صحيفة المثقف

العالم الشعري لدى يوسف الخال (2)

رياض الناصريالبعث

لقد تركنا يوسف الخال في (المفازة) يعاني شدة وطأتها؛ إذ:

كانت الأرض شتاءً،

كان موج البحر يرتد

عن الشط عياءً.

كان جوع وصقيع،

كان في المرعى ذئاب،

آه، كان الرعب في الحي شديداً.

...

والكوى مغلقة والسور ينهار،

ووجه الشمس زور،

...

أترى هذا الذي مات إله ؟(1)

فزخرفة الماضي للتعويض عن قسوة الحاضر، لم تعد تجدي نفعاً، فتبدأ هنا مرحلة التساؤلات، من أجل فتح باب جديد يخرج به من(المفازة)، إلى(البعث) من أجل إعطاء الأشياء والزمن والمدن نسغاً ودماً جديدين، والخطوة الأولى باتجاه هذا الهدف، هو أن نؤمن بأن الزمن الميت سوف يحيا، فبحياته تحيى الأشياء الأخرى جميعها، وذلك يتضح من خلال اعتماد الشاعر على أسطورة أدونيس وعشتار، وعلى رمز الحياة الآخر/المسيح(الإله الميت/ الحي)، فإن جراحه للأولين عزاء، ودربُ خلاص لنا،  فإذا ما صلب في زمن اليهود، فأنه سوف يبعث حيّاً "هنا" في زمن يكون الشاعر جزءاً منه :

أتراني أهجر الدار وأمضي،

" يدفن الأموات موتاهم " وأمضي؟

أين أمضي؟

أإلى المأتم في الغابة والميت إلهُ؟

أإلى العرس، وما

في العرس خمر ومسيح؟

أم تراني ألزم الصمت وأبقى،

مثل آبائي أبقى،

جاثما بين عظام

عافها نور النهار،

ملها عتم الليالي،

والعصافير بنت أعشاشها

حيثما حطت بها ريح الشمال؟

آه لا أدري، ولكنّي أصلي! (2 )

هذه الصلاة والدعاء والابتهالات، من أجل فتح باب آخر للفكر والنفس لتنتصر على هذا الزمن الثقيل المظلم، الذي جعل الشاعر يعيش ألماً ممضا ومأساة كبرى، بسبب وعيه، إن زمنه الذاتي وزمن مجتمعه متوقفان،  في عصر يتحرك فيه الجميع، وتنمو حضارات وتزدهر وتتقدم، فللنجاة من إحساس الخوف، والفناء والضجر، والملل،  جعل الخال يتأمل بمجريات الحياة والكون، ويتساءل، وهذه التساؤلات الكثيرة التي تسود في شعره، هي دليل على النزعة التأملية التي يمتلكها، وهي باب من أبواب الاطلاع والمعرفة والثقافة، وتبرز حسه العالي بأشياء الوجود، وعناصر الصراع التي تفرزها مفردات الحياة، وتظهر تعمقه للوجود والوضع الإنساني فيه، لتؤدي به في النهاية إلى (التوقف المؤقت عن الأحكام المسبقة)، أو إلى الشك الصحي!؟  كما يقول "جون ديوي"(3). وليفرز هذا التوقف "رؤيا" جديدة، ومحاولة بعث جديدة، وأبرز قصيدة عند الخال توضح ذلك كله هي:"البئر المهجورة"

وحين صوب العدو مدفع الردى

واندفع الجنود تحت وابل

من الرصاص والردى

صيح بهم تقهقروا، تقهقروا.

في الملجأ الوراء مأمن

من الرصاص والردى! "

لكن إبراهيم ظل سائراً،

إلى الأمام سائراً،

وصدرهُ الصغير يملؤ المدى!

" تقهقروا . تقهقروا.

في الملجأ الوراء مأمن من

الرصاص والردى!"

لكن إبراهيم ظل سائراً

كأنه لم يسمع الصدى

وقيل أنه الجنون

لعله الجنون.

لكنني عرفت جاري العزيز من زمان،

من زمن الصغر.

عرفته بئراً يفيض ماؤها.

وسائر البشر

تمر لا تشرب منها لا ولا

ترمي بها . ترمي بها حجر.(4)

فهذا الإنسان/الشاعر الذي يحاول أن يموت لكي يبرهن أن الإنسان الحديث الذي ينتسب إليه الشاعر/الفدائي، لم يمت، وأنه مازال بطلاً متمرداً عنيداً، لذلك كان التساؤل الذي تطرحه الأسطورة "البئر المهجورة " هو: لو استشهد إبراهيم في معركة الإنسان المعاصر، فهل تكون الأمور على غير ما هي عليه؟ هل يتسنى لنا بناء شعب وحضارة جديدين، وإحراز التقدم والرقي الذي نبغي ونطلب، لإعلاء شأن الإنسان، وصيانة حقوقه، واحترام وجوده وحريته "التي هي هو"، ولذلك– أيضا –كانت الرسالة التي تتضمنها القصيدة، وتبعثها، إلى الإنسان المعاصر، هي أن هناك آبارا مهجورة، كلها خصب وحياة وبعث، أغضضنا عنها الطرف، فلم نشرب من مائها، ولم نرم بها ولو حجراً، وإبراهيم ليس إلا تدليلاً على وجود هذه الآبار في عالمنا، تلك الآبار التي نمر بها ونراها كل يوم ولا نلتفت إليها مطلقاً (5) :

كان حيّاً . أمس شق الفجر عينيه،

مضى يحمل قلباً ضاحكاً للنور، للدفء، مضى

يرفع زنداً، يضرب الأرض بكلتا قدميه،

يصفع الريح على خديه، يجري،

قيل نهر دافق، قيل سكون

حرت الرؤيا به. أو قيل شئ

لا يكون الكون لولاه، أيمضي؟

هكذا، يمضي، ولا يمضي سواه.

يا إلهي . حينما مات ألمْ

يشفع به حسن ؟ ألمْ يشفع

به سعي إلى الأسمى.

فيا ما مزق الشوك يديه،

وقسا الدرب عليه.

ولكم شيد، كم هدم، كم

ثار على الشئ، إذا ضن، إذا

جف، إذا هيض جناحاه،

وكم تاق إلى الفعل، فأعلى

حرماً، أو أنزل الله على الأرض،

إلهي، حينما مات ألمْ

يشفع به الوهم الذي كانا.

أما والآن قد مات، فهل

تحيى أمانيه ؟ تناجيه عروس الجن؟

تحمر الثمار الخضر في الوادي؟

أ يدري النجم؟ يأتيه

مجوس الشرق والغرب؟

إلهي . أغلق القلب على السر ودعني

أجمع الذكرى بعيني، بوعيّ،

لا لأطويها.

" حياتي لم تعد شيئاً.

ترى موتي هو الشئ؟"

ففي الموت عرفناه.

وما كنا عرفناه.

وحق الشئ أن يعرف،

كالحب الذي يعطى،

أو الخير الذي يرجى.

عرفناه

عرفنا ذاتنا فيه:

عالم ُ أوصده النسيان: لا

وقع حصاة،

لا صدى.

عالم مات به جرح الخطايا.

ولكم كان يصلى.

" مدّ لي يا رب شطآن خلاصي.

ها أنا أركض في الأرض

ها أنا أركض في الأرض

وأقدامي حديد، وعلى دربي حديد،

خلّني أمشي على الماء قليلاً

بعد حين يقفر الحي

وظلي يستطيل.(6)

وهكذا يودع يوسف الخال شخصية "اللامنتمي" في فترة ( المفازة ) ليكون بطل  "البعث" يتربع سنا المجد والبطولة، حكيماً يعرف ما يأخذ وما يذر، فارساً لا يهاب عواقب الاقتحام والتقدم والرجولة، صاحب معجزات (خلني أمشي على الماء قليلاً)، إنه شهيد ومجاهد في محراب العلم والتطور والثقافة والجهاد، أراد أن يكون ناراً عاصفة تحرق كل بال وعتيق، لتهب الحياة كل ما هو جديد، إنه كما " آلهة" العصور القديمة، بطل عصره، وعنوان زمانه وأمته؛ وبذلك يحاول الخلاص من آثام "المفازة"، بوسائل يبتدعها ويخلقها، ليتجاوز بها كل طقوس الظلام الضاربة حوله. من فكرة الموت والبعث في أسطورة تموز والمسيح، إلى البطل الشهيد،إلى الرحلة التي سوف تأتي– صوب البحر للالتقاء بأزمنة أخرى، وحضارات أخرى، لجلبها إلى زمنه وبلده وأمته، ليتخلص من مرارة زمنه التي تشقيه، وتشل كيانه، وليتجاوز كل التعاريف القديمة والقوانين القديمة والأزمنة القديمة، فهو يريد أن يتخطى الزمن الخارجي بالزمن الداخلي، وأن يأتي بالحلول من داخل ذاته، لا من الخارج فحسب، وليصهر كل ما تعلمه في حياته من حكايات وعقائد وقيم، وبما عاشه واطلع عليه الآن من عقائد وقيم وأفكار جديدة، في بوتقة الذات، لتفرز لنا نمطاً جديداً ومنوعاً من الطروحات الفكرية، والمشاعر والأحاسيس الذاتية، لتمحى بها خطايانا، وتورق آلام المساكين، خبزاً ودفئاً، ولتلمسنا أصابع الشك، فتمنحنا اليقين:

أعطشان ؟ خذ الصخرة واضربها،

أفي العتمة ؟ دحرجها عن القبر.

وأما عضك الجوع فهاك المنّ والسّلوى،

وأما صرت عرياناً فخذ من ورق التين رداءً

يستر الأثم، يواريه عن الناس.

وفي التجربة الكبرى

تصبر صبر أيوب ولا تهلع

إذا ما استفحل الشر:

صليب الله مرفوع على رابية الدهر .

وفي الشط مناراتُ متى ضاءت

ضربنا جبهة الفجر بأيدينا، وفجرنا

من الصخرة ماءً يجرف الرملَ

إلى البحر، وفي الأفق جناحا طائر

حطا على جمجمة الليل،

وفيه نجمة سمراء تروي قصة

المزود للرائح والغادي . وفي السر،

متى يعرى، إله ملأ العين،

إله لم يمت بعد، إله سكب

الحب على الجرح ِ؟.(7)

ليمنح هذا الحب البرء والطهر، وليحل محل رموز الجدب القديمة، رموز المطر والثمر، والجزر التي لا تعرف " الضجر"، ونرى: بعد معاناة العظام التي لا يطمرها أحد، وجهاً واعداً بكل لذة:

"أنا الجمال: يا جداول النبيذ جُدّلت

على اللّجَين، يا شواطئ العقيق يا فمي!" (8)

وننتهي إلى الأمل بأن وجوهنا، بعد البحث والاعتراف لم تعد مفازة لـ(قدم البوار)، فالبحر والبئر المهجورة، والله، على منال منا.(9) لتزرع الفرح والأمل في سيرنا وتقدمنا، ذلك أن العالم في حدسه الأصلي، ليس سداً أو لا خلاصاً، وإنما هو عوائق وحسب، يواجهها، يمتزج بها، لكنه يبقى متميزاً ومفروزاً كالجسد في البحر، وكالعصفور في الهواء ويبقى أبدا يبحث عما يخلصه منها، لينفذ إلى الصميم والجوهر، مدركاً أن لحظة التماس مع الجذر في العالم، يتدفق منها الدم بقدر ما تتدفق النعمة، ولابد من هذا الدم لأنه علامة التماس، أما النعمة فعلامة اللقاء والوحدة، القصيدة هنا نوع من الصلب الداخلي الدائم، أي نوع من النمو الخفي الدائم. فَهْمُ هذا الشعر يقتضي النظر إليه من هذه الشرفة، أعني كحركة شاملة موصولة بغاية؛ حركة تشكّل، وأن تخللها أحياناً مواقف ومحطات وانهدامات، كلاً واحدَ النسق واحدَ النسغ . (10)

وهذا الحوار القائم بين وعي الانحطاط ووعي التطلع، بين الرماد والتجدد هو علامة الشعر الذي يعيش الحياة وينتصر على الزمن.

لقد كان الخال في مرحلة "المفازة" أقرب إلى الرمزيين الذين احتقروا بيئتهم وأخلاقيات طبقتهم الوسطى، وهو في هذه المرحلة أشد تماسكاً عاطفياً، وتبرز عنده الروح القوية التي تسود القصيدة، وهكذا يتحتم على الشاعر الأصيل أن يكون قاطعا كالسيف، لكي يستطيع أن يرى، وأن يفهم، وأن يضع حدا فاصلا بينه وبين الموت الذي يحيط به (11):

أيها البحر، أيها الأمل البحر

ترفّق بنا، ترفّق، ترفّق!

ما أدرنا وجوهنا عنك إلا

بعدما مَزّق السياط ضحايانا

ولم ترحم العبيد الجراحا،

وهي حُبلى

كل الجراحات يا بحر

حبالى، ونحن مهد عريق

للولادات، أيّ، أيّ إلهِ

ما رأى النور بيننا، ما تربى

كيف يحيا، يشقى، يموت.

ونحن

الشيءُ يا بحر، من زمان قديم

وبنونا حجارة للزمان،

والقباب التي تسّيج واديك

حضور لديك: في كل حوز

من حماها حكاية.ياعجوز الدهر

قُصّي، قُصّي حكايات أمس

ما طوتها كف الرمال الضريرة

ألف جيل يرد في ألف جيل

ردة الموج في المياه الأسيرة

أيها البحر، يا ذراعا مددناها

إلى الله، ردنا إليك، دعنا

نسترد الحياة من نور عينيك

ودعنا نعود، نرخي مع الريح

شراعاتنا، نروح ونغدو

حاملين السماء للأرض دمعاً

ودماءً جديدة.(12)

وأخيراً لعله وجد، جسر خلاصه، بالبحر، إنه يود أن يدير ظهره لكل شئ، وينطلق إلى هذا الرمز العظيم ... الحرية، الشرود وراء الآفاق ... وليبق رفاقه (13):

"رفاقنا الـ هناك في الرمال آثروا

الهجير والنقيق والضجر"(14)

وهنا تبدأ رحلة البحر(رمز الشاعر الجواب للآفاق) في قصيدة "السفر" لتصله هذه الرحلة بالضفة الأخرى، ضفة الحياة والبناء الحضاري الجديد:

وفي النهار نهبط المرافئ الأمان

والمراكب الناشرة الشراع للسفر

نهتف يا، يا بحرنا الحبيب، يا

القريب كالجفون من عيوننا

نجئ وحدنا،

رفاقنا الوراء تلكم الجبال آثروا

البقاء في سباتهم ونحن نؤثر السفر.

أخبرنا الرعاة ها هنا

عن جزر هناك تعشق الخطر

وتكره القعود والحذ،

عن جزر تصارع القدر

وتزرع الأضراس في القفار مدنا

حروف نور تكتب السير.

وتملأ العيون بالنظر

بها بمثل لونها العجيب يحلم

الكبار في الصِّغَرْ.(15)

إنه كما يبدو يجاهد وبحرقة عجيبة للوصول إلى(الإيمان/النعمة) ولكنه لما يصل بعد، لأنه يحاول أن يخرج من ماضيه، لكنه ما زال يحمل جذوراً تربطه به وناوياً لها  "البعث"، والتضحية بنفسه على مذبحه.وحتى يستطيع تحمل هذا الماضي الجاف، الميت، المقطوعة أسبابه بينه وبين الشاعر، يعيش يوسف الخال في ما يسميه إليوت "اللحظة الحاضرة " في الماضي، يعيشها كمن ينفذ حكماً قدرياً(16):

كالزمن

يدور وهو صاعد

مسمّر

يقبع في اللون

وفي الحروف

في حجر

على حجر

في التيه تارة وفي وقوع

خطوة على الأثر

يدور

والشك ورقة

تستر عورة السقوط

عورة الرفض:

سدوم

أم أورشليم

أم ظل أيوب على الأرض؟

يا أيها الراكض في السهول

كالزمن

تبدأ حيث تنتهي

فلا تزول.(17)

ولا تزول معه رحلته، وسفره، لاكتشاف واستكناه الأشياء، داخل الذات وخارجها،  في الشرق الذي قضيته الأساس الروح الميتافيزيقية؛ وفي الغرب الذي مال بكل ثقله إلى العلوم والمنطق والبناء المادي ؛وهو يعيش هذه الثنائية ويتلمسها ذاتيا" وليس على الشاعر من واجب خلقي سوى أن يكون مخلصا لفنه وأن يعبر عن تصوره للحقيقة في أكمل صورة "(18) وهو تلمس شعري حقيقي في هذه المرحلة، فهو البادئ بالثورة ميتافيزيقيا وإنسانيا، والعائش في مناخها، وهو الشعر البادئ بقتل الجامد المغلق في كل شيء، في السماء وعلى الأرض، في الإنسان والمجتمع، في الحياة والفكر، في السياسة والدولة.(19)

ولذلك جهد الشاعر في حدسه ورؤاه، أن يقتلع الفرد من جذوره، ويقتل في حياته جاذبية العبث، وهو يجهد أيضا أن يحّول هذا العالم الكمي، عالم الثورة والعلم إلى عالم كيفي، عالم الروح والخلق.(20)

إن يوسف الخال الذي واجه أنحاء المفازة بجرأة واثقة. ها هو يجوب البحر بالجرأة ذاتها، ويدخل شيئا من التنوع في تجربته، حيث يبرز عنده الآن، الإحساس بالطبيعة، وبجماليات المكان، وبذلك الشوق المرهف للبحر والجبال، وأرض الوطن، ليعيد إلى أذهاننا غناء الرومانسيين للطبيعة، الذين جعلوا منها إلها يعبدونه، حتى في أقسى مظاهرها الوحشية:

أخبرنا الرعاة في جبالنا

عن جزر يغمرها المطر،

يغمرها الغمام والخزام و المطر،

عن جزر يسكنها الحضر.

بها، بمثل لونها الغريب يحلم

الكبار في الصغر.(21)

كذلك حاول الخال في بعض قصائده أن ينعتق من أسار الماضي، على الرغم من أن الجواذب التي تشده إليه كانت توازي أو تقترب من الجواذب التي تشده إلى المستقبل، فإن المعاني التي تصورها قصائده لا تكاد تستشرف المستقبل حتى تشيح بوجهها عنه واجدة طعم الراحة ولذتها والاستقرار في الماضي، غير أن هذه القصائد تحمل الإيمان بأن في مقبل الأيام نوراً، وإن طال احتجابه؛ فتعمل على أن تنهل من الحياة بأعلى قدر ممكن:

أخاف يا حبيبتي

أخاف أن تكون

هذه الهنيهة التي نعيشها

هي الحياة كلها

هي الـ أنا و الـ أنت يا حبيبتي

وما الـ وراء إلا ظلمة

كالموت. كالإله. لا نعرفها

والخير قد يكون أن

نظل لا نعرفها(22)

وفي قصيدة "العمر" يغني لنا الربيع أغنية الفرح:

نزيح موجة الصقيع عن وجوهنا

نحكي لها حكاية الربيع:

كيف يبسم الهواء

تنشد الطيور، كيف

يرقص الشجر

وكيف تفتح النواة في الثرى

عروقها ويعقد الثمر.(23)

فعندما تنزاح الخطيئة والطغيان والقسوة، ويحل محلها إرادة الحرية، وعقل الإنسان، والحب، حب الإنسان وحب الأرض، فأن روح الكون ستكشف روح الحب، وتعود حتى صور العذاب والوحدة والألم، المتتابعة في هذا الشعر، سياجاً من القاربين يقدم الظل والطمأنينة، ذلك أن هذه القرابين تصبح، في آخر الطريق، أزهاراً وينابيع.(24)،  فأن "غاية ما نطلب من الشاعر هو  أن يكون مدركاً مفعماً بالحيوية  في عصرنا هذا. وعليه أن يثبت ذلك بجوهر شعره" (25).

إن هروب الخال عبر البحر، لاسترداد زمنه المفقود، وبغية العودة بالحياة الضائعة الميتة، إلى الوجود ثانية، لتعيش وتنبت وتزهر، من جديد، في أرض بلاده، كان هدفاً مركزياً، يخرجه من إطار الماضي، وتعويضه بصورة مقابلة له، فأن ما يكسو الحضارة، وراء البحر، من تقدم ورقي، هو عنوان تفوق، يماثل ما كانت عليه المسيحية في عصرها الزاهر في نظر الخال، فهذا التفوق يكون بديلاً عن الخسارات التي يعيشها،  باندحار وضياع الطاقات الخلاقة للإيمان. فهذه الحضارة التي أنشد لها إليوت أبشع صورة، وهاجمها بكل عنفوان، كان الخال يرى فيها أحد عناصر التفوق في رسالته (الروحية/المادية) في آن واحد، وهو بذلك يفترق عن فكرة الزمن الميتافيزيقية التي تصوره قوة منفصلة، تصارع الفرد والجماعة، إلى الزمن الواقعي في مراحله الثلاث، الماضي والحاضر والمستقبل، قبل أن يصطدم بفقدان النقاء المعنوي في هذه الحضارة.

هذا الفقدان، للروح في الحضارة الجديدة، أخذ يتولد عنه حنين عميق للعودة إلى الوطن. فإن التطلع إلى البحر الذي كان تفاؤلا وأملا كبيرا، لم يلبث أن غرق في صراع الذات والواقع الجديد؛ وللتعبير عن هذه العودة، استعار الشاعر صورة جماعة يونانية، ابتعدت عن البحر، فضلت الطريق إليه، وعادت للبحث عنه في شبه رحيل ديني، فلما لاح لها من بعد، شعرت أنها وصلت إلى أرض الوطن.(26)

نهار!

وكل نهار جديد

دنو إلى.. أثكا ضياع

لعشر سنين، ضياع وغربة

ونحن نصلي الرجوع . أنصر

هناك بطروادة، بعيدا على

تراب غريب؟

هلمّوا

لنفتح قلوع الصباح ونمضي

على اسم منرفا.

أهلا بمنرفا

وطأنا حصون العدو، عقلنا

جنون البحار، قهرنا

عمالقة الأنس والجن ...

وعدنا.

لريح الشمال هنا، يا أوديس.

عبير أليف."

عبير حلا.

لكل تراب عبير

لأبنائه، ولون، وطعم

وغنة صوت.

-"لنهتف، إذن

ونذبح قرابيننا . ونشد، ونرو

وقائع أبطالنا ..."

ونسرع، فلا

تباغتنا الشمس.

-"نعير الرياح

سواعدنا . فقد نبصر الشط

قبيل المساء."

بلى،

وقد نلمس الأرض

"بأحداقنا

ونبكي. " (27)

لقد عاد يوسف الخال أخيرا، إلى وطنه، بعد ضياع طويل في متاهة البحر، أبعدته عن أصالته؛ ليجد الذين تركهم، مؤثرا السفر عليهم، ومؤثرين البقاء، لم يكن بقاؤهم إيثاراً للبقاء؟ أو عن عجز أو خنوع، بل لأنهم كانوا قادرين على الصمود، أمام ذلك الجفاف! لأنه جزء من تكوينهم، ولأنهم عاشقون له، وقد ألفته نفوسهم، فالأرض التي نبتوا فيها، وصدروا عنها، هي أرض جفاف، منذ عهود لا تخطر بالذاكرة، لكنهم يقدسون شرائعها، وينعمون بنقائها، وصمتها، الذي علمهم الحكمة والصبر، وعلمتهم عبر تاريخها، أن "بعثها"، يولد من "رحمها" وعلى يد أبنائها. و لا يسعه أخيراً إلا القبول بمرارتها، منشدا  ومغنيا، لهذه المرارة، أجمل صورة:

ونبدأ غربتنا من جديد

على أرضنا. يقال الرحى لا تدور

ولا القوس ترمي .

ويأبى السنا أن يعود

ليمسح جفنا بجفن.

يقال أجيناس جنّ، وأخميد

مّزق عضوا فعضوا. يقال القبور

تغصّ بأحرارنا، والحقول

موات . يقال ... وحكامنا

رعاة خنازير.

لا ! لا !

سنبدأ غربتنا من جديد

وعودتنا. ضياع الغريب

على أرضه ضياع أمرُّ

به لا يرجّى رجاء

(بأوديس)

يُرْجَى. سنرفع هاماتنا للسماء

ونحمل راياتنا

ونمشي . ويهرع كّل إلينا

ويبسم طفل:

حياة فنحيا.(28)

فما أراده يوسف الخال، وجعله عنوانا لإرادته وطموحه، وتكثيفا لتجربته الشعرية، منذ أن ولج في أول خطوة عالم الشعر، ذلك الاقتباس من(أوديسة هوميروس) كان قد تحقق عبر هذه الرحلة:

"أين ذاهب أنت، أيها التعس!

شاردا فوق هذه التلال،

وغريبا في هذا القفر من الأرض،

ووحيدا...

هو ذا شعبك!

داخل الجدران حبيسا

كقطيع من الخنازير...

... ماذا؟

أذاهب إليهم أنت،

لتطلق سراحهم،

وتجعلهم أحرارا ؟"(29)

إن هذا الاقتباس/العتبة الذي وضعه الشاعر في صدر ديوانه الأول"الحرية" يوازي أو يمثل إرادة الخال للرحيل والبحث عن النصر، وإرهاصا لما ستؤول إليه هذه الرحلة، فإن شيئا لم يتحقق في هذه الرحلة الشاقة عبر الشعر والبحر، إلا إرهاص "العودة الخاسرة" ليفتش عن الطمأنينة و"البعث" في وطنه، فبعد كل هذا العناء من دوار البحر  فأنه لم يطلق سراح شعبه، ولم يصل بهم إلى ضفاف الانتصار والحرية، وكذلك فأن هذه الرحلة لم تجعل الصدمة المدمرة لكابوس المفازة أن تندمل؛ فإذا ما أريد "للبعث" أن يتحقق فعلا، فينبغي أن يكون هناك "الله/المسيح"؛ وهو موضوع القراءة القادمة.

 

د. رياض الناصري

...........................

الهوامش

1- الأعمال الشعرية الكاملة، ص 218 .

2- الأعمال الشعرية الكاملة، ص 201 وما بعدها .

3- ينظر: تعليم الطلاب التفكير الناقد، شيت مايرز، ترجمة:عزمي جرّار، مركز الكتب الأردني، 1993، ص8.

4- الأعمال الشعرية الكاملة، ص206 .

5- شعرنا الحديث إلى أين ؟، ص136وما بعدها .

6- الأعمال الشعرية الكاملة، ص214 وما بعدها .

7- الأعمال الشعرية الكاملة، ص221وما بعدها .

8- الأعمال الشعرية الكاملة، ص238 .

9- ينظر: النار والجوهر، ص46 وما بعدها .

10- ينظر: قصائد مختارة، ص11 .

11- ينظر: قصائد مختارة، ص18 .

12- الأعمال الشعرية الكاملة، ص228 وما بعدها .

13- يوسف الخال من البئر المهجورة إلى قصائد في الأربعين، علي الجندي، مجلة الأديب، لبنان،ع يونيو1961، ص26.

14- الأعمال الشعرية الكاملة، ص234 .

15- الأعمال الشعرية الكاملة، ص232 وما بعدها .

16- ينظر:مسيحية المنطق وعبثية الإيمان، ص99.

17- الأعمال الشعرية الكاملة، ص306 وما بعدها.

18- مختارات من النقد الأدبي المعاصر، د.رشاد رشدي، مكتبة الإنجلو المصرية، بدون ط أو ت. ص1.

19- ينظر: قصائد مختارة، ص19 .

20- نفسه، ص20، وما بعدها .

21- الأعمال الشعرية الكاملة، ص234 .

22- الأعمال الشعرية الكاملة، ص251، وما بعدها .

23- نفسه، ص321.

24- ينظر: قصائد مختارة، ص14.

25- اتجاهات جديدة في الشعر الإنكليزي، ف. ر. ليفز. ترجمة:عبد 26- الستار جواد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987، ص12.

27- ينظر: البئر المهجورة ليوسف الخال، ص141 .

28- الأعمال الشعرية الكاملة، ص332 وما بعدها.

29- الأعمال الشعرية الكاملة، ص334 وما بعدها.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم