صحيفة المثقف

كربلاء والكاثرسسز (التطهير)

رحيم الساعديأول سماع لي لمصطلح التطهير كان أثناء تدريس أستاذتي أ.اميمة الشواف مطلع التسعينيات في جامعة بغداد. وحديثي عن التطهير هنا بوصفه وسيلة مشاعرية يتبناها من يحتاجها، فهي حاجة إنسانية، تقوم بتنقية الجذور وتؤدي غرضا نفسيا، يتحول إلى فهم فكري واجتماعي، يبنى على مادة تاريخية وينحت بناء مستقبليا.

وفي موسوعة اكسفورد يفهم من مصطلح katharsis انه التنفيس، وهو مشتق من الجذر اليوناني لكلمة katharos، والتي تعني نظيف، غير متسخ، أو واضح. و يشيرالى تنقية أو تطهير العواطف الـ(خاصة بالشفقة والخوف) من خلال الفن في المقام الأول... يقول أرسطو أن الغرض من المأساة هو إثارة "الرعب والشفقة" وبالتالي التأثير على تنفيس هذه المشاعر.

ان أرسطو أول من طرح التطهير بمعنى الانفعال الذي يحرر من المشاعر الضارة، وذلك في كتبه: ” فن الشعر وقد حدده كغاية للتراجيديا من حيث تأثيرها الطبي والتربوي على الفرد والمواطن. فقد ربط أرسطو بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي للبطل، وأعتبر أن التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج مما يحرره من أهوائه.

ويقارن أرسطو جزئيًا التأثيرات العقلية للكاثارسز الموسيقي بالكاثرسز الطبية والطقوسية، لكنه مع ذلك يحافظ على الكاثرسز الموسيقية مستقلة، ويدمج ردود الفعل المعرفية والعاطفية والأخلاقية المأساوية في المتعة الخاصة للمأساة وهي تدخل بصميم نظرية المحاكاة الأرسطية

وما طرحه أرسطو حول الكاثارسز أثار الفلاسفة وعلماء النفس ونقاد الأدب على حدسواء لعدة قرون، وقالوا ان الكاثرسز ليس تجربة للجمهور بل هي خاصيةللمسرحية من اجل الشعور أو اللذة. وأول من أعاد النظر بمفهوم التطهير من خلال ربطه بأصوله الطقسية، وطرح العلاقة بين التطهير والطقس، هو الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه.

وعرفت الشعوب القديمة التطهير من خلال طقوسها، وغالبا ما تكون تلك الطقوس جماعية وهدفها (تطمين حالة روحية لأناسها وطرد الأرواح الشريرة وتحقيق الشفاء الجسدي والروحي وربط الأفراد بالميتافيزيقا العلوية. وكان التطهير لدى الشعوب بتنوعات مختلفة منها ما يخص الإفراد أو الطبقة المتوسطة أو النخبة أو رجال الدين فعند النظر إلى المجتمع العراقي أو المصري أو الصيني أو الهندي القديم نجد ان رجال الدين يبحثون عن تطهير يوصلهم إلى النرفانا، اما عوام الناس فان التطهير هو عملية ربطهم بالغيب الذي يقره المعبد.

وما نلاحظه في أوربا بزمن الملكيات، نجد ان رجال الكهنوت ارتكنوا إلى جانب الرهبنة واستسلمت الطبقة الفقيرة أو عامة الناس إلى التطهير من خلال الاعتراف وتبادل الأدب الشعبي التراجيدي أو الاستماع إلى القص والأدب والنص الديني، في حين ان الطبقة الوسطى عمدت إلى التطهير من خلال ممارسة ثقافات مختلفة منها الموسيقى والمسرحية وغيرها. إن التطهير يعني فيما تقدم التحرر،النشوة،الانعتاق، اللذة،الحرية، التكثيف...الخ ,.

وعند التعريج على تراجيديا التاريخ الأكثر إثارة (كربلاء) سنجد ان التطهير يستهدف عددا من المعاني منها : الشعور بالإخلاص والخلاص، الحرية، الهدفية، الاقتراب من المثال، المحبة، التودد، وهو حالة تنفيس لتطهير جذور الإفراد تتوزع على محاور منها (البكاء، الحزن، العبرة، العبرة، الترقق، استحضار حادثة البطل المضحي، إضافة مادة متخيلة على بعض تفاصيل واقعة كربلاء).

إن التطهير الذي نلمسه في واقعة الطف بالرغم من تلفعه بالجانب المأساوي فهو لا يقف على الخوف والمأساة واستذكار عملية العنف التي وجهت ضد البطل الكامل، بل يبرز الجانب التطهيري الذي يبنى على مفهوم المحبة، فالحب يتعلق بالحدث التاريخي، بمعنى ان المحاكاة في الطف تعاد دائما، وتتكرر بوصفها حادثة طرقت باستمرار ولا تمثل بناء سرديا لا يرتبط بالواقع فهي واقعية تتكرر، وهذا الأمر قد يحيلها إلى قصة روتينية معادة لولا العناصر التي تحملها بوصفها كينونة فيها خصائص مترابطة بالرغم من كثير من الزوائد الطقوسية التي طرأت عليها، وهذه الكينونة، تؤثر على صيرورة الناس (اقصد الطقس الديني) الذي يتحرك لاستخراج مشاعر الناس بشكل جماعي وببث سماوي (اقصد الاتفاق على زمن يجتمع فيه المحبون للاستذكار، وممارسة الطقس وهو أشبه بمواقيت الحج أو شهر رمضان).

انا قلت سابقا ان واقعة الطف تتألف من عقل ومشاعر، وكنت أقدم المشاعر أولا والعقل ثانيا (لا استثنيه، لكني أضع العقل ثانيا)، ومن يقود مسالة كربلاء هي المشاعر العليا وليست أي مشاعر، وهي السر الميتافيزيقي الذي بلغه النبي الأكرم خاتم الأنبياء والرسل، فهو يوصف بحبيب الله.

ان التطهير في الطف هو حالة تنقية روحية وإنسانية لكل من الفرد والمجتمع، وقد لا أقارنها بصورة الذين قتلوا أنفسهم في السرد القرآني، ولكنها تمثل تطهيرا للجانب الإنساني الفردي والعام، وقد يصحو الناس من حالة التطهير والتي تمثل يوتوبيا مثالية لأيام معدودة، فيعودون إلى واقع الصراع فيما بينهم، لكنهم مع هذا يجددون التطهير في سنة مقبل، وهو أفضل من تراكم الشر أو الإحزان أو الحرام أو السوء أوالألم أو الخيبة وسواها على أفق الذات الإنسانية، فهناك مواسم تقوم بمسح أثقالمؤلمة على الفرد.

وقد يكون السؤال: لماذا لا يستمر الناس على جانبهم المثالي، والجواب انهم على الأقل يقومون بتأخير السوء، وهناك من أفراد المجتمع يستثمر تطهيرا مختلفا من نوع آخر، وهي تطهيرات وتنفيسات كثيرة، يعرفها أصحابها، أساسها تضييع الوقت ربما بكرة قدم أو انترنت أو محرمات أو العاب الكترونية، وكلها وسواها تطهيرات وهمية لا اثر لها لراحة النفس لأنها لا تقترب كثيرا من المشاعر، ولا تقود إلى راحة النفس، وهي فردية غالبا ولا هدف نبيل لديها.

إن حالة التطهير في حادثة كربلاء تمثل (التطهير النبيل)، وهي جماعية تساعد على إدامة الرحمة بين أفراد المجتمع وتقوم بتأخير السوء، وهي أطول عملية تطهير في التاريخ الإنساني، لبلوغ زمنها مئات السنوات، وهي تستند إلى سرد خصب وله وجود واقعي، وابرز آليات ذلك التطهير هو البكاء، الذي يرتبط بغسل أدران النفس وينفس عن الأمة التي تتعرض إلى حزن وظلم مستمر بفعل التنوعات القاسية للأفعال السياسية والنفسية والاجتماعية على مر التاريخ.

 

الدكتور رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم