلسفي المعاصر. وازدادت أهميته الفلسفية تبلورا في أوساط الباحثين خاصة مع قراءة النصوص وإعادة إنتاجها وفتح حوارات خصبة معها. وقد عزز هذا المسعى فرضية مفادها أن النص ينطوي على طبقات متعددة من المعاني غير منتهية تكشف عنها القراءة عبر الصيرورة التاريخية للوجود الإنساني. لقد وجد الإنسان أمامه العديد من نقاط الاستفهام في النص التي تتحداه، وفرضت عليه إعادة قراءة الموروث الثقافي والتاريخي. يقول نصر حامد أبو زيد:" قراءة التراث وتأويله في ضوء مشكلات الواقع والراهن وهمومه تمثل إحدى الهموم الفلسفية في الفكر الإنساني المعاصر"( أبو زيد نصر، ح،2000: 173،). لقد شكل البحث عن الحقيقة الغائبة والمغيبة أحيانا في النص هاجسا قويا بالنسبة للقارئ، واستحوذ على تفكيره من أجل استخراج المعاني المبثوثة في النص وإزالة غموضها، واستنطاق ما هو صامت حتى تصبح واضحة قابلة للتبليغ، دون سوء فهم في صورة من الشفافية والصفاء. ولكن ما الذي يجعل المعاني غير واضحة؟ إذ من المفروض أن المؤلف يكتب من أجل أن يكون خطابه مفهوما، وليس من أجل أن يترك مساحات الفراغ، التي تحفز التساؤلات وعلامات الاستفهام؟

إن مساحة الفراغ المتعمدة أو غير المتعمدة هي التي أدت إلى تناسل المفاهيم والمترادفات التي تحيل بدورها إلى ظاهرة الصمت التي تطبع النص. لقد انتشرت مفاهيم في الحقل التأويلي مثل: المسكوت عنه... اللامفكر فيه... اللامنطوق... اللامتحقق... المتحجب... الغائب... المطموس... وغيرها من المفاهيم الأخرى. في هذا الوضع صار ينظر إلى النص بأنه فضاء للمعاني المتحجبة والمشفرة، وبالتالي يبقى مرشحا للتأويل من خلال فعل القراءة المركزة المجددة للنص، بعيدا عن القراءة الاستهلاكية السطحية التي لا هدف لها سوى المتعة. إن القارئ الواعي يمكنه النفاذ إلى أعماق النص ليكتشف المعاني المبثوثة المتوارية تحت طبقاته. هناك اعتقاد يقوم على افتراض أن هناك دائما الأفضل والأجمل والأسمى، الذي يمكن للعقل البشري أن يقدمه في بناء معارفه وتصوراته، لأن العقل ليس بنية نهائية مغلقة بلغت حد الاكتمال وأغلقت نوافذ الفهم وأبواب التأويل. هكذا نكتشف المضامين الجديدة للقراءة في تحريك النص، من حيث هي إبداع لمعاني غير منتهية وتحفيزها على الظهور. ولا يتحقق ذلك  إلا بفضل الحوار مع النص وفك مغالق الأسئلة المحرجة، لأن كل قارئ يحيل النص إلى مرجعيته المعرفية الخاصة. لكن ذلك لا يحول دون منح النص فرصة ليقول المزيد ويكشف عن الخفي. ومن الخطأ الجسيم أن نثبت معنى وحيدا لنص باعتباره فهما نهائيا، ونختم على روحه ونقتله في معنى يتيم، فذلك يتناقض مع طبيعة النص المفتوح على القراءات المتعددة، وهذه خاصية جديدة طبعت النصوص فيما بعد الفلسفة البنيوية. وهو ما يقودنا إلى الحديث عن علاقة القارئ بالنص.

2 - جدلية الضيافة / القارئ والنص

القراءة نافذة التواصل مع النص، والفعل الملموس الذي ينتهي إليه مصير النص. لا يهم من يحلّ ضيفا على الآخر، هل النص هو من يستقبل القارئ أم القارئ هو من يبادر إلى دعوة النص ويرحب به؟ إن النتيجة في النهاية واحدة، حيث يتم اللقاء بينهما عبر وسيط اللغة، فيكون النص نقطة الالتقاء بين القارئ والمؤلف في عملية تبادلية، وعلاقة حوارية تجعل القارئ يستأنف معاني النص ويعيش أفكار المؤلف، من خلال النفاذ إلى نفسيته. يمكن القول أن النص ميت من دون تنشيط القارئ له. من هنا نعتبر النص وجودا متعلقا بوجود آخر هو وجود القارئ لتتبلور بعد ذلك بشكل واضح عملية التركيز على علاقة القارئ بالنص. ولهذا فإن النص منذ تشكله، لا يجد لحظة اكتماله إلا في الصيرورة التي تربط بينه وبين القارئ في أي زمان وفي أي مكان، بمعنى أن النص موجود من أجل القراءة حتما وإلا فما الفائدة من كتابته أصلا؟ ثم إن النص يمكنه تجاوز الحدود الزمانية والجغرافية، ويعبر الهويات الثقافية من خلال أعمال الترجمة من لغته الأصلية إلى لغات أخرى. إن الترجمة تزيد من حظوظ النص في الانتشار والعيش في بيئات ثقافية مختلفة، وتمنحه فرصة التواصل مع حضارات وأقوام بعيدة. وكم هي النصوص التي قدر لها أن تحيا خارج محاضنها الأصلية بفضل التدوين والشرح والتفسير والتأويل. إن التأويل من حيث هو فن الفهم، يصبح ضروريا ومشروعا كل المشروعية للوقوف على مقاصد النص. وتحقق فعل القراءة يرتبط أصلا بالقارئ الذي يتفاعل مع النص ويتعامل معه بطريقة ودودة"فالنص، كما يشير إلى ذلك تودوروف، بمكر(مستندا إلى ما يقوله شولمبرج عن بوهوم)، هو نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القراء بالمعنى"(إيكو، أ،2000: 22). حينما يتجول القارئ من خلال النزهة التي يقوم بها عبر تضاريس النص، كما يرى تودوروف، فإنه يتجول بفكره في متون النص والكلمات وأبعادها ودلالاتها، في صورتها وفي ظلالها، ولاسيما تلك النصوص ذات الطبيعة الإيحائية والموغلة في التجريد والمجاز، يشعر أن حقيقة ما تكمن وراء الكلمات، فيسعى إلى اكتشاف مقاصد النص المؤسسة لحمولته الفكرية، وتوجهاته الإيديولوجية والسياسية المتوراية خلف الألفاظ، التي ساهمت في تشكل النص وميلاده وتبرر وجوده واستمراره وسلطته،" إن للكتابة ما وراءها، ولأقل إن لها بعدها السلطوي، والمعارك الأدبية أو الفكرية إنما هي صراع على السيطرة والنفوذ أو من أجل انتزاع المرجعية...لا شك أن هذه المعارك تشكل صراعا بين وجهات نظر أو بين منظومات تأويلية مختلفة، ولكن إغفال الجانب السلطوي هو طمس لحقيقتها"(حرب، ع، النص،2005: 268) وإذا كانت القراءة هي انكشاف النص، إلا أن ذلك الانكشاف الذي يحكم النص يمثل طاقة تحريض تجعل النص على استعداد لأن يقول أكثر مما يظهر، وهذا ما يسمح للقراء على الدوام من أن يتفاعلوا معه، ويستنبطوا منه دلالات جديدة من اللغة المرمزة من جهة، ومن جهة أخرى الوقوف على الرهانات التي تخضع لها عملية إنتاج النص والتي تشكل البنية الغائبة للمعنى.

تتباعد المواقف، وتتباين الرؤى في قراءة النص، للبحث عن الأسرار المطوية ومطاردة المعنى الهارب الذي يمارس التخفي في أشكال وسياقات يصعب حصرها. لأن المعنى يصعب القبض عليه جاهزا داخل قفص اللغة، بل إن حضور القارئ هو الذي يبث الروح في النص لإعادته إلى الحياة من جديد. إن تلك المهمة تقتضي القضاء على غربة النص بإزاحة الظلال عن أبعاد الكلمات، وإزاحة الغشاء الذي يصيبها خاصة إذا اتسع الفارق الزمني مما يجعل الآفاق تتباعد، وهنا بالضبط ينشأ التوتر لدى القارئ لاستحضار الماضي الثقافي رغم بعد المسافة الثقافية بينهما. وبالمقابل فإن النص نفسه ستتسع مدلولاته بتعدد القراءات التي توظفه بخلفيات إبستيمولوجية وفلسفية ودينية وإيديولوجية مختلفة، مما يجعل المعاني مفتوحة لتحوز دلالات جديدة. إن النص من حيث هو خطاب موجه إلى القارئ، يحتاج دائما إلى تفهم من خلال المصاحبة اللغوية لكي ينفذ إلى الإدراك، ومن هنا نفهم أنه ليس خطابا مكتملا يملك سائر المقومات التي تكشف عن أسراره مباشرة، فهو في حاجة إلى القارئ ليتكلم على لسانه، وبالتالي فإن القارئ يسعى من خلال التأويل إلى إكمال النص، وتوضيح ما كان متروكا بلا وضوح داخل النص أيضا. ومن هنا رأى رولان بارت أن القارئ يتحول إلى منتج للنص، وعنصر فعال يشارك في عملية صياغته، ولو بطريقة ثانوية غير مباشرة. وبهذا ينفي رولان بارت السلبية عن القارئ ولا يعتبره مجرد مستقبل ومستهلك لغوي للنص لتتأكد بشكل واضح مركزية القارئ باعتباره الغاية المقصودة من وراء إنتاج كل نص مكتوب. فهو غاية الكتابة وبغيره يصبح النص مجهولا، بل في حكم العدم.

يحمل النص في ذاته مقولة الإمكان أمام ممارسة التأويل، وفحوى مقولة الإمكان تكشف عن معاني في النص ليست متحققة، بمعنى أن النص يتضمن بالإضافة إلى أبعاده ومعانيه الواضحة أبعادا ومعاني أخرى متخفية لم تتكشف بعد، وهي في حالة انتظار القارئ الذي يكشف عنها الغطاء. ولا يتم ذلك بطبيعة الحال إلا إذا توفرت الظروف المناسبة لتحقيق فعل القراءة بطريقة جيدة، تسمح بدورها بتأويل جيد يكشف إمكانيات النص اللامحدودة، التي كانت مستترة ومحجوبة عن الناس، وعن العالم حتى تصبح في متناولهم. والتأويل يكون مشروطا برؤية فكرية للعالم والأشياء تسبق عملية التأويل في ذاتها وتؤطرها. هذه التجربة الجدلية بين القارئ والنص تجعل كلاهما يتعلق بالآخر، فالقارئ كذات فاعلة مؤثرة في النص لاحتواء مقاصده ودلالاته للاستفادة منها من جهة، والنص بمحتوياته اللانهائية تدفع القارئ إلى استجلائها من جهة ثانية. فهذه العلاقة بالذات تشكل الخيط الرابط بين القارئ والنص. ثم إن إعادة قراءة النص لا تؤدي إلى سوء فهمه بقدر ما تمنحه قوة وتعيد تأسيسه على أسس جديدة يكتسب من خلالها فضاء ممكنا ويحطم سائر الحواجز المعيقة له في فضاء التداول.

لا الشك أن النصوص التاريخية تحجب وتشوه الكثير من الحقائق لأسباب عديدة منها على سبيل المثال القمع الفكري والاضطهاد السياسي وتوسيع دوائر الظلم النازل على الناس. يتضح ذلك في محاولات تحريف الديانات السماوية" وليست المسيحية التي أنزلها الله على نبيه عيسى عليه الصلاة والسلام هي التي شرعت للنصارى في العصور الأولى أو الوسطى هذه التعاليم الهمجية المتعطشة إلى السفك والهلاك، فالمسيحية الحقة قد تبخرت بعد وفاة عيسى بأمد قليل. وقد حاول بعض الأتقياء والمنصفين أن يعيدوها إلى أوضاعها الصحيحة(كآريوس) وأتباعه ففشلوا وأبيدو... وتولى زمام الديانة المشوهة أقوام انقسموا على أنفسهم في فهم عقيدة التثليث، ولعن بغضهم بعضا، ونصبوا لأنفسهم المشانق والمحارق، وعانى العالم من تعصبهم وتشفيهم من خصومهم الويل الكبير"(الغزالي،م، 2005: 91).

تسمح قراءة النص للقارئ بتفكيكيه، وهو ما يجعله يستنبط معاني جديدة لم تكن لتكشف عن نفسها تلقائيا" إن القراءة هي التي تمنح الوجود الحقيقي للكتابة التي تظل قابعة بين الأوراق، مستقرة في زوايا الظلام الذي يشبه العدم، إلى أن يجيء القارئ ـ وبأي مفهوم ـ فيزيح عنها الظلام، وينفض عنها ما كان علق بها من غبار: فتشرق وتنمو وتزهو"( مرتاض، ع المالك، ب ت:175-176).

إن حقائق التاريخ تتأكد من خلال القراءة والفحص الدقيق وإعادة القراءة، ولولا عملية الحفر المتواصلة في النصوص القادمة من الماضي، فإنها لا تهتز ولا تتحرك من تلقاء نفسها، ولكنها تتفاعل دائما مع فعل القراءة وتكشف عن المعاني التي كانت ربما غائبة حتى عن كاتبها. وفي هذا المنظور ذهب البعض إلى الاعتقاد أنه يمكن للقارئ أن يضمن النص معان جديدة لم تكن لتخطر على بال صاحبه ويفهم النص أحسن مما فهمه صاحبه. وهكذا بفضل القراءة يمكن استخراج المعنى المحتمل لنص غامض، وتصور معاني جديدة قد لا يكون المؤلف قد فكر فيها أصلا، وهذه المعاني تتوالد في ذهن القارئ نتيجة التقاطع بين النص من جهة، وتجارب القارئ وتراثه الشخصي وواقعه الاجتماعي من جهة ثانية.

وبالرغم من أن النص يتأطر في سياق لغوي رمزي، وفي واقع اجتماعي ثقافي، إلا أنه غير قار في الإطارات الثابتة التي تمنحه اللغة إياها، بمعنى أنه غير جاهز للفهم المباشر، فكلما كان النص قادرا على التعبير عن مشكلة وجودية تخص الإنسان كلما امتلك روحا جديدا، تمكنه من الاستمرار في الحياة، بينما النصوص التي استنفدت هذه الخاصية هي نصوص تستمر في الوجود دون أن يستدعيها الموقف الراهن. ويمكن القول أن عملية القراءة هي مراحل متتالية يمر بها النص ليصل إلى مرحلة النضج الذي ليس نضجا نهائيا بمعنى الاكتمال، وإنما يعني نضجا في سياق ثقافي وتاريخي ما، له حدوده المعرفية وأطره النظرية والابيستمولوجية. يترتب عن هذه الفكرة أن النص ينتعش باستمرار، حيث يدفع به القارئ إلى الحركة، وحيث يوجد تأويل توجد حقيقة مؤقتة آيلة إلى التغيير حتما. هكذا تنقشع صورة الحقيقة الغائبة تدريجيا ونسبيا أمام القارئ. إن قراءة النص هي فعل فهم جديد وتفاعل القارئ مع محتويات النص، ومع متغيرات الواقع التي لا تتوقف، وهي في الوقت ذاته تفاعل مع الذات التي تقرأ النصوص المختلفة، وتعيد إنتاجها، عبر عملية استنطاق منهجي ومعرفي وإجرائي لطبقات النص بحثا عن الحقيقة المفترضة في حوار مع النص، الذي يكتسب أعمارا جديدة بفضل القراءة والتأويل. النص يولد ويتحول في الزمن ويحيا  بفضل القراءة وإعادة القراءة التي تجعله يعود إلى سن الشباب.

يتغذى القارئ من النص ويغذيه بالمقابل، يبث فيه المعنى والروح من خلال التفاعل معه، فلقد كانت الدراسات النقدية السابقة وإلى زمن قريب، تعطي الأولوية للمؤلف مضحية بالقارئ، على اعتبار أن المؤلف يشكل العمود الفقري والركيزة الأساسية في العملية الإبداعية والنقدية. إلا أنه مع تطور الدراسات اللغوية وظهور مناهج النقد في القرن العشرين اتضح أن ذلك الموقف كان مجانبا للحقيقة، ومن ثم تحول مركز الاهتمام إلى القارئ بدل المؤلف، ومنحت له الحرية التامة في تفسير النص، ليكشف الغطاء عن معاني النص المحتملة أو المغيبة، مما وفر قاعدة لاتساع دائرة التأويل الايجابي البناء، حيث انفتحت آفاق جديدة لتعدد القراءات.

لا ننكر الوظيفة الإيديولوجية في عملية إنتاج النص، لأنها ترتبط بالمجال الإنساني الغامض والمعقد، ذلك المجال الذي يتقاطع فيه المعرفي بالإيديولوجي، والثقافي بالسلطوي، مما يجعل الحياد المطلق الذي يفترض أن يحكم الكتابة أمام مساءلة كبرى، حيث تتدخل مؤثرات مختلفة ذات مرجعيات متباينة في قوة وسعة التأثير، فالنص ينجز ضمن شروط معطاة، وسابقة أحيانا، وهي الشروط التي تتحدى المؤلف، وتشكل رهانا حقيقيا، واختبارا له. إن المعادلة الشخصية للمؤلف وثقافته الخاصة، والطبقة التي ينتمي إليها، وروح العصر الذي يعيش فيه، كثيرا ما تتدخل لتحجب الحقيقة عن الأنظار، أو لتوجهها نحو وجهة معينة. وكم هي الحقائق التي انزوت في التاريخ نتيجة الإهمال والتقاعس، وحسابات خارجة عن نطاق العلم والموضوعية. لا شك أن الأهداف المسبقة تكيف بشكل كبير عملية الكتابة وتوجه مسارها مع مصالح اجتماعية وثقافية ذات أهداف محددة. وعلى سبيل المثال نجد كل تدوين للتاريخ وكل تفسير له، أو لأية وثيقة تاريخية، يكون محكوما باهتمام المؤرخ وقناعاته، لأنه يتحرك في فضاء معين يملي عليه أسئلة الفهم ويوجهها ويؤطرها في نفس النسق والاتجاه. ولكن من جهة وعلى الرغم بإقرار الوظيفة التحريفية للايديولوجيا إلا أن ذلك لا يمنع من القول أن الذاتية والأحكام المسبقة ضرورية للفهم، ولمنع النص من سوء الفهم، ومن ثم ينبغي أن ننفتح على النص من دون أن نقحم بطريقة تعسفية معتقداتنا وأحكامنا القبلية، ونقولب النص في إطارها. إن تفاعل الذات والموضوع في النص لا ينفصلان أمام الخيوط المتداخلة للنص، حيث يصبح منطق التعامل مع النص، مبني على اعتبارات إيديولوجية، وحسابات خارج إطار الموضوعية. هكذا ندخل عتبة تزوير وتزييف الحقائق مما يخل بمصالح الحقيقة العلمية. إن مشاعر المؤلف تتسرب إلى النص، كما أننا حين نتوجه نحو النص، فإننا لا نفهمه بعقل فارغ تماما، بل نفهمه انطلاقا من محددات سابقة عن هذا الموضوع تملأ علينا لحظة الوجود الحاضرة ومشروع المستقبل المأمول، لأن انصهار هذه الآفاق الزمنية تدعو بعضها بعضا. فمسألة التأويل البريء للنص وبعده عن أي تحيز، والاعتقاد بوجود قراءة تدعي الحياد والابتعاد عن المؤثرات الخاصة هي مجرد ضرب من الفشل المسبق. فالنص من حيث هو رمز يحمل تشعبات الوجود الإنساني وامتداداته، لا يمكن قراءته في أفق خال من خبرات القارئ وتجاربه الشخصية، ولذلك لابد من الحديث عن التحام الآفاق وانصهارها. إن الأفكار المسبقة والمشاعر الشخصية وجميع مظاهر الخبرة لا يمكن قمعها بمثل هذه البساطة التي يتصورها البعض، بل بالعكس تماما، فهي التي تهيئ عملية الفهم والظروف المناسبة لهذا اللقاء بين النص والقارئ. لا يمكن فهم النص دون حشد من الأفكار المسبقة، فلحظات اللقاء والانفتاح على النص لا تحدث بمحض المصادفة، وفي فراغ من دون مقدمات سابقة على هذا اللقاء الذي تمهد له. لقد عبر جورج هانس غادمير عن حقيقة التحام النص بمفسره أحس تعبير، عندما أعلن بصورة قطعية أنه يستحيل الفهم دون إقحام الأحكام المسبقة للمؤول كشرط أساسي وضروري لعملية الفهم، وإدراك المعنى" لأن أفق المعنى الذي يقف داخله النص، أو العقل التاريخي تتم مقاربته من داخل الأفق الشخصي للمرء، فالمرء عندما يقوم بالتفسير لا يترك أفقه الخاص وراءه، بل يوسعه بحيث يدمجه بالأفق الخاص بالنص أو الفعل"(مصطفى،ع، فهم الفهم (مدخل إلى الهيرمينوطيقا)، 2003: 163). من خلال تفاعل النص بالقارئ  تبرز حقائق النص وتتضح، ولذلك لا بد من الالتفات إلى السؤال الذي يطرحه القارئ على النص. من هنا يمنح التأويل القارئ هامشا من الحرية ضد الأنساق الدوغمائية التي تسيج العقل وتعتقله داخل خطابات متصلبة غالبا ما تكسوها مسحة إيديولوجية بعيدة كل البعد عن الحقيقة. حيث يقوم القارئ بملء الفراغات لإنضاج النص وإكمال غير المكتمل، ولكون النص مفتوحا فإنه يقبل تعدد القراءات بالضرورة. فالنص وهو يدخل عالم القارئ يضحي بشيء من ماضيه لصالح مستقبله، ويسعى إلى الاندماج في الحاضر، ويحاول ممارسة نفوذه وسلطته التي يستمدها من وصاية سلطة ما، يستجيب لندائها، ويضحي بالحقيقة في سبيلها. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن طبيعة علاقة النص بخطاب السلطة.

3 النص وخطاب السلطة:

إن تأثير الظروف والملابسات والوسائط لا يمكن إنكارها في ولادة النص، إذ لا يعقل أن يولد النص مفصولا عن فضاء الرهانات والصراعات التي تولدها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تشكل بالفعل التربة التي ينبثق منها ويؤثر عليها بالمقابل، فلا يمكن فهم النص وتأويله بعيدا عن خطاب السلطة، ومنطق الفاعلين الاجتماعيين، وعن آليات السيطرة والهيمنة. لقد أكد مشال فوكو أن النص مراقب ومسيّج. وعليه فمن الخطأ الكبير الاعتقاد بأن النص مشكل بشكل واضح أمام أعين القارئ. حتى وإن لم تكن هذه المعطيات حاضرة في الوعي المباشر، فهي حاضرة في لاوعي التاريخ ومغروزة في بنيته. وبالرغم من أن هذه المسألة تعتبر بديهية في نظر الكثيرين، إلا أن هناك محاولات لعزل النص عن الظروف التي ولد فيها. إن كل نص يرتكز على خلفية فكرية أو سياسية أو إيديولوجية وإلا كان موجها لإنسان القطيع للاستهلاك. إن التأويل الذي انفصل عن مصادره الدينية تحت تأثير العقلانية الفلسفية ليعمق مفاعيله في الواقع، أدى إلى تزايد الحاجة إلى كشف الصراع الاجتماعي حول السلطة والمعرفة ومواقع القوة في المجتمع، عبر النصوص المؤولة التي تعبر بكل تأكيد عن صراع عميق يكون  قائما على خلفية صراع اجتماعي سياسي وفكري. فالصراع كما قال ماركس، يكون دائما بين من يملك وبين من لا يملك، مهما كانت تمظهرات هذا الصراع، فمن يملك السلطة يستطيع أن يملك كل ما عداها. لقد تراكمت جهود الباحثين في مجال التأويل لفحص النصوص من جديد، مما هيأ أرضية خصبة لميلاد أفكار جديدة عن التأويل، سيكون لها مفعول خطير في تغيير التصورات والمفاهيم، وقلب النظم الاجتماعية والفكرية، وفتح المجال أمام المواقف الاجتماعية، والحركات المذهبية والدينية المتعارضة بل والمتناقضة. إن التأويل تميز بالصراع الحاد بين مختلف المدارس التي تشربت النص الديني بسبب الاختلافات السياسية التي بدأت تطفو إلى السطح ومعها بدأت مسألة الانحراف في فهم وتأويل النص الديني بما يتماشى والمصلحة السياسية والمذهبية، مما ترتب عنه انقلابا جذريا في المفاهيم وتغيرها، وهذه التطورات هي التي تعتبر المفجر الأساسي لعملية التأويل. وهي المعارف التي تساعد الإنسان على أن يتكيف مع الوجود ومع نفسه. إن القارئ وهو يطارد النص فإنه يتملكه إحساس بأن النص مركب من طبقات ومعاني تظل قابلة للتفكيك إذا ما وجدنا السبيل إلى ذلك. إن النص يزخر دائما بطاقة دلالية غير منتهية وكل فهم للنص ما هو إلا فهم من ضمن تأويلات مفتوحة لا تنتهي. والقارئ هو الوحيد الذي يجبر النص على قول المزيد من الحقائق. والمعاني الجديدة لا تتولد من النص، إلا عبر هذا الصراع الذي يستغرقه النص ومن خلال الارتباط معه، وهو حيز قصير، إذ إن تأويل كل نص إلا ويترك وراءه مساحة خالية تحتاج إلى استكمال وإنضاج، وكل نهاية قول فيه تعتبر فاتحة لقول جديد، بحكم التغير الزمني نفسه. يرتبط الفهم برسالة النص، حيث لا يمكن النظر إلى النص في مستوى الكتابة الظاهرة، وفي الدرجة الصفر، لأن ذلك يؤدي إلى إفراغه من بعده الثقافي، ورسالته الحضارية، وأبعاده القيمية المختلفة المتضمنة فيه، ولذلك يبقى لكل نص أفقه التاريخي وخلفيته الحضارية، التي لا يجوز إغفالها أثناء التعامل مع النص. إن الحديث عن حرية المؤلف يجرنا إلى الحديث عن حضور خطاب السلطة في توجيه الكتابة، وكما هو معروف فإن السلطة موجودة في كل مكان، وأن النص لا يسلم من التأثير السياسي قراءة أو تدوينا، ليخرج النص عن حدود الموضوعية، ويتجه نحو التحيز المخل بالحقيقة، ومن ثم إلى تزييف التاريخ. إن مثل هذه الوضعية تفترض إعادة قراءة جديدة للتاريخ من منظور جديد للبحث عن المهمش والمسكوت عنه بسبب الضغوط السياسية التي غيبت أحداثا من التاريخ. إن إعادة كتابة التاريخ التي نسمع بها من الحين والآخر، هي في الواقع إعادة قراءة وتأويل للأحداث التاريخية، التي يعتقد أنها غيبت أو عزلت باعتبارها حقائق مهمة في التاريخ لا بد من رد الاعتبار إليها من جديد. فلا نستطيع أن نفهم أو نفسر الأحداث إلا بردها إلى الماضي التاريخي الذي انبثقت فيه. وخلاصة القول أن ما يهم من التحليل السابق، هو حجم النصوص النائمة على الرفوف في تراثنا العربي والصامتة منذ زمن بعيد والتي تنتظر من يوقظها ويحسن الإنصات إليها في ظل إعراض تام عن الاهتمام بالتراث، فلقد طغى التاريخ السياسي، وأهملت التواريخ الأخرى. ثم غالبا ما توكل مهمة كتابة التاريخ إلى مؤرخين معروفين بولائهم للنظام الرسمي، ومن ثم يتم توجيه كتابة التاريخ حسب متطلبات السلطة، وهذا شيء معروف ومبرر لأن كل أمة تسعي إلى كتابة تاريخها بما يخدم مصالحها. أما بقية أحداث المجتمع وحركته وصيرورته فقلما تجد من يهتم بها أو يلتفت إليها. وهنا مكمن الخطر عندما نخلط التاريخي بالسياسي في ثقافتنا العربية، حيث ينتج عنه رؤية ضيقة جدا لتصور منهج الكتابة التاريخية، ويستبعد المشهد الثقافي برمته، فالمؤرخ كما يقال لا يكتب الحقيقة فقط وإنما يكتب المغالطات.

لقد قادت أبحاث التأويل المفكرين والفلاسفة والباحثين للاقتراب من معاني النصوص الغامضة والملتبسة، وذلك بسبب احتمال انطباقها على معاني متعددة، وتأويلها وتحريكها في إطار وعي تاريخي مختلف، ولذلك لا يمكن أن نختم على أي نص في معنى واحد، محدد ونهائي زاعمين أننا قد ألقينا القبض على حقيقته النهائية. وهذا ما يتعارض مع فن التأويل، الذي ينفر من أي تحديد دوغمائي يحتكر الحقيقة لنفسه.. لأن الحقيقة تتطلب العدول عن موقف الثنائيات التي تميزت بها الدراسات السابقة، وبالتالي يكون التأويل هادما للثنائيات الضدية، حيث يفتح آفاقا رحبة للاختلاف والحوار والتعايش المفضي إلى البحث عن الحقيقة.

إن الاقتناع بأن النص لا يزال يرمز إلى وجود معاني خفية هو الذي ضاعف أبحاث التأويل، حيث ترسمت الجهود في شكل مدارس، ومراكز أبحاث، واتجاهات فكرية ومعرفية كبرى، أضحت تشكل فضاء للبحث الحر، والنشاط العلمي الواسع من أجل تجديد الدراسات التراثية وإحيائها. وما أحوجنا اليوم إلى استخدام منهج علمي في القراءة والنقد يميط اللثام عن التراث الضخم الذي تم تجميده خلال القرون الماضية حيث لا نستفيد من خبرة وجهود أجيال سخرت حياتها من أجل ذلك التراث. إن الإطلاع على تراثنا يفتح أمامنا أبوابا جديدة تجعلنا نعيد النظر في معارفنا وفي تجربتنا في هذا الوجود، وذلك من أجل تجديد السؤال بين أفق النص وأفق القارئ عبر قراءات من المؤكد أنها ستتواصل جيلا بعد جيل من دون أن تستنفذ كلية سؤال النص الصامت، لأن القراءة لا تخترقه دفعة واحدة وإلى الأبد، بل تسهم فقط في بلورة معنى جديدا حسب الظروف ومتطلبات العصر. إن عملية التأويل ما هي في النهاية إلا إجراء فني يضيء جوانب النص المعتمة ويتوقف على اجتهاد القارئ ودرجة وعيه بالموضوع، التي تمكنه من اكتشاف المسكوت عنه وغزو مساحات اللامفكر فيه من الجوانب المستورة بفعل عقلية الإلغاء والإقصاء، وتحجيم النص والتقليل من إمكاناته الفعلية. يعتبر النص مادة ملهمة للتأويل، فهو منطلق التفكير والتأمل، ودافع الاجتهاد المتواصل، إنه حوار متواصل بين الماضي والحاضر، حيث يتم فهم الماضي واستقباله من خلال الأفق الثقافي للحاضر، كما لا يمكن قراءة الحاضر إلا في ضوء معطيات الماضي بحضور القارئ، الذي يحقق التواصل الفعلي كغاية أسمى، ويفتح خطا جديدا لتجليات النص الصامت.

 

نابي بوعلي ـ جامعة معسكر

....................

 الهوامش:

1-   Jean du bois et autres, Dictionnaire de linguistique et des sciences de langage, larousse1999, P482

2 - ريكور بول،2001، من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة-حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة.

3 - حرب علي، 2005، نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان.

4 – نصر حامد أبو زيد، 2000، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، لبنان.

5- ايكو أمبرتو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.

6- حرب علي، المرجع نفسه.

7 – الغزالي محمد، 2005، التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، دار القلم، دمشق.

8 – مرتاض عبد المالك ، نظرية القراءة، دار الغرب للنشر والتوزيع، ب ت، ب ط.

9 عادل مصطفى، فهم الفهم (مدخل إلى الهيرمينوطيقا)، ط1، دار النهضة العربية بيروت، لبنان.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم