صحيفة المثقف

حُسين ساحات التحرير.. و(حُسين) الخضراء

قاسم حسين صالحتعريف: ساحات التحرير والحبوبي هي ساحات التظاهرت التي بدأت في شباط 2011 الى 2020، مطالبة بالأصلاح.. الذي طالب به الأمام الحسين. والخضراء منطقة في بغداد بمساحة 10 كيلومتر مربع، حددها الأحتلال الأمريكي في 2003 لتكون مقر اكبر سفارة لدولته، وليسكن فيها من سلمهم السلطة.

والشبه بين المشهدين، أن يزيد قتل الحسين الذي طالب بالقضاء على الفساد، وأن حكّام الخضراء ارسلوا في 2011أحد قياديهم الى ساحة التحرير ليعطي اوامره باطلاق الرصاص على من طالبوا بالقضاء على الفساد، وقتلوا في تشرين 2019 أكثر من700 شابا، واستهدفوا في 2020 اغتيال انصار الحسين في ساحات التحرير والحبوبي، وكوكبة من المثقفين بدءا من قاسم عبد الأمير عجام (بابل 2004) الى كامل شياع (بغداد 2008) وعلاء مشذوب(كربلاء 2019) وصولا الى رهام يعقوب (البصرة 2020).. والتالي الذي قد يكون انت أو أنا!

*

ما كانت ثورة الحسين سياسية ولا اسلامية، بل هي ثورة أخلاقية تستهدف في جوهرها إعادة إحياء قيم إنسانية نبيلة. فلو كانت سياسية فإن هدف القائم بالثورة يكون الوصول الى السلطة فيما الحسين كان يعرف انه مقتول، ولو كانت اسلامية لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير اسلاميين بينهم غاندي. ولهذا فإن الثورات السياسية غالباً ما صارت منسية، فيما ثورة الحسين تبقى خالدة.. والسبب هو ان موت الضمائر وتهرُؤ الاخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس الى قسمين:حكّام يستبدون بالسلطة والثروة، وجماهير مغلوب على أمرها.. فتغدو القضية صراعاً أزلياً لا يحدّها زمان ولا مكان، ولا صنف من الحكّام او الشعوب.ومن هنا كان استشهاد الحسين يُمثل موقفاً متفرداً لقضية اخلاقية مطلقة، ما دامت هنالك سلطة فيها:حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم.

ومن عظيم أخلاقياتها، ان الحسين كان بإمكانه ان ينجو وأهله وأصحابه بمجرد ان ينطق كلمة واحدة: (البيعة).. لكنه كان صاحب مبدأ: (خرجتُ لطلب الاصلاح في أمة جدّي).. والاصلاح مسألة اخلاقية، ولأنه وجد أن الحق ضاع: (ألا ترون أن الحق لا يُعمل به)، ولأن الفساد قد تفشى وشاعت الرذيلة.. فكان عليه ان يختار بين:ان يوقظ الضمائر ويُحيّي الاخلاق والقيم الراقية، أو ان يميتها ويبقى حياً.. فاختار الموت.. وتقصّد أن يكون بتلك التراجيديا الفجائعية ليكون المشهد قضية انسانية أزلية بين خصمين:سلطان جائر.. وجموع مغلوب على أمرها.

ذلك هو حسين المظلومين الذي وجد ان الفساد قد تفشى والأخلاق الفاضلة قد تهرأت والقيم النبيلة اندثرت، فخرج طالباً الإصلاح في أمة جدّه بالوقوف بوجه سلطة ظالمة واستنهاض القيم لدى المظلومين وحثّ المستضعفين على ان يكونوا أقوياء بوجه مَن ظلمهم وأفسد قيمهم.

والمفارقة ان الفساد في العراق في زمن حكم الاسلام السياسي الشيعي الحالي ما كان بحجم الفساد في زمن يزيد (ولا بحجمه في زمن العباسيين والعثمانيين!) الذي ثار عليه الإمام الحسين.ومع ذلك فان قادة هذه الأحزاب يتباهون بأنهم حسينيون. وبدل ان تقدم هذه الأحزاب الحسين رمزاً انسانياً لعالم أفسدت أخلاقه السياسة فان قادتها في السلطة ارتكبوا إساءة بالغة بحقه أمام الأجانب.

ففي مقالة للكاتب البريطاني (دافيد كوكبورن) نشرها في صحيفة الاندبندنت بعنوان: كيف تحولت بغداد الى مدينة للفساد.. جاء فيه:

(أحسست بألم وأنا أرى شعاراً مكتوباً على لافتات سوداء بساحة الفردوس: "الحسين منهجنا لبناء المواطن والوطن فيما المواطن صار فقيراً والوطن مدمّرأ"! فأية إساءة أشدّ وجعاً من اساءة يدّعي اصحاب السلطة انهم (حسينيون) فيما أعمالهم تناقض مبادىء الحسين وقِيَمه.. وأسباب ثورته؟!

كنا كتبنا في زمن السيد نوري المالكي، ان حكومته هي أفسد حكومة في تاريخ العراق، وانه لا يمكن لحكومة فاسدة ان يكون رئيسها نزيهاً، وانه ارتكب جريمة كبرى بسكوته عن محاسبة الفاسدين ولم يشفع له قوله: (لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لأنقلب عاليها سافلها)! وله نعيد السؤال بوصفه رئيس حزب الدعوة المشارك الرئيس في المواكب الحسينية: بحق الإمام الحسين عليك.. هل خفت على الناس ام انك صرت على يقين بأنك إن كشفت الفاسدين وأبناء المسؤولين من الخصوم.. فإنهم سيفضحون فاسدين كباراً من حزبك؟ أليست هذه هي حقيقة أمرك وحقيقة خلفك الذي تعهد بكشف الفاسدين وما فعل، ودعته المرجعية الى الضرب بيدٍ من حديد.. وبح صوتها وما ضرب؟ وبرغم ان وثيقة الاتفاق السياسي في حكومة الوحدة الوطنية (2014) تضمنت بنداً ينصُّ على (محاربة الفساد المالي والاداري ومحاسبة المفسدين) فان خلفك من حزبك لم يستطع ان يحاسب واحداً من الذين وصفتهم المرجعية الموقرة بـ(الحيتان)، ولم يستجب لتظاهرات ملايين المظلومين الذين يطالبون بما طالب به إمامهم الحسين.. من عشر سنين!

لقد أدرك العراقيون الآن ان (حسينكم) ايها المستبدون المرفهون في الخضراء هو غير حسين الفقراء والمظلومين في ساحات التحرير. وان زيفكم انكشف من يوم تنافستم على صرف المليارات لتسيير المواكب الحسينية، لو انكم كنتم صرفتوها في بناء مدارس او مستشفيات او مدن سكنية او مشاريع للأرامل والايتام.. لكانت أثوب مع انها ليست من جيوبكم لأنكم كنتم أصلا فقـــــراء.

وافهموها أن غالبية العراقيين وصلوا الآن الى قناعة بان الفاسدين منكم الذين نهبوا المال الحرام وأثروا ثراءً فاحشاً.. يجلسون في مجالس العزاء الحسيني وأيديهم على جباههم.. حزانى.. يبكون! والذين وظفوا حب العراقيين لإمام المظلومين باشاعة اللطم والنواح وتغليب انفعالاتهم العاطفية على التفكير والتذكير بقيم الحسين.. هم منافقون فعلوا ويفعلون بالضد من قيم سيد الشهداء.. ابن عليّ.. امام سلطة الحق، بل ان يقينهم ازداد بما كنا قلناه قبل عشر سنين: لو ان الإمام الحسين توجه الآن الى الخضراء طالباً الإصلاح لخيرتموه بين أمرين: العودة من حيث أتى.. أو القتال!

 

أ. د. قاسم حسين صالح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم