صحيفة المثقف

سجدة الشعر

عبد الله اسكندر المالكيالحروف ليست بدعاً في التراث العربي فقد استعملها العرب في نثرهم وشعرهم حيث إن طباعهم تميل إلى الايجاز والاختصار في التعبير عن مقاصدهم وقد نسب إلى الوليد بن عقبة قوله:

قلت لها قفي فقالت قاف… لا تحسبينا قد نسينا الايجاف

وقاف يعني وقفت، وقال آخر:

نادوهم ألا ألجموا ألا تا… قالوا جميعاً كلهم ألا فا

وهنا أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا، وقال زهير:

بالخير خيرات وإن شراً فشر… ولا أريد الشر إلا أن تا

وأراد هنا وإن شراً فشر إلا أن تشاء.

ونجد أن الحروف ظاهرة في قصيدة لامرئ القيس يقول فيها:

فكم كم وكم كم ثم كم كم وكم وكم… قطعت الفيافي والمهامة لم أمل

وكاف وكفكاف وكفي بكفها… وكافي كفوف الماء من كفها انهمل

هذا ويستمر في ذكر كثير من الحروف على هذه الطريقة علماً أن هناك بعض الأبيات التي لا تتناسب مع نوعية المقال لذا أعرضنا عنها.

ولما كانت الحروف المقطعة مستعملة في أشعارهم وخطبهم كان لا بد للقرآن الكريم أن يتحداهم بما ألفوه في لسانهم وكأنه يقول إن اللغة التي تتكلمون بها مكونة من نفس الحروف التي نزل بها القرآن الكريم، فهلا استطعتم مجاراته والمجيء بمثله أو بحديث مثله على أقل تقدير، لأن اللغة لا يحيط بمقاصدها إلا من يملك سعة الفهم بها. من هنا نعلم أن أساتذة البلاغة وفصحاء اللسان كان لديهم علم اليقين أن هذا الكتاب هو من عند الله تعالى لذا آثروا الصمت دون المحاولة أو بذل الجهد في أن يأتوا ولو بسورة واحدة من مثله.

ولا يمكن أن يكون صمتهم هذا بسبب الصرفة كما يدعي بعضهم علماً أن التحدي لا يزال قائماً إلى اليوم وصدق الله تعالى حيث يقول: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) الإسراء 88. من هنا يظهر التحدي في استعمال القرآن الكريم لهذه الحروف، فكأنه يقول إن الصنعة التي بيننا مكونة من نفس هذه المادة، فهلا جئتم بكلام من مثل القرآن الكريم، أو من مثل النبي الأمي (صلى الله عليه وسلم) وقد بين الله تعالى ذلك في قوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين) البقرة 23. وهذا التحدي الذي أشار إليه القرآن الكريم من خلال الحروف المقطعة نجده قد تكرر في تسع وعشرين سورة. وقد جمع العلماء هذه الحروف بعد حذف المكرر منها في جملة مفيدة وهي: نص حكيم قاطع له سر.

من هنا نستطيع القول إن الله تعالى أنزل القرآن الكريم على غرار ما هو مألوف عند العرب في ديوانهم المتضمن لجميع أنواع الشعر التي يتفنن بها الشعراء بين الرجز والهزج والمقبوض والمبسوط إضافة إلى تصوير حياتهم وما يحدث بينهم من حروب وغزوات وصولاً إلى علاقاتهم الخاصة وجلساتهم التي يتفاخرون بها بالنفس أو القبيلة وما إلى غير ذلك، وقد جُمعت أشعارهم وسيرهم في هذا الديوان الذي نزل القرآن على غراره وزيادة، وهذا ما يفهم من اشتمال الأول على القصائد والثاني على السور، وتتكون القصائد من الأبيات فيما تتألف السور من الآيات، وتسمى نهاية الأبيات بـ "القوافي" ويطلق على نهاية الآيات "الفواصل". فإن قيل: ما هي الزيادة التي تفرق بين القرآن الكريم والشعر؟ أقول: تكمن الزيادة في مجموعة من النقاط أهمها:

أولاً: المبالغة في الخيال الشعري: وهذا يتعلق بشيء من عدم الصدق الذي لولاه لما كان للكلام أن يصل إلى ملامسة القلب على الوجه الذي يريده الشاعر، وقد وجد هذا الضرب من الخيال في القرآن الكريم، إلا أن قياساته تبنى على الأمثال التي يتلقاها الإنسان عن طريق المخيلة التي تجعله يقوم بتحليل الكلام على ما يحاكي عصره دون النظر إلى المستجدات الخافية التي يقررها العصر اللاحق بدرجات تفهم من خلال المقتضيات الآنية التي ترتبط في مقام الكلام والنسب المتفاوتة التي يحتملها، كما هو الحال في تعليم الأسماء لآدم "عليه السلام" أو الرحلة التي قام بها موسى مع العبد الصالح، وكذا في متفرقات القرآن التي يمكن أن تكون أقرب إلى المثل المقرر في سياقه الذي يشتمل على الأبعاد الحادثة أو التي تظهر في كل وقت، كما في قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين***فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) الأعراف 189- 190.

من هنا يظهر الفرق بين الكلام الذي جاء به القرآن الكريم وبين المباني الشعرية الخاضعة إلى تحكم النفس البشرية، أو مقتضى الحال الذي يمر به الشاعر الذي يُحسّن القبيح أحياناً أو العكس، إضافة إلى المصالح الخاصة ورثاء الأهل والثناء على أصحاب الشأن وهكذا، ولهذا كان الاهتمام بفلسفة الشعر يأخذ الجوانب الإيجابية في تبيان الحقائق التي يعجز عن فهمها من كان بعيداً عن الذائقة الشعرية، أو عن دراسة أحوال العرب قبل نزول القرآن الكريم، وأنت خبير من أن بعد المسافة الزمنية تجعل التنقيب عن المعنى الشعري لا يرقى إلى المستوى الحقيقي، ما لم يكن هناك شرحاً وافياً للكلام أو تحليله فلسفياً من قبل أصحاب الذوق الرفيع، أو ما يعبر عنهم بأصحاب الصنعة الشعرية، ومن الأمثلة على ما نحن بصدده، هو ما قيل إن الفرزدق سمع إلى رجل ينشد معلقة لبيد بن ربيعة التي يقول في أولها:

عفت الديار محلها فمقامها… بمنًى تأبد غولها فرجامها

حتى وصل إلى البيت الثامن الذي يقول فيه:

وجلا السيول عن الطلول كأنها… زبر تجد متونها أقلامها

فما كان من الفرزدق إلا أن يسجد عند سماع هذا البيت، فقيل له ما هذا؟ فقال أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر. وبناءً على ما تقدم يظهر أن المدح والرثاء أو الهجاء مثلاً لا يستقيم إلا إذا تنازل الشاعر عن الصدق الذي لا سبيل له عند أرباب هذه الصنعة الذين يحق لهم الدخول في جميع الأودية مما يجعل كلامهم يحتمل التناقض في طياته، فالذي يُمدح اليوم ممكن أن يُذم غداً، والقبيح سيصبح حسناً وهكذا  فالأمر لا يتعدى إلى أكثر من الحالات التي تبنى عليها مصالحهم أو ما يرضي القبائل التي ينتمون إليها، ولذا قال تعالى فيهم: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين***تنزل على كل أفاك أثيم***يلقون السمع وأكثرهم كاذبون***والشعراء يتبعهم الغاوون***ألم تر أنهم في كل واد يهيمون***وأنهم يقولون ما لا يفعلون) الشعراء 221- 226. وكذا قوله: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) يس 69. وقوله تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) الحاقة 41. من هنا يمكن الوصول إلى معرفة الفرق بين القرآن الكريم وبين الشعر، فالأول ملاكه الصدق والثاني يعتمد على الخيال والمفاخرة والانتقال من واد إلى آخر تبعاً للحياة التي تعيشها القبائل آنذاك. فإن قيل: ألا يعتبر هذا الطرح تقليلاً من شأن الأدب العربي؟ أقول: أنا أتكلم عن المتن الشعري دون التقليل من البلاغة التي لولا الاعتراف بها لما ظهرت درجات التحدي بينها وبين القرآن الكريم.

ثانياً: اختلاف القواعد الشعرية مع القرآن: ومن الأمثلة على ذلك ما نجده في معلقة امرئ القيس التي يقول فيها:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل… بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فقد قيل إن امرئ القيس كان يخاطب صاحبه بصيغة المثنى لأسباب تتعلق بالضرورة الشعرية أو النسق الذي يتحكم في فحوى الكلام ومقامه، وما قيل إنه خاطب الكلب والبعير فلا يعول عليه في مواقف تحتاج إلى البكاء على الأطلال، أما ما ذكره عنترة عن حصانه فذاك شأن آخر، ولهذا أراد جمع من المحققين أن يجعلوا من هذه القاعدة دليلاً على خطاب القرآن للاثنين وإرادة الواحد أو العكس، أو التكلم عن الجماعة وإرادة الواحد، وهذه القاعدة وإن كانت تتطابق مع صحة اللفظ إلا أن المعنى الخارجي لها لا يتناسب مع أجواء القرآن الكريم، ومن أمثلتهم على ذلك، قوله تعالى: (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب) ص 21. فظاهر اللفظ هنا يبين أن المتخاصمين مجموعة من الناس، ثم بعد ذلك تغيرت الألفاظ إلى اثنين فقط، وللجمع بين الوجهين يحمل اللفظ على حقيقته لأن الخصم مصدر كالخصومة أو الخصام، ويمكن التعرف على هذا الوجه أكثر من قوله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب) يوسف 18. أي دم كاذب، والمراد هنا مجموع القوم الذين تسوروا المحراب، وقولهم: (لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) ص 22. أي فريقان بغى بعضنا على بعض، أما قوله تعالى: (هذا أخي) ص 23. فهو كلام من يمثل القوم المعتدى عليهم حسب السياق، ولا يوجد في اللفظ ما يدل على التكلم عن الواحد وارادة الاثنين أو الجمع، وهذا كقوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم) الحج 19. فالمراد هنا إشارة إلى الفريقين لا إلى شخصين بعينهما، وما يبين ذلك أكثر تجده في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) الحجرات 9. فقوله تعالى "طائفتان" إشارة إلى الفريقين أما عند انتقال الآية إلى قوله "اقتتلوا" فهذا بيان إلى دخول مجموع أفرادهما في القتال، وهذا باب واسع في القرآن الكريم يحتاج إلى تأمل.

 

عبد الله اسكندر المالكي

.....................

من كتابي: القادم على غير مثال

رابط قناتي على اليوتيوب…https://www.youtube.com/channel/UCKySYHgSfl5G4DSHGE31EOw?view_as=subscriber

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم