صحيفة المثقف

عندما ترحل النوارس!

عقيل العبودفي الليل حيث تنكمش مظاهر الحركة، ويدبُّ السكون، تتحول حرارة الصيف الى برد خفيف، بينما حالة من الإسترخاء تنساب خلال جسده المتعب، خاصة بعد ان يهدأ الشارع من الزحام، حيث بعد ساعات من التجوال طويلة، وعند تلك البقعة من الأرض تحديداً، إعتاد الرجل أن يفترش تلك الأغطية مع بعض أسمال أجهدها النحول ذلك بحثا عن فضاء به يستطيع ان يحقق قدراً من النوم.

الزاوية الحادة من الرصيف تلك التي تقبع عند نتوءات الجذور النابتة للشجرة الضخمة بجانب البناء المخصص لدورة المياه، هي ذات البقعة التي يأوي اليها، وها هي جولته الثانية من الحياة كانت قد ابتدأت بعد ساعات من الغروب انقضت، وتلك سيجارته التي راحت تفرض أنفاسها وفقاً لتقاليد كوب من القهوة العائدة الى احدى المقاهي العائمة عند ضفاف ذلك المكان، مع شعور بالسكينة والإطمئنان.

هنالك على وسادة داكنة، دبيب النهار بساعاته الطويلة، كأنما ينهض بحلةٍ جديدة، ليعود الى تفاصيل أشواطه السمعية والحسية، ثم يمضي لتطوف فضاءاته في مخيلة لم تكن تنفض غبار همومها كما تلك الثياب.

ذلك الرجل، مشاعره كما تلك الأجواء، تنبسط ثم تنقبض، لتبتدئ من الداخل، وهنالك ثمة شئ، شئ من قبيل قوة خفية تجتاح كيانه، جميع جوارحه، تحلق به كما النوارس بعيداً عن الضجيج، بعيداً عن البؤس، بعيداً عن جميع تفاصيل المشهد.

ولكن ورغم ابتعاد تلك التفاصيل، حكاية الصباح باقية تطرز تلك المساحة من الأمل؛ هدوء شفيف، يفتح بواباته كما رقة الفراشات، وحفيف الأغصان الممتزج بأنغام ذلك السريان من الطبيعة، بينما عند المنتصف يفرض النهار هيبته بطريقة تكاد ان تكون أكثر حزماً ذلك لمداولة الحركة، خاصة مع تلك الأمكنة، حيث يكتظ الآخرون بحثا عن فسحة من المتعة والاسترخاء.

أما ذلك الإمتداد المنبسط من العشب فقد اتخذ من السكون وسادة لجسدٍ أعيتهُ التفاصيل، لذلك كأنما مؤازرةً استرخى هو الآخر أملاً بسرد مشاهد، أحداثها ما فتئت تتعكز في محيط واقع عكر- لقد بقي حضوره على شاكلة بساط تعلو وسادته خضرة يعانقها فضاء يسعى لأن يستمد جماله المتوقد خلال شاطئ، قررت ضفافه ان تنسحب إستجابةً لشروط قوافل من الأمواج محكومة بقانون المد والجزر.

هي بقعة ترسو في مرافئها مجموعة من السفن القديمة، والزوارق المتفاوتة في أحجامها، تلك التي لا يحدها الا هواء البحر العليل، ليمنحها بهجة تتناغم وذلك النسيم الذي يحمل بين أنفاسه طعم السمك العالق بسنارات الصيادين.

بينما يزاول المارة حركتهم المعتادة عند ضفاف تلك الزرقة المطلة على الساحل كما اعتادوا كل يوم، حيث يرسم العشاق قبلاتهم دون تردد.

وهنالك حيث تعانق السماء إطلالة غيوم رمادية، الطائرات الورقية ينتشر بعضها بطريقة متجاورة لتستهوي رغبات أصحابها، بينما أصوات النوارس تمضي متناغمة مع سريان تلك التموجات التي اعتادت ان تُعَبّر عن أتعابها المكسوة بالرغوة البيضاء، لتحط بتثاقل عند حافات الشاطئ بينما دبيب اللون يتحد مع فصول المشهد القريب، ليرسم سيناريوهات لا تحتاج الى متمرس في الفن. هنا حيث تتعانق الأمكنة، الأحداث تسير وفقاً لمشيئة الزمن.

فعلى ذات الضفة، رجل اطلق العنان لذقنه ليبقى هكذا منشغلا مع أوتار قيثاره العجوز عند أطلالة قطعة قماش يضع الجمهور فوقها وريقات من النقد إعجاباً بأنغامه المتمرسة.

 

أما تلك المساحة من المكان، فقد أطلقت العنان لنفسها أسوة برحلة النوارس، وأصواتها المودعة محتفيةً بآخر ما تبقى من دقات قلب بقي يخفق بشدة هائلة، كأنما إستجابة لفرحة مفاجئة، ليطلق العنان لنفسه بعد حين مودعاً أنباء آخر سفينة مسافرة.

 

عقيل العبود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم